المقصد الرابع فی العامّ والخاصّ

حول ما یستدلّ به علی جواز التخصیص والتقیید

حول ما یستدلّ به علی جواز التخصیص والتقیید

منها :‏ ما أفاده سماحة الاُستاذ دام ظلّه فی الدورة السابقة‏ ‏، وحاصله :‏

‏أنّا ذکرنا فی محلّه أنّ عمدة ما یستدلّ به لحجّیة خبر الواحد ـ بل الدلیل‏‎ ‎‏الوحید فیها ـ هو بناء العقلاء الممضی عند الشرع‏ ‏، ولیس للشارع تأسیس أو إعمال‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 505
‏تعبّد فی هذا‏ ‏، ولا یأبی هذا عن تقدیم الخاصّ الخبری علی عموم الکتابی‏ ‏، ولا یکون‏‎ ‎‏فیه أیّ محذور وإن کان سند أحدهما ظنّیاً والآخر قطعیاً‏ ‏؛ لعدم وقوع التعارض بین‏‎ ‎‏السندین حتّی یتخیّل أنّ مقتضی التخصیص‏ ‏، ترجیح ما هو ظنّی السند علی ما هو‏‎ ‎‏قطعی السند‏ ‏، بل اختلافهما فی مقام الدلالة‏ ‏، وواضح أنّ کلاًّ منهما ظنّی المفاد‏ ‏، مع‏‎ ‎‏أظهریة الخاصّ أو المقیّد الخبری فی مفاده علی العموم أو الإطلاق الکتابی‏ ‏،‏‎ ‎‏وقد أشرنا غیر مرّة إلی أنّ التخالف بین العامّ والخاصّ وکذا بین المطلق والمقیّد ـ فی‏‎ ‎‏محیط التقنین ـ لا یعدّ مخالفة‏ ‏، ولذا یقول الله تعالی فی حقّ القرآن الکریم :‏‏«‏وَلَوْ کَانَ‎ ‎مِنْ عِنْدِ غَیْرِ الله ِ لَوَجَدُوا فِیهِ اخْتِلاَفَاً کَثِیرَاً‏»‏‎[1]‎‏ مع وجود التخالف فی القرآن بالعموم‏‎ ‎‏والخصوص‏ ‏، والإطلاق والتقیید کثیراً‏ ‏، فیستفاد منه بوضوح أنّه لا یعدّ التخصیص‏‎ ‎‏أو التقیید‏ ‏، اختلافاً وتناقضاً فی محیط التقنین‏ ‏، ولذا یخصّص العامّ أو المطلق المتواترین‏‎ ‎‏بخبر الواحد‏ ‏، مع اشتراکهما مع القرآن الکریم فی القطعیة‏ .

‏وبالجملة : إنّ التعارض بین العموم والخصوص والمطلق والمقیّد‏ ‏، لا یکون‏‎ ‎‏تعارضاً حقیقیاً فی محیط التقنین‏ ‏، فلا یعمّهما ما ورد‏‎[2]‎‏ من قوله ‏‏علیه السلام‏‏ : «‏ما لم یوافق‎ ‎من الحدیث القرآن فهو زخرف‏» أو «‏باطل» ‏، أو یجب طرحه‏ ‏، أو ضربه علی الجدار‏ ‏،‏‎ ‎‏أو أنّه لم یقله المعصوم ‏‏علیه السلام‏ . . ‏. إلی غیر ذلک من التعابیر‏ ‏، ولذا نری وجود مخصّصات‏‎ ‎‏أو مقیّدات فی نفس الآیات من غیر نکیر‏ ‏، مع تصریح القرآن الکریم بعدم وجود‏‎ ‎‏الاختلاف فیه‏ ‏، ولیس هذا إلاّ لأجل عدم عدّ التخصیص أو التقیید‏ ‏، اختلافاً وتناقضاً‏‎ ‎‏فی محیط التقنین وإن کان بینهما تعارض وتخالف فی غیر محیط التقنین‏ ‏، ضرورة‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 506
‏أنّ نقیض الموجبة الکلّیة السالبة الجزئیة‏ .

‏وبالجملة أنّ التنافی المتوهّم بینهما بدواً‏ ‏، إنّما هو بین دلالة عموم الکتاب أو‏‎ ‎‏إطلاقه‏ ‏، وبین دلالة الخبر‏ ‏؛ ضرورة تنافی الموجبة الکلّیة مع السالبة الجزئیة‏ ‏، إلاّ أنّه‏‎ ‎‏قد تعارف التخصیص والتقیید فی محیط التقنین‏ ‏؛ بحیث قیل : «ما من عامّ إلاّ‏‎ ‎‏وقد خصّ» و«ما من مطلق إلاّ وقد قیّد» فیجمع بینهما بتقدیم الأظهر ـ أی الخاصّ أو‏‎ ‎‏المقیّد فی مفادهما ـ علی الظاهر‏ ‏؛ أی العامّ أو المطلق فی مفادهما‏ ‏، فمرکز توهّم التنافی‏‎ ‎‏إنّما هو بین عموم العامّ والمطلق‏ ‏، وبین مفاد الخبر‏ ‏، فمرجع التنافی لابدّ وأن یکون من‏‎ ‎‏هذه الجهة‏ ‏، وقد أشرنا إلی أنّه یوفّق بینهما بتقدیم الخاصّ أو المقیّد علی العامّ‏‎ ‎‏والمطلق‏ ‏، لأظهریته فی مفاده من ظهور العامّ أو المطلق فی مفاده‏ ‏، فتدبّر‏ .

فإذن‏ لابدّ من إرجاع تلک الأخبار إلی التباین الکلّی‏ ‏، أو العموم من وجه‏ ‏،‏‎ ‎‏فقد کان باب الافتراء والتکذیب من خصماء أئمّة أهل البیت ‏‏علیهم السلام‏‏ مفتوحاً علی‏‎ ‎‏مصراعیه‏ ‏، وکانوا یدسّون فی کتب أصحاب أبی جعفر ‏‏علیه السلام‏‏ کما هو مذکور فی کتب‏‎ ‎‏التراجم والرجال‏ ‏، وغرضهم من هذا ، الحطّ من مقامهم السامی بالأکاذیب والافتراء‏‎ ‎‏علیهم عند الناس‏ ‏، وإعراضهم عن أبوابهم ، بل سدّ أبوابهم ، ففعلوا ما فعلوا وأتوا بما‏‎ ‎‏قدروا ولکن أبی الله إلاّ أن یتمّ نوره ولو کره المشرکون ، ولو کره الکافرون . فالقول‏‎ ‎‏بأنّ الدسّ منهم فی أخبار أئمّة أهل البیت ‏‏علیهم السلام‏‏ لم یکن علی نحو التباین والتناقض أو‏‎ ‎‏العموم من وجه ، فی غیر محلّه .‏

‏ولو شملت تلک الأخبار ، المخالفة بالعموم والخصوص والمطلق والمقیّد لزم عدم‏‎ ‎‏جواز تخصیص أو تقیید العموم أو المطلق الکتابی بالخبر المتواتر ، وهو کما تری .‏

ومنها :‏ استقرار سیرة الأصحاب علی العمل بأخبار الآحاد فی قبال عمومات‏‎ ‎‏الکتاب الکریم من زماننا هذا إلی زمن أئمّة أهل البیت ‏‏علیهم السلام‏‏ والنبی الأعظم ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 507
‏وکان ذلک بمرأی من الشارع الأقدس من دون ردع‏ ‏، وهذا کاشف عن رضاهم‏‎ ‎‏صلوات الله علیهم‏ .

‏واحتمال أن یکون عملهم بالأخبار المخصّصة والمقیّدة للعمومات والمطلقات‏‎ ‎‏الکتابیة بلحاظ القرائن القطعیة الحافّة بها الموجبة للقطع بصدورها‏ ‏، واضح البطلان‏ ‏؛‏‎ ‎‏ضرورة أنّه لو کان عملهم لأجل القرینیة لَبان وظهر‏ ‏؛ لکثرة موارد العمل بها قبال‏‎ ‎‏العمومات والمطلقات مع عدم ظهور القرینة‏ ‏، فیکون من موارد مایقال : «إنّ عدم‏‎ ‎‏الوجدان دلیل قطعی علی عدم الوجود»‏ ‏. فتحصّل : أنّ قیام السیرة المستمرّة الممضاة‏‎ ‎‏علی العمل بتلک الأخبار‏ ‏، لیس لاحتفافها بالقرینة‏ ‏، بل لحجّیة خبر الواحد نفسه‏ ‏، فما‏‎ ‎‏تردّد فی بعض الألسن من الإشکال فی السیرة غیر سدید‏ ‏، بل واضح البطلان کما قیل‏ .

ومنها‏ : أنّه لولا جواز العمل بخبر الواحد قبال عمومات الکتاب ومطلقاته‏ ‏،‏‎ ‎‏للزمت اللغویة فی أدلّة جعل خبر الواحد‏ ‏؛ لندرة وجود خبر لا یخالف عموم الکتاب‏‎ ‎‏أو مطلقه‏ ‏، ولذا صرّح المحقّق الخراسانی‏‎[3]‎‏ بأنّ الخبر غیر المخالف للکتاب‏ ‏، إمّا غیر‏‎ ‎‏موجود‏ ‏، أو نادر ملحق بالعدم‏‎[4]‎ .

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 508

  • )) النساء (4) : 82 .
  • )) راجع وسائل الشیعة 27 : 109 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 9 ، الحدیث 10 ، 11 ، 12 ، 14 ، 15 ، 29 ، 35 ، 37 ، 40 ، 47 ، 48 .
  • )) کفایة الاُصول : 275 .
  • )) قلت: ومنها: ما أفاده بعض الأساطین ـ دام ظلّه ـ وحاصله: أنّه بعد ثبوت حجّیة خبر الواحد شرعاً بدلیل قطعی یکون رفع الید عن عموم الکتاب أو إطلاقه بالخبر، رفعاً للید عنه بالقطع.     وبعبارة اُخری : لا تنافی بین عموم الکتاب أو إطلاقه ، وبین دلالة الخبر ؛ لا من حیث السند ، وهو واضح ، ولا من حیث الدلالة ؛ لتقدّم ظهور القرینة علی ظهور ذیها ، وإنّما التنافی بین دلالة العموم أو الإطلاق ، وبین سند الخبر ، وأدلّة اعتبار السند حاکمة علیها رافعة لموضوعها ؛ وهو الشکّ فی إرادة العموم ، ضرورة أنّه بعد اعتبار سند الخبر ، یکون مبیّناً لما هو المراد من الکتاب فی نفس الأمر والواقع ، فیکون مقدّماً علیه ، وهو واضح . محاضرات فی اُصول الفقه 5 : 310 . [ المقرّر حفظه الله ]