المقصد الرابع فی العامّ والخاصّ

تحدید محلّ النزاع

تحدید محلّ النزاع 

‏ظاهر عناوین القوم أنّ النزاع إنّما هو بعد الفراغ عن اشتمال القضیة علی‏‎ ‎‏المفهوم‏ ‏؛ ووقوع التعارض بین المفهوم وما له المفهوم فی حدّ نفسه‏ ‏، سواء کانت النسبة‏‎ ‎‏بینهما عموماً مطلقاً‏ ‏، کما لو ورد «أکرم کلّ عالم» وورد «إن جاءک زید فلا تهن فسّاق‏‎ ‎‏العلماء» أو کانت النسبة عموماً من وجه‏ ‏، کما لو ورد «أکرم العلماء» وورد «إن جاءک‏‎ ‎‏زید فأکرم الفسّاق»‏ .

‏ولعلّ الوجه فی تعمیم محطّ البحث لصورة کون النسبة بین العامّ والمفهوم عموماً‏‎ ‎‏مطلقاً‏ ‏، أنّ أقوائیة العامّ توجب ضعف اشتمال ظهور القضیة علی المفهوم‏ ‏؛ وإن کان‏‎ ‎‏المفهوم أخصّ مطلقاً من العامّ‏ ‏، وهذا لا ینافی اشتمال القضیة فی حدّ ذاتها علی المفهوم‏ ‏. ‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 476
ولکن یظهر‏ من بعض الأکابر‏‎[1]‎ ‏، وشیخنا العلاّمة الحائری أنّ الکلام فی‏‎ ‎‏تخصیص العامّ بالمفهوم المخالف عند القدماء فی الحقیقة‏ ‏، هو الکلام بین المطلق والمقیّد‏ ‏،‏‎ ‎‏وحکمه ـ بعد إحراز وحدة الحکم ـ هو حمل المطلق علی المقیّد‏ .

‏وقد أوضحه بعض الأکابر ‏‏قدس سره‏‏ بما حاصله : أنّ المستفاد من قوله ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ : «‏خلق‎ ‎الله الماء طهوراً لا ینجّسه شیء إلاّ ما غیّر لونه وطعمه»‎[2]‎ ‏، هو أنّ تمام الموضوع‏‎ ‎‏لعدم التنجّس‏ ‏، هو عنوان الماء‏ ‏، و‏ ‏لادخالة لقید آخر فی هذا الحکم‏ ‏، ویستفاد من‏‎ ‎‏قوله ‏‏علیه السلام‏‏ : «‏إذا بلغ الماء قدر کرّ لا ینجّسه شیء»‎[3]‎ ‏، أنّ الماء بقید الکرّیة موضوع‏‎ ‎‏لعدم التنجّس‏ ‏، ولأجل ذلک یستفاد منه المفهوم‏ ‏، ومفاده أنّ عنوان الماء جزء‏‎ ‎‏الموضوع‏ ‏، وجزؤه الآخر عبارة عن الکرّیة‏ ‏، فالتعارض بین الدلیلین تعارض‏‎ ‎‏الإطلاق والتقیید‏ ‏، وحیث إنّ ظهور القید فی کونه دخیلاً أقوی من ظهور المطلق فی‏‎ ‎‏مفاده‏ ‏، فلا محالة یحمل المطلق علی المقیّد‏‎[4]‎ .

وأنت خبیر‏ : بأنّ ما اُفید خروج عن محطّ البحث وعنوانه بلادلیل‏‎[5]‎ ‏؛ لأنّ محطّ‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 477
‏البحث تعارض العامّ مع ما یشتمل علی المفهوم‏ ‏، ومجرّد دخالة شیء فی حکم غیر‏‎ ‎‏المفهوم‏ ‏؛ لأنّ غایة ما یستفاد من ذکر القید دخالته فی ترتّب الحکم علی الموضوع‏ ‏،‏‎ ‎‏وهذا غیر وافٍ بإثبات الحکم ما لم ینضمّ إلیه کون القید علّة منحصرة‏ ‏، وبعد استفادة‏‎ ‎‏العلّیة المنحصرة یکون له مفهوم‏ ‏؛ وهو فی المثال المذکور : إذا لم یبلغ الماء قدر کرّ‏
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 478
‏ینجّسه کلّ شیء من النجاسات‏ ‏، أو شیء منها‏ ‏؛ علی الاختلاف فی المراد بالمفهوم‏ .

‏وعلی أیّ تقدیر : یکون بین الشرطیة المشتملة علی هذا المعنی فی حدّ نفسها‏‎ ‎‏وبین عموم قوله : «‏خلق الله الماء طهوراً لا ینجّسه شیء‏» ـ لوکان المفرد المعرّف‏‎ ‎‏باللام مفیداً للعموم ـ تعارض‏ .

ولیعلم‏ : أنّ سرّ اختلاف القوم هنا فی تقدیم المفهوم المخالف‏ ‏؛ وأنّه إن استفید‏‎ ‎‏المفهوم من الوضع فکذا‏ ‏، وإن استفید المفهوم من الإطلاق فکذا‏ ‏، مع اتفاقهم فی محلّه‏‎ ‎‏علی تقدیم الخاصّ علی العامّ‏ ‏؛ وأنّ المتعارضین لوکان بینهما عموم من وجه یقدّم ما‏‎ ‎‏هو الأرجح‏ ‏، هو أنّ المعارض للعامّ هنا لیس هو المفهوم‏ ‏، بل ما یکون له مفهوم لو‏‎ ‎‏خلّی وطبعه‏ ‏، کالقضیة الشرطیة‏ ‏، ولذا یختلف الحال فی استفادة المفهوم من القضیة‏‎ ‎‏باختلاف المشارب فی ذلک‏ .

‏وبالجملة : التعارض بین العامّ ودلالة الجملة الشرطیة مثلاً علی الانحصار‏ ‏، لا‏‎ ‎‏بین العامّ والمفهوم الأخصّ أو الأعمّ‏ ‏، نعم ینتج انحصار الشرط مفهوماً یکون أخصّ‏‎ ‎‏من العامّ تارة من وجه‏ ‏، وأعمّ منه من وجه اُخری‏ .

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 479

  • )) قلت : عنی به اُستاذنا الأعظم البروجردی قدس سره . [ المقرّر حفظه الله ]
  • )) المعتبر 1 : 41 ، وسائل الشیعة 1 : 135 ، کتاب الطهارة ، أبواب الماء المطلق ، الباب 1 ، الحدیث 9 .
  • )) راجع وسائل الشیعة 1 : 158 ، کتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق ، الباب 9 ، الحدیث 1 و 2 و 6 .
  • )) لمحات الاُصول : 360 ، نهایة الاُصول : 359 ـ 360 .
  • )) قلت : قد أشرنا إلی ما هو الظاهر من مقالة سماحة الاُستاذ قدس سره ولعلّه قدس سره أراد بیان أنّه کلّما وقع التعارض بین العامّ وما له المفهوم المخالف ـ کالمثالین فی المتن ؛ حیث وقع التعارض بین عدم تنجّس الماء بملاقاة النجاسة مطلقاً ، کما هو مفاد العامّ ، وبین تنجّسه بالملاقاة إذا کان الماء قلیلاً ، کما هومفاد المفهوم ـ فالتعارض أوّلاً وبالذات بین العامّ ومنطوقه ؛ حیث إنّ المستفاد من العامّ أنّ تمام الموضوع لعدم التنجّس ، هو حیثیة المائیة ، والمستفاد من المنطوق أنّ حیثیة المائیة ، جزء الموضوع ، وجزؤه الآخر عنوان الکرّیة ؛ من باب ظهور القید الزائد بما أنّه فعل اختیاری ، فلابدّ من رفع التعارض فی تلک المرحلة ، وواضح أنّ التعارض من باب تعارض المطلق والمقیّد ، وحیث إنّ ظهور القید فی کونه دخیلاً أقوی من ظهور المطلق فی کونه تمام الموضوع ، فلا محالة یحمل المطلق علی المقیّد ، ومقتضاه تقدیم ما له المفهوم علی العامّ ، فعلی هذا لا تکون مقالته قدس سره أجنبیة عن المقام ، وخارجة عن محطّ البحث ، کما أفاده سماحة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ .     والذی یتوجّه علیه قدس سره : هو أنّ غایة ما یقتضیه أخذ القید بما أنّه فعل اختیاری ، دخالته فی ترتّب الحکم علی الموضوع ، وأین هذا من إثبات المفهوم؟! فلابدّ أن ینضمّ إلیه کون القید علّة منحصرة ، والکلام بعد فی ثبوت ما له المفهوم حال المقابلة مع العامّ ؛ وإن کان له مفهوم لوخلّی وطبعه ، فالتعارض بین العامّ ودلالة الجملة الشرطیة ، ولذا یختلف الحال بین استفادة العموم والمفهوم من ناحیة الوضع ، أو مقدّمات الحکمة ، کما سنشیر إلیه ، لا بین العامّ والمفهوم الأخصّ منه أو الأعمّ منه من وجه حتّی یقال : کیف وقع الخلاف هنا فی تقدیم العامّ علی المفهوم المخالف ، مع اتفاقهم علی تقدیم الخاصّ علی العامّ لوکانت النسبة بین الدلیلین عموماً مطلقاً ، وأخذهم بما هو الأرجح لو کانت النسبة بینهما عموماً من وجه؟! نعم مقتضی انحصار القید استفادة المفهوم ، والمفهوم تارة : یکون أخصّ من العامّ ، واُخری : أعمّ .     هذا ما تیسّر لی عجالة فی فهم مقالة سماحة اُستاذنا الأعظم البروجردی قدس سره وإشکال سماحة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ فتدبّر ، والله العالم بحقیقة المقال . [ المقرّر حفظه الله ]