المقصد الرابع فی العامّ والخاصّ

المورد الثانی‏: فیحکم هذه الأقسام

المورد الثانی : فیحکم هذه الأقسام

‏حکی بعضهم ـ فی غیر صورة استفادة المفهوم من الأولویة القطعیة ـ الإجماع‏‎ ‎‏والاتفاق علی تقدیم المفهوم الموافق علی العامّ وتخصیص العامّ به مطلقاً‏ ‏؛ ولو کانت‏‎ ‎‏النسبة بین العامّ والمفهوم‏ ‏، عموماً من وجه‏ .

‏ولکن لا أری اتفاقهم علی التقدیم مطلقاً‏‎[1]‎‏ نعم یکون ذلک فیما لوکان المفهوم‏‎ ‎‏الموافق أخصّ مطلقاً من العامّ‏ ‏، ولعلّ منشأ توهّم الإطلاق إطلاق القول فی تقدیم‏‎ ‎‏المفهوم الموافق علی العامّ‏ ‏، ولم یتفطّن إلی أنّ ذلک إنّما هو حکم المفهوم الأخصّ‏ .

‏وإن أبیت عمّا ذکرنا فلا نتحاشی عن الاتفاق غیر الکاشف عن رأی‏‎ ‎‏المعصوم ‏‏علیه السلام‏‏ لما أشرنا من أنّ الإجماع فی أمثال هذه المسائل ـ علی تقدیر ثبوته ـ‏‎ ‎‏مبنیّ علی القواعد العرفیة والاعتبارات العقلائیة‏ .

‏إذا عرفت هذا فنقول : لوکان المفهوم الموافق أخصّ مطلقاً من العامّ‏ ‏، فواضح‏‎ ‎‏أنّه یقدّم علی العامّ‏ ‏؛ قضاءً لحقّ الدلیلین المتخالفین اللذین یکون أحدهما أخصّ‏‎ ‎‏من الآخر‏ ‏، فکما یقدّم الأخصّ علی العامّ إذا کان منطوقاً‏ ‏، فکذلک إذا کان مفهوماً‏ ‏؛‏‎ ‎‏لوحدة الملاک‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 472
‏وبالجملة : المفهوم الموافق بمنزلة ظاهر دلیل اُلقی إلی الشخص‏ ‏، فکما أنّه‏‎ ‎‏یخصّص العامّ بظاهر دلیل الخاصّ‏ ‏، فکذلک ما هو بمنزلته‏ .

وممّا ذکرنا یظهر‏ حال ما لوکانت النسبة بین المفهوم الموافق والعامّ‏ ‏، عموماً من‏‎ ‎‏وجه‏ ‏، فإنّه یعامل معهما معاملة الدلیلین المتعارضین اللذین یکون بین منطوقیهما عموم‏‎ ‎‏من وجه‏ .

وأمّا لو استفید‏ المفهوم من الأولویة القطعیة‏ ‏، فربما یشکل جریان حکم سائر‏‎ ‎‏أقسام المفهوم الموافق فیه‏ ‏، بل یقدّم المفهوم علی العامّ مطلقاً وإن کانت النسبـة بینهما‏‎ ‎‏عموماً من وجه‏ ‏؛ لأنّه بعد امتناع رفع الید عقلاً عن المفهوم فقط ـ لأدائه إلی التفکیک‏‎ ‎‏بین الملزوم واللازم ـ یدور الأمر بین رفع الید عن العامّ‏ ‏، وبین رفع الید عن المفهوم‏‎ ‎‏والمنطوق‏ ‏، ومعلوم أنّه لا یصار إلی الثانی‏ ‏؛ لأنّه تصرّف فی دلیلین لا یکون لأحدهما‏‎ ‎‏ـ وهو المنطوق ـ مزاحمة مع العامّ‏ ‏، فیتعیّن التصرّف فی العامّ وتخصیصه بغیر مورد‏‎ ‎‏المفهوم‏‎[2]‎ .

وفیه‏ : أنّه إذا کان بین الشیئین تلازم‏ ‏، وکان أحدهما معارضاً لشیء‏ ‏، یکون‏‎ ‎‏التعارض أوّلاً وبالذات بینه وبین ذاک الشیء و‏ ‏بِتَبعِ ذلک یقع التعارض بین ذلک‏‎ ‎‏الشیء وما یکون ملازماً له‏ ‏، ففیما نحن فیه حیث یکون بین المنطوق والمفهوم‏‎ ‎‏ملازمـة‏ ‏، وکان التعارض أوّلاً وبالذات بین المفهوم والعامّ‏ ‏، ولکنّه ثانیاً وبالعرض بین‏‎ ‎‏المنطوق والعامّ‏ ‏، فنفی التعارض بین المنطوق والعامّ لا وجه له‏ ‏، فإذن لو فرض تقدّم‏‎ ‎‏العامّ علـی المفهوم لمرجّح ـ لکونـه أظهر فی عمومـه مـن اشتمال القضیـة علـی‏‎ ‎‏المفهوم ـ لکشف عن عدم تعلّق الحکم بالمنطوق بمقداره‏ ‏؛ لأنّه لولا ذلک للزم التفکیک‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 473
‏بین المتلازمین فظهر أنّ رفع الید عن المنطوق لا یکون بلاوجه‏ .

‏وبالجملة : رفع المحذور کمایمکن بتخصیص العامّ بالمفهوم‏ ‏، کذلک یمکن برفع الید‏‎ ‎‏عن حکم المنطوق والمفهوم‏ ‏، بل المعارضة وإن کانت ابتداءً بین العامّ والمفهوم‏ ‏، ولکن‏‎ ‎‏لمّا کان رفع الید عن اللازم مستلزماً لرفع الید عن ملزومه‏ ‏، یقع التعارض بینهما‏‎ ‎‏عرضاً‏ ‏، فتدبّر‏ .

وقال المحقّق النائینی ‏قدس سره‏‏ ما حاصله : أنّ التعارض دائماً یکون بین المنطوق‏‎ ‎‏والعامّ‏ ‏، ولا یمکن أن یکون المفهوم معارضاً للعامّ من دون معارضة منطوقه‏ ‏؛ لأنّا‏‎ ‎‏فرضنا کون المفهوم موافقاً له‏ ‏، وأنّه سیق للدلالة علیه‏ ‏، ومع هذا کیف یعقل أن یکون‏‎ ‎‏المنطوق أجنبیاً عن العامّ وغیر معارض له‏ ‏، مع کون المفهوم معارضاً له؟! فالتعارض‏‎ ‎‏فی المفهوم إنّما یقع ابتداءً بین المنطوق والعامّ ویتبعه وقوعه بین المفهوم والعامّ‏ ‏.‏‎ ‎‏وبالجملة کلّما فرض التعارض بین المفهوم الموافق والعامّ ، فلا محالة یکون التعارض‏‎ ‎‏بین المنطوق والعامّ ولابدّ أوّلاً من علاج التعارض بین المنطوق والعامّ‏ ‏، ویلزمه العلاج‏‎ ‎‏بین المفهوم والعامّ‏‎[3]‎ .

وفیه‏ : أنّ ما ذکره غیر مستقیم علی إطلاقه‏ ‏؛ لأنّه ربما لا یکون بین المنطوق‏‎ ‎‏والعامّ تعارض أبداً‏ ‏، ولکن یکون بین مفهومه والعامّ تعارض‏ ‏، کقولک : «أکرم خدّام‏‎ ‎‏النحو‏ ‏یین» وفرضنا أولویة إکرام علماء النحو من هذا الدلیل‏ ‏، مع قیام دلیل علی‏‎ ‎‏حرمة إکرام الصرفیین‏ ‏، فإنّ من الواضح أنّه لا تنافی بین الحکم المتعلّق بخدّام‏‎ ‎‏النحویین‏ ‏، وبین الحکم المتعلّق بعدم إکرام الصرفیین‏ ‏؛ حتّی یقع التعارض بینهما‏ ‏، ولکن‏‎ ‎‏مع ذلک فبین مفهومه الموافق ـ وهو وجوب إکرام النحویین ـ وبین «لا تکرم‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 474
‏الصرفیین» عموم من وجه‏ ‏؛ لافتراق المفهوم فی النحوی غیر الصرفی‏ ‏، والعامّ فی‏‎ ‎‏الصرفی غیر النحوی‏ ‏، وقد یجتمعان‏ ‏، کالصرفی النحوی‏ ‏، فالتعارض أوّلاً وبالذات إنّما‏‎ ‎‏هو بین المفهوم والعامّ‏ ‏. نعم‏ ‏، یقع التعارض ثانیاً وبالعرض بین المنطوق والعامّ أیضاً‏ ‏؛‏‎ ‎‏بلحاظ أنّه إذا قدّم العامّ علی المفهوم‏ ‏، ترفع الید عن المنطوق بمقداره‏ ‏، فلابدّ من علاج‏‎ ‎‏التعارض بینهما؛ لکون التعارض فیه أوّلاً وبالذات، وهو هنا عبارة عن المفهوم والعامّ.‏

‏فظهر : أنّ قوله ‏‏قدس سره‏‏ : «إنّ التعارض دائماً بین المنطوق والعامّ» غیر وجیه‏ ‏، بل ربما‏‎ ‎‏لا یکون بین العامّ والمنطوق تعارض أصلاً ولوعرضاً‏ ‏، مع معارضة مفهومه له‏ ‏، کقوله‏‎ ‎‏تعالی :‏‏«‏وَ لاَتَقُلْ لَهُمَا اُفٍّ‏»‏‎[4]‎ ‏، علی تقدیر کون المنطوق معنی کنائیاً‏ ‏، فلم یثبت‏‎ ‎‏الحکم للمنطوق حسب الفرض‏ ‏، فإن کان عموم علی خلاف المعنی المکنیّ به‏ ‏، یقع‏‎ ‎‏التعارض بین العامّ والمفهوم‏ ‏، وأمّا المنطوق فحیث إنّه لم یثبت فیه حکم‏ ‏، فلا یقع‏‎ ‎‏التعارض بینه وبین العامّ أصلاً‏ ‏. هذا إذا لم یکن بین المنطوق والعامّ تعارض‏ ‏، بل کان‏‎ ‎‏التعارض مقصوراً علی المفهوم والعامّ‏ .

وأمّا إذا کان‏ بین المنطوق والعامّ تعارض بالذات‏ ‏، فإن کان المنطوق أخصّ‏‎ ‎‏مطلقاً فیقدّم‏ ‏، ویتبعه تقدّم المفهوم علی العامّ أیضاً مطلقاً ولو فیما إذا کانت النسبة بین‏‎ ‎‏المفهوم والعامّ‏ ‏، عموماً من وجه‏ .

‏والسرّ فی ذلک : هو أنّ المفهوم لازم للمنطوق بحکم العقل‏ ‏، فلا یعقل التفکیک‏‎ ‎‏بینهما وجوداً‏ ‏، فإذا تقدّم المنطوق الخاصّ علی العامّ ببناء العقلاء وتقدّم الخاصّ فی‏‎ ‎‏محیط التقنین علی العامّ‏ ‏، فلابدّ وأن یقدّم المفهوم أیضاً‏ ‏، وإلاّ یلزم التفکیک‏‎ ‎‏بین المتلازمین‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 475
‏وبالجملة : لو لم یقدّم المفهوم علی هذا التقدیر علی العامّ‏ ‏، یلزم أحد أمرین! إمّا‏‎ ‎‏التفکیک بین المتلازمین لوخصّصنا العامّ بالمنطوق دون المفهوم‏ ‏، أو عدم تقدیم الأخصّ‏‎ ‎‏المطلق علی العامّ إذا لم یخصّصه بالمنطوق أیضاً‏ ‏، والأوّل محال عقلاً‏ ‏، والثانی مخالف‏‎ ‎‏لبناء العقلاء‏ ‏، ومخالف لما هو ثابت فی محیط التقنین من تقدیم الخاصّ علی العامّ‏ ‏،‏‎ ‎‏فیجب تقدیم المفهوم علی العامّ بتبع تقدّم المنطوق‏ .

وأمّا إذا کانت‏ النسبة بین العامّ والمنطوق عموماً من وجه‏ ‏، فإن رجح جانب‏‎ ‎‏العامّ فلاکلام‏ ‏، وأمّا إن رجح جانب المنطوق فیقدّم مفهومه علی العامّ أیضاً حتّی وإن‏‎ ‎‏کانت النسبة بین المفهوم والعامّ‏ ‏، عموماً من وجه‏ ‏، وکان الترجیح بملاحظة المفهوم‏‎ ‎‏للعامّ‏ ‏، والوجه فیه ما ذکرناه فی تقدیم مفهوم الأخصّ المطلق‏ ‏، فتدبّر‏ .

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 476

  • )) قلت : وقد صرّح اُستاذنا الأعظم البروجردی ـ کما فی نهایة الاُصول ـ : بأنّ دعوی الاتفاق فی مفهوم الموافقة بلا وجه ؛ فإنّه یستفاد من کلام العضدی أنّ المسألة خلافیة . ثمّ صـرّح بأنّ الاتفاق فـی أمثال هـذه المسائل لا یستکشف منـه قـول المعصـوم علیه السلامفلا حجّیة فیه(أ) . [ المقرّر حفظه الله ]     أ ـ نهایة الاُصول : 359 .
  • )) أجود التقریرات 1 : 0500
  • )) فوائد الاُصول 1 : 556 .
  • )) الإسراء (17) : 23 .