المقصد الرابع فی العامّ والخاصّ

حول الاستدلال للزوم الفحص بالعلم الإجمالی

حول الاستدلال للزوم الفحص بالعلم الإجمالی 

‏ربما یستدلّ للزوم الفحص بالعلم الإجمالی‏ ‏؛ بتقریب أنّ من راجع الکتب‏‎ ‎‏والجوامع الحدیثیة الموجودة بأیدینا‏ ‏، یعلم إجمالاً بطروّ مخصّصات ومقیّدات علی‏‎ ‎‏العمومات والمطلقات الواردة فی الکتاب والسنّة ومقتضی هذا العلم الإجمالی لزوم‏‎ ‎‏الاحتیاط قبل الفحص‏‎[1]‎ .

ولکن اُورد‏ علی هذا التقریب : بأعمّیة الدلیل من المدعی من جهة‏ ‏، وبأخصّیته‏‎ ‎‏منها من جهة اُخری‏‎[2]‎‏ :‏

‏أمّا الأعمّیة فحاصلها : أنّ المدعی هو الاحتیاط قبل الفحص فیما بأیدینا من‏‎ ‎‏الکتب والجوامع الحدیثیة‏ ‏، وأمّا بعد الفحص فیها فیجوز العمل بالعمومات‏‎ ‎‏والمطلقات‏ ‏، وطریقة أصحابنا الإمامیة رضوان الله علیهم وبناؤهم ـ خلفاً عن سلف‏ ‏ـ‏‎ ‎‏علی هذا‏ ‏، فإنّهم یحتاطون ولا یتمسّکون بالعمومات والمطلقات قبل الفحص فیما‏‎ ‎‏بأیدیهم من الکتب والجوامع الحدیثیة‏ ‏، وأمّا بعد الفحص عنهما وعدم الظفر بالمخصّص‏‎ ‎‏أو المقیّد‏ ‏، فلا یزالون یتمسّکون بهما‏ ‏، ومقتضی التقریب المتقدّم هو الاحتیاط مطلقاً‏ ‏؛‏‎ ‎‏قبل الفحص فیها‏ ‏، وبعده لأنّ المخصّصات والمقیّدات المعلوم وجودها‏ ‏، لا تنحصر فیما‏‎ ‎‏بأیدینا من الکتب والجوامع الحدیثیة‏ ‏، بل لعلّ کثیراً منها لم یصل إلینا‏ ‏؛ لفقد بعض‏‎ ‎‏الجوامع الحدیثیة الأوّلیة باحتراق مثل مکتبة شابور فی بغداد وغیرها‏ .

‏وبالجملة : الاُصول والکتب المدوّنة الحدیثیة فی عهد الصادقین ‏‏علیهماالسلام‏‏ کانت‏‎ ‎‏محتویة علی مخصّصات ومقیّدات کثیرة‏ ‏، وقد أخفتها وأعدمتها الأیادی الخبیثة‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 439
‏واللئیمة‏ ‏، ومقتضی ذلک عدم انحلال العلم الإجمالی بالفحص فیما بأیدینا‏ ‏، بل یلزم‏‎ ‎‏الاحتیاط بعد ذلک أیضاً‏ ‏، مع أنّ بناء الأصحاب ـ قدیماً وحدیثاً‏ ‏، خلفاً عن سلف ـ‏‎ ‎‏علی عدم الاحتیاط بعد الفحص فیها‏ ‏، فیستکشف من ذلک أنّ وجه لزوم الفحص‏‎ ‎‏لیس العلم الإجمالی‏ ‏، بل غیره‏ .

‏وبعبارة أوضح : لا ینحصر العلم الإجمالی بوجود مخصّصات ومقیّدات صادرة‏‎ ‎‏عن الشارع وأئمّة أهل البیت ‏‏علیهم السلام‏‏ فی خصوص ما بأیدینا من الأخبار‏ ‏، وهذا یوجب‏‎ ‎‏عدم انحلال العلم الإجمالی بالفحص فیما بأیدینا من الجوامع الحدیثیة وإن بلغ‏‎ ‎‏الفحص ما بلغ‏ .

‏وأمّا الأخصّیة من المدعی فحاصلها : أنّ من الواضح أنّ طریقة الأصحاب‏‎ ‎‏وبناءهم من الصدر إلی زماننا‏ ‏، علی الفحص حتّی فیما لم یکن هناک علم إجمالی‏ ‏،‏‎ ‎‏فتراهم إذا ظفروا بمقدار متیقّن من المخصّصات والمقیّدات‏ ‏، ومع ذلک بناؤهم علی‏‎ ‎‏الفحص عند کلّ شبهة إذا کان العامّ أو المطلق‏ ‏، معرضاً للتخصیص أو التقیید‏ ‏؛ بأن‏‎ ‎‏کان طروّهما لهما عقلائیاً‏ ‏، فلو کان العلم الإجمالی دلیلاً علی الفحص‏ ‏، لکان ینبغی‏‎ ‎‏الأخذ بالعامّ أو المطلق بلافحص عند ذلک‏ .

‏فحاصل الإشکال : أنّه لا ینبغی أن یعدّ العلم الإجمالی دلیلاً علی لزوم الفحص‏‎ ‎‏عن المخصّصات أو المقیّدات؛ لأعمّیته من المدعی فی وجه‏ ‏، وأخصّیته منها فی وجه آخر.‏

أقول : یمکن الجواب عن إشکال الأعمّیة : ‏بأنّه لاعلم بفقدان وضیاع الاُصول‏‎ ‎‏والجوامع الحدیثیة‏ ‏، فلعلّ المحترق فی مکتبة شابور وغیرها‏ ‏، لم یکن من الکتب‏‎ ‎‏الحدیثیة‏ ‏. ولو سلّم کونها من الکتب الحدیثیة‏ ‏، ولکن لم یعلم أنّ المفقود منها غیر‏‎ ‎‏موجود فی مصادر الکتب الحدیثیة التی بأیدینا‏ ‏، فضلاً عن کونها متضمّنة للأحکام ،‏‎ ‎‏وفضلاً عن کونها مشتملة علی مخصّصات أو مقیّدات غیر موجودة فیما بأیدینا‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 440
‏ولو سلّم ذلک کلّه‏ ‏، فمن أین حصل العلم بوجوب العمل بها لوعثرنا علیها ،‏‎ ‎‏فلعلّها کانت أخباراً ضعیفة غیر معمول بها‏ ‏، أو صحیحة معرضاً عنها؟!‏

‏فتحصّل : أنّه لم یقم لدینا علم بوجود مخصّصات أو مقیّدات غیر ما بأیدینا من‏‎ ‎‏الکتب الحدیثیة‏ ‏، ولیس ذلک إلاّ احتمالاً محضاً‏ ‏، وإنّما ادعی بعض فقدان بعض الاُصول‏‎ ‎‏علی نحو الإجمال‏ ‏، ومثله لا یورث علماً بأصلها فضلاً عن مشتملاتها‏ ‏، فإشکال‏‎ ‎‏الأعمّیة ساقط‏ .

‏والمهمّ هو إشکال الأخصّیة ، وقد أتعب العلمان العراقی والنائینیأنفسهما فی‏‎ ‎‏الجواب عنه‏ ‏، وحاولا إثبات وجود أثر للعلم الإجمالی عند الشبهة‏ ‏، ولکلّ منهما‏‎ ‎‏طریق وتقریب فی ذلک :‏

أمّا ما أجاب به المحقّق العراقی ‏قدس سره‏‏ فحاصله‏‏ : أنّ مقدار المعلوم بالإجمال وإن‏‎ ‎‏کان معلوماً عدداً‏ ‏؛ بحیث یرجع فی الزائد منه إلی البراءة‏ ‏، إلاّ أنّه حیث یکون المعلوم‏‎ ‎‏بالإجمال منتشراً فی أبواب الفقه من أوّله إلی آخره‏ ‏، فتصیر جمیع الشکوک فی تمام‏‎ ‎‏الأبواب طرفاً لهذا العلم‏ ‏، فیمنع عن الأخذ به قبل الفحص‏ ‏، وعلی هذا لا یفید الظفر‏‎ ‎‏بالمعارض بمقدار المعلوم لانحلاله‏ ‏؛ إذ مثل هذا العلم الحاصل جدیداً‏ ‏، نظیر العلوم‏‎ ‎‏الحاصلة بعد العلم الإجمالی غیر القابلة للانحلال‏ .

‏وبالجملة : أثر العلم الإجمالی الأوّل ـ وهو العلم بانتشار المخصّصات والمقیّدات‏‎ ‎‏فی جمیع أبواب الفقه ـ باقٍ فی کلّ شبهة‏ ‏، ومنجّز للواقع بمقدار استعداده‏ ‏، فالعلم‏‎ ‎‏الحاصل بالمقدار المعلوم بعد ذلک‏ ‏، لا یوجب العمل بالعمومات والمطلقات قبل‏‎ ‎‏الفحص عند الشبهة‏‎[3]‎ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 441
وفیه‏ : أنّه بعد الاعتراف بکون مقدار المخصّصات أو المقیّدات معلوماً‏ ‏، فنفرضه‏‎ ‎‏ألفاً‏ ‏، قلتم إنّ المعلوم بالإجمال منتشر فی جمیع أبواب الفقه‏ ‏؛ بحیث یکون فی کلّ‏‎ ‎‏باب طائفة منها‏ ‏، فبعد الفحص فی جمیع الأبواب إن ظفرنا بألف مخصّص أو مقیّد‏ ‏،‏‎ ‎‏فینحلّ العلم الإجمالی ولو حکماً‏ ‏؛ ضرورة انطباق المعلوم من الأوّل علی هذا‏‎ ‎‏المقدار‏ ‏، ففی الزائد عن ذلک المقدار لوشکّ لا یجب الفحص‏ ‏؛ لعدم العلم مع لزوم‏‎ ‎‏الفحص عند ذلک‏ .

‏وأمّا بعد الفحص فی بعض الأبواب‏ ‏، فلو ظفرنا بألف مخصّص أو مقیّد قبل‏‎ ‎‏الفحص فی سائر الأبواب‏ ‏، فلا محالة یکون أحد العلمین خطأً‏ ‏؛ إمّا علمه بأنّ‏‎ ‎‏المخصّصات أو المقیّدات منتشرة فی جمیع الأبواب‏ ‏، فینحلّ العلم الإجمالی‏ ‏، فلا یجب‏‎ ‎‏الفحص فی عمومات أو مطلقات سائر الأبواب‏ ‏، أو علمه بانحصار المخصّص أو المقیّد‏‎ ‎‏فی ألف‏ ‏، فیحصل له علم آخر بأنّ مقدار المخصّص أو المقیّد أزید ممّا علمه أوّلاً‏ ‏،‏‎ ‎‏ولکنّه خلاف الفرض‏ ‏؛ لأنّه فیما إذا لم یحصل له علم إلاّ بالمقدار المعلوم أوّلاً‏ .

وأمّا ما أجاب به المحقّق النائینی ‏قدس سره‏‏ فحاصله:‏‏ أنّ المعلوم بالإجمال علی نحوین:‏

‏فتارة : یکون مرسلاً غیر مُعْلَمٍ بعلامة یشار إلیه بها‏ ‏، کما إذا علم أنّه مدین‏‎ ‎‏لزید مثلاً‏ ‏، وشکّ فی أنّه عشرة أو عشرون‏ .

‏واُخری : یکون مُعْلَماً بعلامة‏ ‏، کما لو علم أنّه مدین لزید بما فی الدفتر‏ .

‏وانحلال العلم الإجمالی بالعثور علی المقدار المتیقّن‏ ‏، إنّما یکون فی القسم الأوّل‏ ‏؛‏‎ ‎‏لدوران الأمر بین الأقلّ والأکثر‏ ‏، فتجری البراءة بالنسبة إلی الزائد عن المقدار‏‎ ‎‏المتیقّن‏ ‏، لأنّ هذا المقدار معلوم من الأوّل‏ ‏، والزائد مشکوک فیه‏ .

‏وأمّا القسم الثانی فلا ینحلّ فیه العلم الإجمالی بذلک‏ ‏، بل یکون حاله حال‏‎ ‎‏دوران الأمر بین المتباینین‏ ‏، فکلّ ما اندرج تحت تلک العلامة وانطبقت علیه ـ سواء‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 442
‏کان أقلّ أو أکثر ـ یکون منجّزاً علیه‏ ‏؛ لمکان تعلّق العلم بعلامته‏ ‏، فحینئذٍ لو کان‏‎ ‎‏الأکثر هو الثابت فی الواقع‏ ‏، فقد تعلّق العلم به‏ ‏؛ لمکان تعلّقه بعلامته‏ ‏. ومانحن فیه من‏‎ ‎‏قبیل القسم الثانی‏ ‏؛ لأنّ العلم قد تعلّق بأنّ فی الکتب التی بأیدینا مقیّدات‏‎ ‎‏ومخصّصات‏ ‏، فلا ینحلّ العلم الإجمالی بالعثور علی المقدار المتیقّن‏ ‏، بل لابدّ فیه من‏‎ ‎‏الفحص التامّ فی جمیع ما بأیدینا من الکتب‏ ‏، فتأمّل فیما ذکرناه من قسمی العلم‏‎ ‎‏الإجمالی‏ ‏؛ فإنّه لا یخلو من دقّة ، انتهی‏‎[4]‎ .

وفیه‏ : أنّ ما أجاب به هذا المحقّق ‏‏قدس سره‏‏ عن الإشکال‏ ‏، غیر تامّ أیضاً‏ ‏؛ لأنّ مجرّد‏‎ ‎‏اقتران المعلوم بالإجمال بعنوان غیر ذی أثر شرعی‏ ‏، لا یوجب تنجّز الأکثر‏ ‏، بل لابدّ‏‎ ‎‏من لحاظ ما هو المنشأ للأثر‏ ‏، وإلاّ یلزم عدم الانحلال فی جمیع الموارد‏ ‏؛ إذ کثیراً‏‎ ‎‏ما یقترن العلم الإجمالی بعدّة عناوین ولوازم قلّما تنفکّ عنه‏ ‏، کعنوان ما فی الدار‏ ‏، أو ما‏‎ ‎‏فی المسجد‏ ‏، أو ما أقرضتنی‏ ‏، أو ما أعطیتنی‏ ‏، أو ما فی الدکّان‏ . . ‏. إلی غیر ذلک‏ ‏،‏‎ ‎‏فلا توجب مقارنة هذه العناوین تنجّز الأکثر‏ ‏، بل لا یزید علی الدوران بین الأقلّ‏‎ ‎‏والأکثر شیئاً‏ ‏، کما هو الشأن فیما إذا صار ما فی الکیس مضموناً علیه‏ ‏، فإنّه لا یوجب‏‎ ‎‏الضمان بعنوان مافی الکیس حتّی یتنجّز الأکثر‏ ‏، بل لا یزید عن الدوران بین الأقلّ‏‎ ‎‏والأکثر‏ ‏، ففیما نحن فیه لو عثرنا علی المقدار المعلوم بالإجمال لا نحلّ العلم الإجمالی‏ ‏،‏‎ ‎‏فلا یجب الفحص فی الزائد علیه‏ .

‏وبالجملة : مجرّد اقتران المعلوم بالإجمال بعلامة‏ ‏، لا یوجب تنجّز الأکثر‏ ‏، وإلاّ‏‎ ‎‏یلزم تنجّز الأکثر فیما إذا أقرضه ما فی الکیس‏ ‏، أو فی المسجد ونحوهما‏ ‏، وتردّد ما فی‏‎ ‎‏الکیس أو المسجد بین الأقلّ والأکثر‏ ‏، والظاهر أنّه ‏‏قدس سره‏‏ غیر ملتزم به أیضاً‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 443
‏نعم‏ ‏، إن کان العلم الإجمالی متعلّقاً بعنوان بسیط مبیّن مفهوماً‏ ‏، ولکن شکّ‏‎ ‎‏فی المحصّل له بین الأقلّ والأکثر ـ کما لو تعلّق الأمر بعنوان الطهارة‏ ‏، وشکّ فی أنّ‏‎ ‎‏المحصّل لها عشرة أجزاء أو أکثر ـ ففی مثل ذلک یکون مقتضی القاعدة الاشتغال‏‎ ‎‏والإتیان بالأکثر‏ .

‏فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ إشکال أخصّیة الدلیل من المدعی‏ ‏، لازال علی قوّته‏ ‏،‏‎ ‎‏ولا یصلح شیء من جوابی العلمین ـ العراقی والنائینی ـ لإثبات لزوم الفحص‏‎ ‎‏عند کلّ شبهة‏ .

‏ولکنّ الذی یسهّل الخطب : هو أنّ مدرک لزوم الفحص‏ ‏، ما أشرنا إلیه من‏‎ ‎‏معرضیة العمومات والمطلقات للتخصیص والتقیید‏ ‏، لا العلم الإجمالی‏ ‏، فیجب‏‎ ‎‏الفحص فیما إذا کانا فی معرض التخصیص والتقیید‏ ‏، فتدبّر واغتنم‏ .

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 444

  • )) الفصول الغرویة : 200 / السطر 29 ، مطارح الأنظار : 202 / السطر 15 .
  • )) فوائد الاُصول 1 : 542 ـ 543 .
  • )) مقالات الاُصول 1 : 456 .
  • )) فوائد الاُصول 1 : 545 ـ 546 .