حول الاستدلال للزوم الفحص بالعلم الإجمالی
ربما یستدلّ للزوم الفحص بالعلم الإجمالی ؛ بتقریب أنّ من راجع الکتب والجوامع الحدیثیة الموجودة بأیدینا ، یعلم إجمالاً بطروّ مخصّصات ومقیّدات علی العمومات والمطلقات الواردة فی الکتاب والسنّة ومقتضی هذا العلم الإجمالی لزوم الاحتیاط قبل الفحص .
ولکن اُورد علی هذا التقریب : بأعمّیة الدلیل من المدعی من جهة ، وبأخصّیته منها من جهة اُخری :
أمّا الأعمّیة فحاصلها : أنّ المدعی هو الاحتیاط قبل الفحص فیما بأیدینا من الکتب والجوامع الحدیثیة ، وأمّا بعد الفحص فیها فیجوز العمل بالعمومات والمطلقات ، وطریقة أصحابنا الإمامیة رضوان الله علیهم وبناؤهم ـ خلفاً عن سلف ـ علی هذا ، فإنّهم یحتاطون ولا یتمسّکون بالعمومات والمطلقات قبل الفحص فیما بأیدیهم من الکتب والجوامع الحدیثیة ، وأمّا بعد الفحص عنهما وعدم الظفر بالمخصّص أو المقیّد ، فلا یزالون یتمسّکون بهما ، ومقتضی التقریب المتقدّم هو الاحتیاط مطلقاً ؛ قبل الفحص فیها ، وبعده لأنّ المخصّصات والمقیّدات المعلوم وجودها ، لا تنحصر فیما بأیدینا من الکتب والجوامع الحدیثیة ، بل لعلّ کثیراً منها لم یصل إلینا ؛ لفقد بعض الجوامع الحدیثیة الأوّلیة باحتراق مثل مکتبة شابور فی بغداد وغیرها .
وبالجملة : الاُصول والکتب المدوّنة الحدیثیة فی عهد الصادقین علیهماالسلام کانت محتویة علی مخصّصات ومقیّدات کثیرة ، وقد أخفتها وأعدمتها الأیادی الخبیثة
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 439
واللئیمة ، ومقتضی ذلک عدم انحلال العلم الإجمالی بالفحص فیما بأیدینا ، بل یلزم الاحتیاط بعد ذلک أیضاً ، مع أنّ بناء الأصحاب ـ قدیماً وحدیثاً ، خلفاً عن سلف ـ علی عدم الاحتیاط بعد الفحص فیها ، فیستکشف من ذلک أنّ وجه لزوم الفحص لیس العلم الإجمالی ، بل غیره .
وبعبارة أوضح : لا ینحصر العلم الإجمالی بوجود مخصّصات ومقیّدات صادرة عن الشارع وأئمّة أهل البیت علیهم السلام فی خصوص ما بأیدینا من الأخبار ، وهذا یوجب عدم انحلال العلم الإجمالی بالفحص فیما بأیدینا من الجوامع الحدیثیة وإن بلغ الفحص ما بلغ .
وأمّا الأخصّیة من المدعی فحاصلها : أنّ من الواضح أنّ طریقة الأصحاب وبناءهم من الصدر إلی زماننا ، علی الفحص حتّی فیما لم یکن هناک علم إجمالی ، فتراهم إذا ظفروا بمقدار متیقّن من المخصّصات والمقیّدات ، ومع ذلک بناؤهم علی الفحص عند کلّ شبهة إذا کان العامّ أو المطلق ، معرضاً للتخصیص أو التقیید ؛ بأن کان طروّهما لهما عقلائیاً ، فلو کان العلم الإجمالی دلیلاً علی الفحص ، لکان ینبغی الأخذ بالعامّ أو المطلق بلافحص عند ذلک .
فحاصل الإشکال : أنّه لا ینبغی أن یعدّ العلم الإجمالی دلیلاً علی لزوم الفحص عن المخصّصات أو المقیّدات؛ لأعمّیته من المدعی فی وجه ، وأخصّیته منها فی وجه آخر.
أقول : یمکن الجواب عن إشکال الأعمّیة : بأنّه لاعلم بفقدان وضیاع الاُصول والجوامع الحدیثیة ، فلعلّ المحترق فی مکتبة شابور وغیرها ، لم یکن من الکتب الحدیثیة . ولو سلّم کونها من الکتب الحدیثیة ، ولکن لم یعلم أنّ المفقود منها غیر موجود فی مصادر الکتب الحدیثیة التی بأیدینا ، فضلاً عن کونها متضمّنة للأحکام ، وفضلاً عن کونها مشتملة علی مخصّصات أو مقیّدات غیر موجودة فیما بأیدینا .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 440
ولو سلّم ذلک کلّه ، فمن أین حصل العلم بوجوب العمل بها لوعثرنا علیها ، فلعلّها کانت أخباراً ضعیفة غیر معمول بها ، أو صحیحة معرضاً عنها؟!
فتحصّل : أنّه لم یقم لدینا علم بوجود مخصّصات أو مقیّدات غیر ما بأیدینا من الکتب الحدیثیة ، ولیس ذلک إلاّ احتمالاً محضاً ، وإنّما ادعی بعض فقدان بعض الاُصول علی نحو الإجمال ، ومثله لا یورث علماً بأصلها فضلاً عن مشتملاتها ، فإشکال الأعمّیة ساقط .
والمهمّ هو إشکال الأخصّیة ، وقد أتعب العلمان العراقی والنائینیأنفسهما فی الجواب عنه ، وحاولا إثبات وجود أثر للعلم الإجمالی عند الشبهة ، ولکلّ منهما طریق وتقریب فی ذلک :
أمّا ما أجاب به المحقّق العراقی قدس سره فحاصله : أنّ مقدار المعلوم بالإجمال وإن کان معلوماً عدداً ؛ بحیث یرجع فی الزائد منه إلی البراءة ، إلاّ أنّه حیث یکون المعلوم بالإجمال منتشراً فی أبواب الفقه من أوّله إلی آخره ، فتصیر جمیع الشکوک فی تمام الأبواب طرفاً لهذا العلم ، فیمنع عن الأخذ به قبل الفحص ، وعلی هذا لا یفید الظفر بالمعارض بمقدار المعلوم لانحلاله ؛ إذ مثل هذا العلم الحاصل جدیداً ، نظیر العلوم الحاصلة بعد العلم الإجمالی غیر القابلة للانحلال .
وبالجملة : أثر العلم الإجمالی الأوّل ـ وهو العلم بانتشار المخصّصات والمقیّدات فی جمیع أبواب الفقه ـ باقٍ فی کلّ شبهة ، ومنجّز للواقع بمقدار استعداده ، فالعلم الحاصل بالمقدار المعلوم بعد ذلک ، لا یوجب العمل بالعمومات والمطلقات قبل الفحص عند الشبهة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 441
وفیه : أنّه بعد الاعتراف بکون مقدار المخصّصات أو المقیّدات معلوماً ، فنفرضه ألفاً ، قلتم إنّ المعلوم بالإجمال منتشر فی جمیع أبواب الفقه ؛ بحیث یکون فی کلّ باب طائفة منها ، فبعد الفحص فی جمیع الأبواب إن ظفرنا بألف مخصّص أو مقیّد ، فینحلّ العلم الإجمالی ولو حکماً ؛ ضرورة انطباق المعلوم من الأوّل علی هذا المقدار ، ففی الزائد عن ذلک المقدار لوشکّ لا یجب الفحص ؛ لعدم العلم مع لزوم الفحص عند ذلک .
وأمّا بعد الفحص فی بعض الأبواب ، فلو ظفرنا بألف مخصّص أو مقیّد قبل الفحص فی سائر الأبواب ، فلا محالة یکون أحد العلمین خطأً ؛ إمّا علمه بأنّ المخصّصات أو المقیّدات منتشرة فی جمیع الأبواب ، فینحلّ العلم الإجمالی ، فلا یجب الفحص فی عمومات أو مطلقات سائر الأبواب ، أو علمه بانحصار المخصّص أو المقیّد فی ألف ، فیحصل له علم آخر بأنّ مقدار المخصّص أو المقیّد أزید ممّا علمه أوّلاً ، ولکنّه خلاف الفرض ؛ لأنّه فیما إذا لم یحصل له علم إلاّ بالمقدار المعلوم أوّلاً .
وأمّا ما أجاب به المحقّق النائینی قدس سره فحاصله: أنّ المعلوم بالإجمال علی نحوین:
فتارة : یکون مرسلاً غیر مُعْلَمٍ بعلامة یشار إلیه بها ، کما إذا علم أنّه مدین لزید مثلاً ، وشکّ فی أنّه عشرة أو عشرون .
واُخری : یکون مُعْلَماً بعلامة ، کما لو علم أنّه مدین لزید بما فی الدفتر .
وانحلال العلم الإجمالی بالعثور علی المقدار المتیقّن ، إنّما یکون فی القسم الأوّل ؛ لدوران الأمر بین الأقلّ والأکثر ، فتجری البراءة بالنسبة إلی الزائد عن المقدار المتیقّن ، لأنّ هذا المقدار معلوم من الأوّل ، والزائد مشکوک فیه .
وأمّا القسم الثانی فلا ینحلّ فیه العلم الإجمالی بذلک ، بل یکون حاله حال دوران الأمر بین المتباینین ، فکلّ ما اندرج تحت تلک العلامة وانطبقت علیه ـ سواء
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 442
کان أقلّ أو أکثر ـ یکون منجّزاً علیه ؛ لمکان تعلّق العلم بعلامته ، فحینئذٍ لو کان الأکثر هو الثابت فی الواقع ، فقد تعلّق العلم به ؛ لمکان تعلّقه بعلامته . ومانحن فیه من قبیل القسم الثانی ؛ لأنّ العلم قد تعلّق بأنّ فی الکتب التی بأیدینا مقیّدات ومخصّصات ، فلا ینحلّ العلم الإجمالی بالعثور علی المقدار المتیقّن ، بل لابدّ فیه من الفحص التامّ فی جمیع ما بأیدینا من الکتب ، فتأمّل فیما ذکرناه من قسمی العلم الإجمالی ؛ فإنّه لا یخلو من دقّة ، انتهی .
وفیه : أنّ ما أجاب به هذا المحقّق قدس سره عن الإشکال ، غیر تامّ أیضاً ؛ لأنّ مجرّد اقتران المعلوم بالإجمال بعنوان غیر ذی أثر شرعی ، لا یوجب تنجّز الأکثر ، بل لابدّ من لحاظ ما هو المنشأ للأثر ، وإلاّ یلزم عدم الانحلال فی جمیع الموارد ؛ إذ کثیراً ما یقترن العلم الإجمالی بعدّة عناوین ولوازم قلّما تنفکّ عنه ، کعنوان ما فی الدار ، أو ما فی المسجد ، أو ما أقرضتنی ، أو ما أعطیتنی ، أو ما فی الدکّان . . . إلی غیر ذلک ، فلا توجب مقارنة هذه العناوین تنجّز الأکثر ، بل لا یزید علی الدوران بین الأقلّ والأکثر شیئاً ، کما هو الشأن فیما إذا صار ما فی الکیس مضموناً علیه ، فإنّه لا یوجب الضمان بعنوان مافی الکیس حتّی یتنجّز الأکثر ، بل لا یزید عن الدوران بین الأقلّ والأکثر ، ففیما نحن فیه لو عثرنا علی المقدار المعلوم بالإجمال لا نحلّ العلم الإجمالی ، فلا یجب الفحص فی الزائد علیه .
وبالجملة : مجرّد اقتران المعلوم بالإجمال بعلامة ، لا یوجب تنجّز الأکثر ، وإلاّ یلزم تنجّز الأکثر فیما إذا أقرضه ما فی الکیس ، أو فی المسجد ونحوهما ، وتردّد ما فی الکیس أو المسجد بین الأقلّ والأکثر ، والظاهر أنّه قدس سره غیر ملتزم به أیضاً .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 443
نعم ، إن کان العلم الإجمالی متعلّقاً بعنوان بسیط مبیّن مفهوماً ، ولکن شکّ فی المحصّل له بین الأقلّ والأکثر ـ کما لو تعلّق الأمر بعنوان الطهارة ، وشکّ فی أنّ المحصّل لها عشرة أجزاء أو أکثر ـ ففی مثل ذلک یکون مقتضی القاعدة الاشتغال والإتیان بالأکثر .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ إشکال أخصّیة الدلیل من المدعی ، لازال علی قوّته ، ولا یصلح شیء من جوابی العلمین ـ العراقی والنائینی ـ لإثبات لزوم الفحص عند کلّ شبهة .
ولکنّ الذی یسهّل الخطب : هو أنّ مدرک لزوم الفحص ، ما أشرنا إلیه من معرضیة العمومات والمطلقات للتخصیص والتقیید ، لا العلم الإجمالی ، فیجب الفحص فیما إذا کانا فی معرض التخصیص والتقیید ، فتدبّر واغتنم .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 444