المقصد الرابع فی العامّ والخاصّ

الاستدلال علی لزوم الفحص بمعرضیة العامّ للتخصیص

الاستدلال علی لزوم الفحص بمعرضیة العامّ للتخصیص

‏إذا تمهّدت لک هذه الاُمور‏ ‏، فالحقّ عدم جواز التمسّک قبل الفحص‏ ‏، ووجهه ما‏‎ ‎‏أشار إلیه المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ من أنّ معرضیة العامّ للتخصیص توجب سقوط‏‎ ‎‏احتجاجات العقلاء‏ ‏، ولاأقلّ من الشکّ فی ذلک‏‎[1]‎ .

‏و‏ ‏توضیح ما أفاده ‏‏قدس سره‏‏ : أنّ الاحتجاج بأصالتی العموم والإطلاق وغیرهما من‏‎ ‎‏الاُصول والقواعد‏ ‏، إنّما هو بعد طیّ مراحل :‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 434
‏الاُولی : إحراز کون المتکلّم فی مقام التفهیم‏ .

‏الثانیة : وجود ظهور لکلامه عرفاً ولغة‏ .

‏الثالثة : إحراز استعماله فی معناه الحقیقی أو الظاهر منه‏ .

‏الرابعة : أنّه بعد تمامیة هذه الاُمور‏ ‏، لابدّ من إثبات أنّ إرادته الجدّیة مطابقة‏‎ ‎‏لإرادته الاستعمالیة‏ ‏، وهو العمدة فی الاحتجاج‏ ‏، ولولاه لما صحّ الاحتجاج أصلاً‏‎ ‎‏ولو تمّت سائر الاُمور‏ .

‏مثلاً : إنّما یصحّ الاحتجاج بقوله : «أکرم کلّ عالم» إذا اُحرز أنّ المتکلّم لم‏ ‏یتکلّم‏‎ ‎‏لقلقة للسانه‏ ‏، بل لغرض التفهیم‏ ‏، والأصل العقلائی علی إتیانه کذلک‏ ‏، وبعد ثبوت‏‎ ‎‏ظهور للکلام واستعماله فی معناه الحقیقی لا الظاهری‏ ‏، لابدّ وأن یحرز أنّ إرادته الجدّیة‏‎ ‎‏مطابقة لإرادته الاستعمالیة‏ ‏، وإلاّ فلو احتمل عدم المطابقة‏ ‏، لما صحّ الاحتجاج وإن‏‎ ‎‏کان ظهور الدلالة الاستعمالیة تامّاً‏ .

‏و لا ‏یخفی‏ : أنّ إحراز التطابق لا یکون فی جمیع الموارد علی نَسَقٍ واحد‏ ‏، بل‏‎ ‎‏یختلف باختلاف الموارد :‏

‏فإن کان المتکلّم من الموالی العرفیین مع عبیدهم‏ ‏، أو من متعارف الناس مع‏‎ ‎‏مصاحبیهم‏ ‏، فحیث إنّه لا یکون بناؤهم فی العمومات والمطلقات علی التعویل علی‏‎ ‎‏المخصّصات والمقیّدات المنفصلة‏ ‏، ولو أرادوا التخصیص أو التقیید لوصلوه بالکلام‏ ‏،‏‎ ‎‏فیصحّ إحراز التطابق بعد تمامیة کلام المتکلّم قبل الفحص‏ ‏، فیصحّ العمل بالعمومات‏‎ ‎‏والمطلقات الکذائیة قبل الفحص عن مؤخّر ومقدّم‏ .

‏وأمّا إذا کان المتکلّم ممّن یکون بناؤه علی التعویل فی العمومات والمطلقات‏‎ ‎‏علی ذکر المخصّصات والمقیّدات المنفصلة ـ کمحیط وضع القوانین‏ ‏؛ عرفیة کانت‏ ‏، أم‏‎ ‎‏شرعیة‏ ‏، حیث جرت العادة فی محیط التقنین علی التفکیک بین العامّ ومخصّصه‏ ‏،‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 435
‏والمطلق ومقیّده‏ ‏، فربما یذکر العامّ مثلاً فی فصل‏ ‏، وتذکر مخصّصاته تدریجاً فی فصول‏‎ ‎‏اُخر بعنوان التبصرة‏ ‏، أو المادّة الواحدة‏ ‏، ونحوهما‏ ‏، أو فیکتاب آخر ـ فلا یکاد یحرز‏‎ ‎‏التطابق إلاّ بعد الفحص عن مظانّ المخصّصات والمقیّدات‏ ‏؛ لمعرضیة العمومات‏‎ ‎‏والمطلقات للتقیید والتخصیص‏ .

‏ولا ینکر التعویل فی وضع القوانین المتعارفة عند الاُمم الراقیة والمتمدّنة‏ ‏، علی‏‎ ‎‏المخصّصات والمقیّدات المنفصلة‏ ‏، وکذا العمومات والمطلقات الشرعیة‏ ‏، فتری أنّه‏‎ ‎‏تعالی ذکر قوله : ‏‏«‏أوْفُوا بِالْعُقُودِ‏»‏‎[2]‎‏ أو‏‏«‏أحَلَّ الله ُ الْبَیْعَ‏»‏‎[3]‎‏ فی موضع‏ ‏، وذکر‏‎ ‎‏مخصّصاته ومقیّداته فی مواضع اُخر‏ ‏، ولذا اشتهر بینهم : «أنّه ما من عامّ إلاّ وقد‏‎ ‎‏خصّ» و«ما من مطلق إلاّ وقد قیّد» ومن سبر التأریخ ولاحظ حالات أصحاب أئمّة‏‎ ‎‏أهل البیت ‏‏علیهم السلام‏‏ ـ کزرارة‏ ‏، ومحمّد بن مسلم‏ ‏، ونظرائهما ـ یری أنّهم لم یکد یعملون‏‎ ‎‏بروایة بمجرّد سماعها‏ ‏، بل یعرضونها علی الکتاب أو السنّة‏ ‏، فإن خالفتهما أو أحدهما‏‎ ‎‏یطرحونها‏ ‏، ولذا ورد عنهم ‏‏علیهم السلام‏‏ فی علاج الخبرین المتعارضین أو المتخالفین ما‏‎ ‎‏هو مذکور فی بابه‏‎[4]‎ .

‏وبالجملة : إنّ قیام عادة الشریعة القویمة علی التعویل فی العمومات والمطلقات‏‎ ‎‏علی المخصّصات والمقیّدات‏ ‏، یوجب معرضیتهما لهما‏ ‏، فلا یکاد تحرز أصالة تطابق الجدّ‏‎ ‎‏للاستعمال قبل الفحص عنهما فی مظانّهما‏ ‏، فإن فحص بالمقدار اللازم فلم یظفر‏‎ ‎‏بالمخصّص أو المقیّد یصحّ الاحتجاج بالعموم أو الإطلاق‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 436
‏فظهر ممّا ذکرنا : أنّ لزوم الفحص لا یدور مدار العلم بوجود المخصّص أو‏‎ ‎‏المقیّد‏ ‏، بل یدور مدار المعرضیة لهما‏ ‏، فکلّ عامّ أو مطلق إذا کان معرضاً لهما‏ ‏، لا یصحّ‏‎ ‎‏الاحتجاج به إلاّ بعد الفحص بمقدار یخرج عن المعرضیة‏ ‏؛ حتّی وإن لم یعلم وجود‏‎ ‎‏مخصّص أو مقیّد فی البین‏ .

‏وظهر أیضاً : أنّ الفحص هنا ـ نظیر الفحص فی الاُصول العملیة ـ من متمّمات‏‎ ‎‏الحجّیة‏ ‏؛ لتوقّف الاحتجاج بأصالة العموم علی تمامیة اُمور‏ ‏، منها إحراز تطابق الجدّ‏‎ ‎‏للاستعمال‏ ‏، ولا یکاد یحرز ذلک فی محیط التقنین‏ .

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 437

  • )) کفایة الاُصول : 265 .
  • )) المائدة (5) : 1 .
  • )) البقرة (2) : 275 .
  • )) راجع التعادل والترجیح ، الإمام الخمینی قدس سره : 165 .