تفصیل المحقّق النائینی فی المقام ودفعه
ثمّ إنّ للمحقّق النائینی قدس سره تفصیلاً فی المقام تعرّض له فی مسألة اللباس المشکوک فیه ، وذکره هنا ، وبه وجّه ما ذهب إلیه المشهور من الحکم بضمان الید المشتبه کونها یداً عادیة ، فلا بأس بذکر ما یتعلّق بالعامّ المخصّص .
قال ما حاصله : أنّ المشهور حکموا بالضمان عند تردّد الید بین کونها عادیة أو غیر عادیة ، فتوهّم بعض : أنّ ذلک من باب الرجوع إلی العامّ فی الشبهة المصداقیة للمخصّص ، بل قد یتخیّل أنّ ذلک من باب الرجوع إلی العامّ فی الشبهة المصداقیة للعامّ ، وذلک بلحاظ أنّه إن قلنا: إنّ قوله علیه السلام : «علی الید ما أخذت حتّی تؤدّی» یعمّ العادیة والمأذونة ، وتکون الید المأذون فیها خارجة بالتخصیص ، فتکون الید المشکوک کونها عادیة من الشبهة المصداقیة لعنوان المخصّص ، وأمّا إن قلنا : إنّه لا یستفاد منه إلاّ خصوص الید العادیة ، وتکون غیر العادیة خارجة عنه بالتخصّص لا التخصیص ، فتکون الید المشکوک کونها عادیة من الشبهة المصداقیة لعنوان العامّ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 418
ولکن فیه : أنّ التوهّم فی غیر محلّه ، ولذا حکم المشهور بالضمان فی الشبهة المصداقیة لعنوان العامّ الذی لم یقل به أحد ، بل حکم المشهور بالضمان هناک لأجل أنّ هناک أصلاً موضوعیاً ینقّح حال المشکوک ؛ ویدرّج المشکوک تحت عنوان العامّ ، فیتمسّک بالعامّ لإثبات حکمه ؛ وهو أصالة عدم إذن المالک ورضاه بالتصرّف ، فیکون المقام من صغریات الموضوعات المرکّبة المحرز بعض أجزائها بالأصل ، وبعضها بالوجدان .
وقال قدس سره فی بیانه : «إنّ عنوان المقیّد و المخصّص ، لا یخلو إمّا أن یکون من قبیل الأوصاف اللاحقة لذات الموضوع ، کالعادل والفاسق بالنسبة إلی العالم ، وکالقرشیة والنبطیة بالنسبة إلی المرأة ، فلا محالة یکون موضوع الحکم فی عالم الثبوت مرکّباً من العرض ومحلّه ؛ لأنّ العامّ بعد ورود التخصیص یخرج عن کونه تمام الموضوع للحکم ، ویصیر جزء الموضوع ، ویکون جزؤه الآخر نقیض الخارج بدلیل المخصّص ، کالعالم غیر الفاسق فی «أکرم العلماء إلاّ فسّاقهم» ولمّا کان غیر الفاسق من أوصاف العالم ونعوته اللاحقة لذاته ، کان موضوع الحکم مرکّباً من العرض ومحلّه .
أو من قبیل المقارنات الاتفاقیة ، أو الدائمة ، کما إذا قیّد وجوب إکرام العالم بوجود زید ، أو مجیئ عمرو ، أو وُفور ماء الفرات ، وما شابه ذلک ، فإنّ هذه الاُمور لیست من أوصاف العالم ، بل من مقارناتها ، ولا یمکن أن تکون نعتاً ووصفاً للعالم ؛ فإنّ وجود زید مثلاً لیس من أوصاف العالم والانقسامات اللاحقة له لذاته ، بل یکون من مقارناته ، وعلی هذا وإن کان موضوع الحکم أیضاً مرکّباً ، لکنّه لا من العرض ومحلّه ، بل إمّا یکون مرکّباً من جوهرین ، أو عرضین لمحلّین ، أو من جوهر وعرض لمحلّ آخر ، أو من عرضین لمحلّ واحد .
ففیما إذا لم یکن الموضوع مرکّباً من العرض ومحلّه ، فحیث إنّ الاُمور المتقاربة
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 419
فی الزمان لا ربط بینها سوی الاجتماع فی عمود الزمان ، فمجرّد إحراز اجتماعهما فی الزمان یکفی فی ترتّب الأثر ؛ سواء کان إحرازهما بالوجدان ، أو بالأصل ، أو بعضها بالوجدان ، وبعضها بالأصل .
نعم ، لو کان موضوع الأثر العنوان البسیط المنتزع أو المتولّد من اجتماع الأجزاء فی الزمان ـ کعنوان التقدّم ، والتأخّر ، والتقارن ، والقبلیة ، والبعدیة ، وغیرها ـ لا یکاد یجدی إحراز بعض الأجزاء بالوجدان وبعضها بالأصل لإثبات ذلک العنوان البسیط ، إلاّ علی القول بالأصل المثبت ؛ وذلک کما فی قوله علیه السلام : «لو أدرک المأموم الإمام قبل رفع رأس الإمام . . . » فإنّ استصحاب عدم رفع رأس الإمام عن الرکوع إلی حال رکوع المأموم ، لا یثبت عنوان القبلیّة .
وبما ذکرنا یظهر وجه حکم المشهور بالضمان عند الشکّ فی کون الید یداً عادیة ؛ من جهة أنّ موضوع الضمان مرکّب من الید والاستیلاء الذی هو فعل الغاصب ، ومن عدم إذن المالک ورضاه الذی هو عرض قائم بالمالک ، وأصالة عدم رضا المالک تثبت کون الید یداً عادیة ؛ إذ الید العادیة لیست إلاّ عبارة عن ذلک ، وهذا المعنی یتحقّق بضمّ الوجدان إلی الأصل .
فظهر : أنّ حکم المشهور بالضمان ، لیس من جهة التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة ، بل من جهة جریان الأصل الموضوعی المنقّح حال المشتبه . وقس علیه سائر الموضوعات المرکّبة من غیر العرض ومحلّه ؛ لأنّه فی الجمیع یکفی إحراز الأجزاء بالاُصول الجاریة بمفاد «کان» أو «لیس» التامّتین ، إلاّ إذا کان العنوان المتولّد موضوعاً للأثر ، فإنّ الأصل یکون مثبتاً ، کما عرفت .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 420
وأمّا إذا کان الموضوع مرکّباً من العرض ومحلّه ، فحیث إنّ العرض بالنسبة إلی محلّه إنّما یکون نعتاً ووصفاً له ، ویکون للجهة النعتیة والتوصیفیة دخل لامحالة ، فلا یمکن أخذ العرض شیئاً بحیال ذاته فی مقابل المحلّ القائم به ؛ لأنّ وجود العرض بنفسه ولنفسه ، عین وجوده لمحلّه وبمحلّه ، فلا یفید الأصل بمفاد «کان» و«لیس» التامّتین إلاّ علی الأصل المثبت ، فلا محیص من أخذ العرض بما هو قائم بمحلّه موضوعاً للحکم ، وهذا لا یکون إلاّ بتوصیف المحلّ به .
فکلّ أصل أحرز التوصیف والتنعیت کان جاریاً ، وإلاّ فلا ، ولا یکون هذا إلاّ إذا کانت جهة التوصیف مسبوقة بالتحقّق بعد تحقّق الموصوف ، ولا یکون ذلک فی الأوصاف المساوقة وجوداً وزماناً لوجود موصوفها ؛ لعدم وجود الحالة السابقة ، وإنّما یکون فی الأوصاف اللاحقة لموصوفها بعد وجوده . . . » إلی آخر ما ذکره .
أقول : فیما أفاده قدس سره بطوله مواقع للنظر :
فأوّلاً : أنّ قوله : «إذا رکّب الشیء من العرض ومحلّه ، لا یکاد یمکن إحرازه بالأصل ، بخلاف غیره فیجوز» لا یخلو من إشکال ، و لعلّه من سبق قلم المقرّر رحمه الله لأنّ المهمّ والمیزان فی الجریان هو لحاظ الصفة نعتاً للذات ؛ بأن تکون الذات الموصوفة موضوعاً للحکم ، لا الذات والصفة ، فإن لوحظ شیئان علی نعت الاتصاف ـ بأن لوحظت الذات موصوفة ، لا الذات والصفة ـ فلا یکاد یجری الاستصحاب إلاّ علی الأصل المثبت ؛ من غیر فرق فی ذلک بین کونهما من قبیل العرض ومحلّه ، أو من قبیل الجوهرین ، أو العرض لمحلّین ، أو من الجوهر والعرض لمحلّ آخر ، أو من
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 421
العرضین لمحلّ واحد ، وقد أشرنا إلی وجهه آنفاً ، فلاحظ .
وأمّا إن لم یلحظ کذلک ، بل لوحظ الموضوع مرکّباً من الذات والصفة ، فلا ینبغی الإشکال فی جریان الأصل فیه ، فلا ینبغی التفصیل بین العرض ومحلّه ، وبین غیره ، بل الحقیق التفصیل بین صورة اتصاف الموضوع بصفة ، وبین غیره .
هذا، ولا یذهب علیک : أنّ هذا الإشکال غیر مهمّ وأشبه بالإشکال اللفظی منه بغیره.
و ثانیاً : أنّه لاسبیل إلی التفصیل الذی ذکره فی العامّ المخصّص ، وإنّما یتمشّی فی غیره إذا اُخذ جزءان فصاعداً موضوعاً للحکم ؛ وذلک لأنّ لنطاق موضوع العامّ فی قوله : «أکرم کلّ عالم» مثلاً قبل التخصیص سعة ؛ لشموله لکلّ فرد من أفراد العلماء ، وبعد التخصیص یتضیّق نطاق ذاک الموضوع لبّاً وجدّاً ، فیصیر الموضوع العالم العادل ، أو غیر الفاسق .
وبالجملة : لم یبق موضوع العامّ المخصّص علی ما هو علیه قبل التخصیص ، بل یصیر مضیّقاً ومقیّداً بحسب اللبّ ؛ من غیر فرق فی ذلک بین کون عنوان المخصّص ، من قبیل أوصاف نفس عنوان العامّ ، أو من الأوصاف اللاحقة له ، وعلی الثانی لا فرق فیه بین کون الصفة من الأوصاف الحقیقیة کالفسق ، أو من الأوصاف الانتزاعیة ، کلحاظ حال فوران ماء الفرات لوجوب إکرام العالم ؛ فإنّها أیضاً من الانقسامات اللاحقة لموضوع العامّ ، خلافاً لهذا المحقّق قدس سره حیث جعله من مقارنات الموضوع .
وبعبارة أوضح : لا سبیل فی العامّ المخصّص أن یقال إنّ جدّ المولی تارة : یتعلّق بالموضوع المتصف والمتقیّد واُخری : یتعلّق بالموضوع المرکّب من جزءین ، بل فی جمیع الموارد ، یکشف المخصّص عن کونه بحسب الجدّ متقیّداً أو متصفاً .
ولعلّ منشأ ما ذکره قدس سره هو تخیّل أنّ مقتضی التقیید ، صیرورة الجوهر نعتاً
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 422
لجوهر ، أو العرض نعتاً لعرض آخر . . . إلی غیر ذلک ، مع أنّه لم یرد القائل بالتقیید ذلک ، کما لا یخفی .
وثالثاً : أنّ ما وجّه به مقال المشهور فی غیر محلّه ؛ لأنّه إمّا یقال : إنّ المستفاد من قوله علیه السلام : «علی الید . . . » خصوص الید العادیة ، وواضح أنّه من قبیل وصف الشیء وذاته ، فتکون الید العادیة عبارة عن الاستیلاء علی الشیء مع عدم إذن المالک ، فلا یجری الاستصحاب .
أو یقال : إنّ المستفاد منه الأعمّ منها ومن المأذونة ، غایة الأمر ورد من الخارج أنّ الید الأمینة لا ضمان علیها ، فبعد التخصیص تبقی الید غیر الأمینة موضوعاً لدلیل الضمان ؛ لأنّه عبارة عن عنوان الید غیر الأمینة ، ولیس مرکّباً من الید وعدم الأمانة ، وقد صرّح قدس سره بعدم جریان الأصل فیما لو کان الأثر مترتّباً علی العنوان البسیط المنتزع من المتصف بالصفة .
فظهر : أنّ فتوی المشهور بالضمان فی الید المشکوکة ، لیس لما ذکره قدس سره .
مضافاً إلی أنّ المستفاد من دیدن قدماء الأصحاب ، عدم اعتنائهم بهذه المباحث التی عنونها المتأخّرون ، وعدم بنائهم حلّ المسائل والمشاکل علی أمثال هذه المطالب ، کما لعلّه غیر خفی علی من له إلمام بکلماتهم ، فقولهم بالضمان لابدّ وأن یکون مستنداً إلی أمر آخر ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 423