المقدّمة الخامسة : فی اعتبارات موضوع العامّ المخصّص
قد أشرنا إلی أنّ موضوع الحکم ـ جدّاً وواقعاً ـ فی العامّ المخصّص المتصل أو المنفصل ، لیس جمیع الأفراد المندرجة تحت العامّ ، بل الموضوع هو الأفراد الباقیة بعد التخصیص ؛ وذلک لأنّ المولی الملتفت إلی موضوع حکمه ، لا تکاد تتعلّق إرادته الجدّیة بالحکم علیه إلاّ بعد تحقّق المقتضی وعدم المانع ، فلو کان المقتضی لوجوب الإکرام مثلاً موجوداً فی جمیع أفراد العلماء ، فلا وجه لذکر المخصّص ، وأمّا إن کان المقتضی منحصراً فی عدول العلماء ، وکان لإکرام فسّاقهم مفسدة ملزمة ، أو کان فی إکرامهم مصلحة ، إلاّ أنّه مع مفسدة راجحة ، فلا تتعلّق إرادته الجدّیة بإکرام جمیع العلماء ؛ لأنّ الحکم علیهم حینئذٍ حکم بلا ملاک ، فیکون جزافاً ، فموضوع حکم العامّ جدّاً بطروّ التخصیص ـ ولو منفصلاً ـ هو ما بقی بعد التخصیص .
وبالجملة : إنّ التخصیص مطلقاً ، یکشف عن تضییق ما هو موضوع العامّ بحسب الإرادة الجدّیة ، ولا یمکن تعلّق الحکم الفعلی الجدّی بوجوب إکرام کلّ عالم بلا قید مع کونه مخصّصاً بعدم إکرام الفسّاق منهم ، بل الحکم تعلّق بإکرام عدولهم ، أو ما عدا فسّاقهم .
ولیس ذلک لأجل التضادّ بین الحکمین حتّی یقال : إنّ المحذور یرتفع بتکثّر العنوان ، بل لأجل أنّ الإرادة الجدّیة إذا تعلّقت بحرمة إکرام کلّ واحد من الفسّاق منهم ، تمتنع تعلّق إرادة اُخری بإکرام کلّ واحد من العلماء ـ جدّاً ـ بلا تخصیص مع العلم بأنّ بعض العلماء فاسق ، ویؤول ذلک الامتناع إلی نفس التکلیف .
ولا یقاس المقام بباب التزاحم ؛ إذ المولی لم یحرز فی الأفراد المخصّصة مصلحة ، بل ربما أحرز مفسدة فی إکرامهم ، فلا یعقل عند ذلک فعلیة الحکم فی حقّهم ، بخلاف
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 411
المتزاحمین ، فعند ذلک یسقط ما ربما یقال : من أنّ المزاحمة فی مقام العمل لا توجب رفع فعلیة الحکم عن موضوعه .
وعلی کلّ : إنّ موضوع العامّ ـ بحسب الإرادة الجدّیة ومتن الواقع ـ بعد التخصیص یتصوّر علی أحد وجوه أربعة :
الأوّل : أن یکون الموضوع متقیّداً بالعدم النعتی علی حذو العدول ؛ أعنی علی نحو الإیجاب العدولی ، نحو «العلماء غیر الفسّاق أکرمهم» أو «المرأة غیر القرشیة تری الدم إلی خمسین» .
الثانی : أن یکون موضوع العامّ متقیّداً بالعدم النعتی علی حذو السالبة المحمول ؛ أعنی الموجبة السالبة المحمول ، نحو «العلماء الذین لا یکونون فسّاقاً أکرمهم» أو «المرأة التی لا تکون قرشیة تری الدم إلی خمسین» .
الثالث : أن یکون موضوع العامّ علی حذو السالبة المحصّلة مع وجود الموضوع ، نحو «العلماء الموجودون إذا لم یکونوا فسّاقاً أکرمهم» أو «المرأة الموجودة إذا لم تکن من قریش تری الدم إلی خمسین» ویمکن إرجاع هذا إلی الوجه الثانی .
الرابع : أن یکون موضوع العامّ علی حذو السالبة المحصّلة الأعمّ من وجود الموضوع ، نحو «العلماء إذا لم یکونوا فسّاقاً أکرمهم» أو «المرأة إذا لم تکن من قریش تری الدم إلی خمسین» .
هذه هی الوجوه المتصوّرة .
ولکن لا سبیل إلی الرابع ؛ لأنّ جعل الحکم الإیجابی علی موضوع فی حال عدمه ، محال ، والحکایة بالإیجاب عن موضوع معدوم ، حکایة عن أمر محال ؛ لأدائها فی المثال المعروف إلی أنّه إذا لم تکن المرأة قرشیة وکانت غیر موجودة ، فهی تری الدم إلی خمسین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 412
فإذن السالبة المحصّلة بما أنّها تصدق بانتفاء الموضوع ، یمتنع أن تقع موضوعاً لحکم إیجابی ، وأمّا غیره من الوجوه والاعتبارات ، فیمکن أخذها قیداً لموضوع العامّ المخصّص .
وبالجملة : فالاعتبارات التی یمکن أخذها قیداً لموضوع العامّ المخصّص إمّا العدم النعتی العدولی ، أو السالبة المحمول ، أو السالبة المحصّلة بشرط اعتبار وجود الموضوع ، وإلاّ یلزم جعل الحکم علی المعدوم ، وعدم إرجاعه إلی التقیید والنعت ، وإلاّ یرجع إلی السالبة المحمول .
إذا عرفت هذه المقدّمات التی ذکرنا بعضها تبرّعاً واستیفاء لحکم الأقسام فنقول : علی تقدیر کون موضوع حکم العامّ المخصّص ، الموجبة المعدولة المحمول ، أو الموجبة السالبة المحمول ، أو السالبة المحصّلة مع حفظ الموضوع ، فهل یجری استصحاب العدم الأزلی مطلقاً ، أو لا یجری کذلک ، أو یفصّل بین الموارد؟ وجوه ، أقواها الأخیر .
والکلام تارة : فی الأوصاف والعناوین العرضیة المقارنة لموصوفها المعنون بها .
واُخری : فی الأوصاف اللازمة والعناوین اللازمة لموصوفها والمعنون بها .
فالکلام یقع فی مقامین .
المقام الأوّل : فی الأوصاف والعناوین العرضیة
إنّ موضوع حکم العامّ بعد التخصیص ، لا یخلو إمّا أن یکون مرکّباً من جزءین ، کالعالم ، وغیر الفاسق ، أو موصوفاً ومتقیّداً بقید ، کالعالم غیر الفاسق .
فعلی الأوّل ، کما یمکن إحراز کلا الجزءین بالأصل إن کان لهما حالة سابقة ، وینقّح بذلک موضوع دلیل العامّ ، فکذلک إن کان لأحدهما حالة سابقة ، وکان الآخر محرزاً بالوجدان ، حیث ینقّح بذلک موضوع دلیل العامّ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 413
وعلی الثانی ، إن کان لکلّ من الصفة والموصوف وتقیید الصفة بالموصوف ، حالة سابقة ـ بأن کان زید سابقاً عالماً ، أو غیر فاسق فی زمان ، فشکّ فیه بعد ـ فیمکن إجراء الأصل ، فینقّح به موضوع دلیل العامّ .
وأمّا إن لم یکن کذلک ؛ سواء کانت الصفة معلومة سابقاً دون الموصوف ، بأن کان المعلوم سابقاً عدم فسقه أو عدالته ، أو کان الموصوف معلوماً دون الصفة ؛ بأن کان المعلوم سابقاً أنّه عالم ، أو کان کلّ من الصفة والموصوف معلوماً ، ولکنّ الاتصاف غیر معلوم ؛ بأن علم أنّ زیداً عالم یوم الخمیس ، ثمّ علم یوم الجمعة أنّه غیر فاسق ، ولکن لم یکن علمه فی حال عدم فسقه متیقّناً ؛ حتّی یکون المعلوم العالم غیر الفاسق ، فشکّ یوم السبت فی بقائهما ، فلا یکاد یجری الأصل فی شیء من الموارد لتنقیح موضوع دلیل العامّ ؛ وذلک لأنّ عنوان موضوع العامّ الذی یکون حجّة ، هو عنوان «العالم العادل» أو «العالم غیر الفاسق» فکلّما اقتضی الأصل إثبات هذا العنوان ، لما کان إشکال فی إجرائه ؛ وذلک فیما إذا علم کون الفرد الموجود متصفاً فی زمان واحد بعنوان «العالم» وغیر متصف بعنوان الخاصّ سابقاً ؛ بحیث کان غیر فاسق فی زمان ، فشکّ بعد ذلک فی انقلاب أحد القیدین إلی ضدّه .
وأمّا إذا کان المعلوم سابقاً عدالة زید دون علمه ، أو علمه دون عدالته ، أو عدالته وعلمه ولکن لم یکن علمه فی حال عدم فسقه متیقّناً ، فلا یکاد یحرز بذلک موضوع دلیل العامّ إلاّ بالأصل المثبت ؛ لأنّ غایة ما یقتضیه استصحاب عدالة زید ـ فیما إذا علم بعدالته سابقاً ـ هی بقاء عدالته ، وهذا العنوان لم یکن موضوعاً لحکم شرعی ، والموضوع لذلک إنّما هو عنوان «العادل» فإنّ موضوع جواز الاقتداء وصحّة الشهادة والتقلید وغیرها ، هو عنوان «العادل» لا العدالة . نعم مقتضی العلم بعدالة زید وإن أثبت عقلاً کونه عادلاً ، ولکنّه مثبت ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 414
و کذا فیما إذا علم أنّ زیداً غیر فاسق فی زمان ، ولکن لم یکن علمه فی حال عدم فسقه متیقّناً ، بل علم أنّه عالم فی الحال ؛ لأنّ استصحاب عدم کون زید فاسقاً أو غیر فاسق مع العلم بأنّه عالم فی الحال ؛ وإن کان یلزمه عقلاً أنّ زیداً العالم غیر فاسق علی نحو النعت والتقیید ، ولکنّه مثبت .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّه لا یکاد یجدی إحراز موضوع العامّ بالأصل و الوجدان إذا کان الموضوع متصفاً ومتقیّداً بقید . نعم إذا کان الموضوع مرکّباً من جزءین ، فیمکن إحرازه بالأصل والوجدان .
و لا یخفی : أنّه یمکن استظهار کون الموضوع متصفاً أو متقیّداً ؛ فیما إذا کان دلیل العامّ بعد التخصیص ، موجبة معدولة المحمول ، أو موجبة سالبة المحمول ، وأمّا استظهار کون الموضوع مرکّباً ، فمرهون بکون موضوع دلیل العامّ سالبة محصّلة .
هذا فی المقام الأوّل ؛ وهو فیما إذا کان الوصف من الأوصاف العرضیة المقارنة لموصوفها .
المقام الثانی : فی الأوصاف والعناوین اللازمة لموصوفها
قد یکون الاتصاف أو عدمه من العناوین اللازمة لوجود المعنون ، کالقرشیة واللاقرشیة فی المرأة ، فإنّها إن تکوّنت من ماء من انتسب إلی قریش فهی قرشیة ، وإلاّ فغیر قرشیة ، وکقابلیة الحیوان للذبح أو عدمها فی الحیوان ، وکمخالفة الشرط للکتاب أو عدمها . . . إلی غیر ذلک ، فیقع الکلام فی إمکان إحراز موضوع دلیل العامّ بالأصل والاستصحاب وعدمه .
والتحقیق : یقتضی عدم إمکان جریان الأصل مطلقاً ؛ سواء کان موضوع دلیل العامّ فی مسألة القرشیة لُبّاً بعد التخصیص ، المرأة غیر القرشیة علی نعت الموجبة المعدولة المحمول ، أو المرأة التی لیست من قریش علی نعت الموجبة السالبة المحمول ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 415
أو المرأة لیست بقرشیة علی نعت السالبة المحصّلة ؛ وذلک :
أمّا علی الأوّلین فواضح ؛ لأنّه علی کلیهما ینطبق ویتصف الموضوع لُبّاً بصفة عدمیة ، فإنّه کما یکون الموضوع فی المعدولة المرأة المتصفة بأنّها غیر قرشیة ، فکذلک فی سالبة المحمول تکون المرأة متصفة بأنّها لیست قرشیة ، ولا فرق بینهما فیما هو المهمّ فی المقام .
وتوهّم : أنّ وزان الثانیة وزان السالبة المحصّلة التی لا توجب تقییداً .
مدفوع : بأنّه ناشئ من الغفلة وخلط اعتبار الموجبة السالبة المحمول بالسالبة المحصّلة ، وما لا تقیید فیها هی الثانیة ، دون الاُولی ، کما لا یخفی .
فالإرادة الجدّیة بعد التخصیص ، تعلّقت بالموضوع المتّصف إمّا بنحو الموجبة المعدولة المحمول ، أو بنحو الموجبة السالبة المحمول ، ففی کلیهما اتصاف ، ومقتضی اتصاف الموضوع بوصف ـ ولو کان الوصف عدمیاً ـ هو وجوده فی الخارج ؛ لقاعدة الفرعیة ، لأنّ المعدوم المطلق باطل محض ولا شیء صرف ، وما شأنه کذلک لا یعقل الإخبار عنه ، ولا اتصافه بشیء ، ومعلوم أنّ الموضوع المتصف لم تکن له حالة سابقة متیقّنة حتّی تستصحب ؛ لأنّه لم یعلم فی زمان أنّ هذه المرأة المشکوک کونها قرشیة أم لا ، متصفة بغیر القرشیة ، أو بأنّها لیست بقرشیة ؛ لأنّ هذه الأوصاف ملازمة لوجود الفرد من مبدأ تکوّنه لا ینفکّ عنه ، لأنّها إن تکوّنت من ماء من انتسب إلی قریش فقرشیة ، وإلاّ فغیر قرشیة .
و أمّا علی الثالث ـ أعنی ما إذا کان اعتبار القید علی نعت السالبة المحصّلة ـ فإن کان قسماً علی حدة ، فقد عرفت أنّها تتصوّر علی نحوین :
الأوّل : السالبة مع اعتبار وجود الموضوع .
الثانی : السالبة الأعمّ منه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 416
لا سبیل إلی الثانی ؛ لأنّه وإن لم توجب السالبة المحصّلة تقییداً فی الموضوع ، فلا یحتاج فی صدقه من هذه الجهة إلی وجود الموضوع ، إلاّ أنّه حیث وقع موضوعاً لحکم إیجابی هو حکم العامّ ـ أعنی رؤیة الدم فی المثال ـ فلابدّ له من اعتبار وجود فیها ، وإلاّ یلزم أن تری المرأة الدم فی حال العدم ، والشرط فی حال العدم مخالف للکتاب ، فإذن یرد علیه ما ورد علی الأوّلین من انتفاء حالة سابقة یقینیة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 417