المقدّمة الاُولی : فیما اشتهر من أنّ القضایا برمّتها مشتملة علی النسبة
قد اشتهر بینهم : «أنّ القضایا برمّتها ، مشتملة علی النسبة فی موجباتها وسوالبها بأقسامها» وأرسلوها إرسال المسلّمات ، وبنوا علیه ما بنوا .
ولکن التحقیق : ـ کما تقدّم فی وضع الهَیَئات ـ أنّه علی إطلاقه غیر مستقیم ؛ لأنّ القضایا علی قسمین : حملیة حقیقیة غیر مأوّلة ، وحملیة مأوّلة :
والقسم الأوّل : هی التی یکون مفادها الهوهویة والإخبار بأنّ الموضوع هو المحمول ؛ بلا تخلّل أداة فی حمل المحمول علی الموضوع ، کقوله : «الإنسان حیوان ناطق» و«زید إنسان» أو «موجود» أو «أبیض» .
والقسم الثانی : ما لم تکن کذلک ، فیتخلّل ویتوسّط بین المحمول والموضوع أداة ، نحو «زید علی السطح» و«زید له القیام» .
ولا نسبة فی القضایا التی یکون مفادها الهوهویة ؛ لأنّ القضیة الملفوظة تحکی عن القضیة الذهنیة ، وهی عن الخارجیة ، ومعلوم أنّه لم یکن فی الخارج فی قولک : «زید إنسان» ثلاثة أشیاء : موضوع ، ومحمول ، ونسبة ؛ حتّی تحکی القضیة الملفوظة عنها ، أتری من نفسک أنّ فی قولک : «زید زید» نسبة؟! کلاّ ، إنّ تحقّق النسبة بین الشیء ونفسه ممتنع ، وکذا فی قولک : «زید قائم» لم یکن فی الخارج وراء زید شیء بعنوان «القائم» حتّی یحمل وینسب لزید ، والمراد بقولک هذا هو أنّ القیام والوصف العرضی حاصل لزید ؛ لأنّ القائم هو الذات المتصفة .
ولو اُغمض عمّا ذکرنا ، فهل تری فی قولک : «الله تعالی موجود»أنّ فی الخارج
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 404
ذاتاً مقدّسة ، وثبت الوجود لها؟! ولذا لو قلنا : «إنّ الله تعالی له الوجود» لکانت قضیة کاذبة . بل لعلّ التلفّظ بها مع الالتفات إلی ما تتضمّنه ، موجب للکفر ، فتأمّل .
وعلیه فمقتضی مطابقة القضیة الحاکیة للخارج ، عدم وجود ما یدلّ علی النسبة فیها ، بل غایة ما تدلّ علیه الهیئة فی أمثال هذه القضایا ، هی الحکایة عن الهوهویة ؛ وأنّ الموضوع هو المحمول خارجاً .
فظهر : أنّ ما اشتهر بینهم : «من أنّ القضایا برمّتها مشتملة علی النسبة» غیر مستقیم علی إطلاقه ، نعم فی القضایا الحملیة المأوّلة ، تکون فیها النسبة ؛ فإنّ فی قولک : «زید له البیاض» یکون فی الخارج ذات زید تحکی عنه لفظة «زید» وبیاض تحکی عنه لفظة «البیاض» وانتساب البیاض لزید تحکی عنه کلمة «له» ففی مثل هذه القضایا یکون لکلّ من القضیة الملفوظة والذهنیة والخارجیة ، نسبة . هذا فی الموجبات بقسمیها .
وأمّا القضایا السالبة مطلقاً ـ سواء کانت من الحملیة الحقیقیة غیر المأوّلة ، أو الحملیة المأوّلة فلا تشتمل علی النسبة أصلاً ؛ فإنّ الهیئة فیها لسلب النسبة ، أو نفی الهوهویة .
نعم ، القضیة السالبـة المأوّلـة وإن کانت مشتملـة ظاهراً علی النسبـة ، إلاّ أنّـه جیئ بهـا لسلب النسبـة وقطعهـا ، فالنسبـة بمعنی موجـود ، وبمعنی آخـر غیر موجود ، فتدبّر .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ القضایا علی قسمین : حملیة غیر مأوّلة ، وحملیة مأوّلة ، وموجبات القسم الثانی مشتملة علی النسبة فقط ، وأمّا سوالبها مطلقاً فلا تکون فیها النسبة ، فجیئ بحرف الربط فیها لقطع النسبة والربط ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 405
المقدّمة الثانیة : مناط احتمال الصدق والکذب فی القضیة ومناط صدقها وکذبها
أمّا مناط احتمال الصدق والکذب فی القضیة ، فالمشهور علی أنّ القضیة إن اشتملت علی النسبة التامّة ، فهی محتملة لهما ، وإلاّ فلا ، ولکنّه غیر سدید ؛ لأنّه کثیراً ما تکون لنا قضایا غیر مشتملة علی النسبة ، فضلاً عن کونها تامّة ، ومع ذلک تحتمل الصدق والکذب ، کالقضایا الحملیة غیر المأوّلة ، والسوالب برمّتها ، فإنّها ـ کما أشرنا إلیه فی المقدّمة السابقة ـ غیر مشتملة علی النسبة ، ومع ذلک تحتمل الصدق والکذب .
فالمناط فی ذلک ، إنّما هو الحکایة التصدیقیة عن نفس الأمر ؛ فکلّ قضیة إذا کانت مشتملة علی الحکایة التصدیقیة ؛ أعنی بها ما یفید فائدة تامّة یصحّ السکوت علیها ، سواء تعلّقت بالهوهویة ؛ أی بأنّ هذا ذاک تصدیقاً ، کقولک : «زید إنسان» أو سلب الهوهویة ونفی هذا عن ذاک ، کقولک : «زید لیس بحجر» أو تعلّقت بالکون الرابط علی نحو الإثبات ، کقولک : «زید فی الدار» أو علی نحو النفی ، کقولک : «زید لیس فی الدار» ففی جمیع ذلک یحتمل الصدق والکذب .
وإن خلا الکلام عن ذلک ، سواء دلّ علی الاتحاد التصوّری ، کقولک : «زید العالم» أو علی النسبة التصوّریة ، کما فی الإضافات ـ فینتفی مناط احتمال الصدق والکذب .
وبالجملة : مناط احتمال الصدق والکذب ، هو ما إذا حکت القضیة حکایة تصدیقیة عن نفس الأمر ؛ سواء اشتملت علی النسبة ، أم لا ، ولذا لو اُلقیت القضیة بصورة الشکّ والتردید فقیل : «لا أدری أقائم زید أم قاعد» لا یکون فیها احتمال الصدق والکذب ؛ لعدم الحکایة التصدیقیة فیها مع اشتمال القضیة علی النسبة .
نعم ، حیث إنّه لنفی جملة «لا أدری» حکایة تصدیقیة ـ لأجل أنّها تحکی عن حالة فی النفس ـ فیکون لها احتمال الصدق والکذب .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 406
ولا یذهب علیک : أنّه لا یتوقّف احتمال الصدق والکذب ؛ علی الجزم الواقعی والتصدیق به کذلک ، بل غایة ما یعتبر هی القضیة بصورة الجزم . هذا کلّه فی مناط احتمال الصدق والکذب .
وأمّا مناط صدق القضیة وکذبها ـ أی بما تصیر القضیة صادقة أو کاذبة ـ فهو عبارة عن مطابقة الحکایة التصدیقیة لنفس الأمر وعدمها ، فإذا لوحظت صفحة الوجود والخارج ، یُری أنّ بعض الأشیاء له تحقّق ووجود فیها ، وبعضها لا تحقّق له فیها ، فإذا اُلقیت قضیة ـ سواء کانت بصورة الحملیة غیر المأوّلة ، أو المأوّلة ـ فإن طابقت المحکی وصفحة الوجود فهی صادقة ، وإلاّ فکاذبة . فمثلاً : الوجود عین ذاته المقدّسة ، لا أمر طارئ علی ذاته تعالی ، فإذا قلت : «الله تعالی موجود» تکون القضیة صادقة ؛ لأنّها تحکی حکایة تصدیقیة عن الهوهویة والاتحاد بینهما ، والمحکی أیضاً کذلک ، وأمّا إذا قلت : «الله تعالی له الوجود» فکاذبة ؛ لأنّها تحکی حکایة تصدیقیة عن عروض الوجود له تعالی ، ونفس الأمر والواقع لم یکن کذلک .
هذا حال الموجبات .
وأمّا السوالب ، فحیث إنّه لم یکن للعدم مصداق وواقع ، فمناط صدق القضیة وکذبها هو حکایتها عن سلب الهوهویة ، أو سلب الکون الرابط ، فعدم مصداق واقعی للهوهویة والنسبة فی صفحة الوجود ، مناط لصدق القضیة السالبة ، کما أنّ اشتمال صفحة الوجود علی واحد منهما مناط کذبها .
ولذا فحیث إنّه لیس لذاته المقدّسة شریک فی الخارج وصفحة الوجود خالیة منه ، فإن قلت : «لیس شریک الباری موجوداً» ـ علی نحو السلب التحصیلی ـ تکون القضیة صادقة ؛ لأنّها تحکی حکایة تصدیقیة عن سلب الهوهویة ، ونفس الأمر أیضاً کذلک ، وأمّا إن قلت : «شریک الباری غیر موجود» علی نحو الموجبة المعدولة ، أو
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 407
«لا موجود» علی نحو الموجبة السالبة المحمول ، أو «شریک الباری ممتنع» فکاذبة ؛ لأنّه یعتبر فی صدق القضیة الموجبة وجود الموضوع ؛ لقاعدة الفرعیة ، کما سنشیر إلیها ؛ سواء کانت معدولة المحمول ، أو سالبته ؛ أی سواء کانت معدولة ، أو محصّلة ، ولا موضوع للقضیة فی المقام . نعم ، لو اُوّلت القضیة إلی السالبة المحصّلة ، وقلنا : إنّ المراد بـ «ممتنع» أنّه لیس بموجود البتّة ، تصیر صادقة ، فتدبّر .
فقد ظهر وتحقّق لک : أنّ میزان الصدق والکذب فی القضایا ، هو الحکایة التصدیقیة لنفس الأمر ، لا ما اشتهر بینهم : «من أنّه عبارة عن تطابق النسبة الکلامیة مع النسبة الواقعیة ، وعدمه» لأنّک عرفت أنّه لا یکون للقضایا السالبة نسبة حتّی توافقها أو لا توافقها ، ومع ذلک یکون لها صدق وکذب ، وکذا فی الحملیة غیر المأوّلة ، فإنّها غیر مشتملة علی النسبة ، ومع ذلک یطرأ علیها الصدق والکذب ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 408