تقریب لعدم جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة وردّه
إنّ المحقّق العراقی قدس سره بعد أن نفی بعض الوجوه المستدلّ بها علی عدم جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة قال : «والذی ینبغی أن یقال : هو أنّ الحجّیة بعد ما کانت منحصرة بالظهور التصدیقی المبنی علی کون المتکلّم فی مقام الإفادة والاستفادة ، فإنّما یتحقّق مثل هذا المعنی فی فرض تعلّق قصد المتکلّم بإبراز مرامه باللفظ ، وهو فرع التفات المتکلّم إلی ما تعلّق به مرامه ، وإلاّ فمع جهله به واحتماله خروجه عن مرامه ، فکیف یتعلّق قصده بلفظه وإبرازه؟! ومن المعلوم أنّ الشبهات الموضوعیة طرّاً من هذا القبیل . ولقد أجاد شیخنا الأعظم فیما أفاد فی وجه المنع بمثل هذا البیان . ومرجع هذا الوجه إلی منع کون المولی فی مقام إفادة المرام بالنسبة إلی ما کان هو بنفسه مشتبهاً فیه ، فلا یکون الظهور حینئذٍ تصدیقیاً کی یکون واجداً لشرائط الحجّیة» .
وفیه : أنّ المعتبر فی مقام إعطاء القانون أو الإخبار بجملة کلّیة ، إنّما هو إفادة الکبری الکلّیة ، فإذا قام عنده البرهان علی أنّ کلّ نار حارّة ، یمکنه التصدیق به من دون احتیاج فی ذلک إلی استقراء النیران فی العالم ، والأمر فی الإنشاء أیضاً کذلک ؛ فإنّ المقنّن یری أنّ الوفاء بالعقد مثلاً ، له مصلحة اجتماعیة مثلاً ، فیوجب الوفاء بکلّ عقد من دون ملاحظة الأفراد واستقرائها .
وبالجملة : من أخبر عن کبری کلّیة أو أنشأ حکماً علی موضوع کلّی ، لم یتعلّق غرضـه بالأفراد الخارجیة ، بل لا یمکن أن یتعلّق بها ؛ لأنّ القضیة المحکیة الإخباریة ـ کقولک : «کلّ نار حارّة» ـ لا تحکی إلاّ عن عنوان کلّی ، ولا یعقل أن یتعلّق غرضه
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 378
وإرادته بأکثر ممّا تدلّ علیه تلک الجملة . وکذا القضیة الإنشائیة ـ کقوله تعالی : «أوْفُوا بِالْعُقُودِ» ـ لا تدلّ إلاّ علی وجوب الوفاء بکلّ عقد .
وبعبارة اُخری : أنّ المخبر إذا قال : «کلّ نار حارّة» فلا یکون بصدد بیان أنّ هذه نار ، وتلک نار . . . وهکذا ؛ لخروج بیان الصغریات عن غرض المخبر ، و لا یکون فی مقام الدلالة ما یحکی عنها .
وکذا الأمر فی الإنشاء ، فإنّ من قال : «أکرم کلّ عالم» لیس بصدد أزید من إفادة وجوب إکرام العلماء ، وأمّا أنّ العالم من هو؟ فلا ، بل یمنع أن یکون بصدد إفادته بعد انحصار غرضه فی إفادة الحکم ؛ لأنّه لم یکن بیان الصغری وضعاً و لا رفعاً بیده .
فظهر ممّا ذکرنا : أنّ التفات المتکلّم إلی الأفراد وتشخیص الأفراد عند إعطاء الضابطة والقانون ، غیر لازم ؛ من غیر فرق فی ذلک بین الأفراد المقطوع بها والمشکوکة ، بل اللازم عند ذلک هو إحراز کون الأفراد الواقعیة من العنوان الکلّی ، محکومة بهذا الحکم ، فمثلاً لابدّ لمن قال : «أکرم کلّ عالم» من تشخیص أنّ کلّ فرد من العلماء فیه ملاک الوجوب ، وأمّا أنّ زیداً مثلاً عالم أم لا ، فلا تعرّض له ، ولذا یصحّ منه ذلک وإن اشتبه علیه جمیع أفراد العلماء ، فلا یمکن تشخیص حال الموضوع من إعطاء القاعدة الکلّیة ، ولیس ذلک لعدم التفاته وعلمه ، فإنّ التفاته وعدمه غیر مربوط بها ، ویکون کالحجر إلی جنب الإنسان .
وبعبارة اُخری : لا یدل «أکرم کلّ عالم» دلالة عقلیة ولا لفظیة ولا طبعیة ، علی أنّ زیداً مثلاً عالم ، فعدم تشخیص الفرد لعدم المعقولیة ، لا لعدم العلم .
ولازم قوله قدس سره : «إنّ الظهور التصدیقی إنّما یتحقّق فی فرض تعلّق قصد المتکلّم بإبراز مرامه باللفظ ، وهو فرع التفاته إلی تعلّق مرامه به» ، هو عدم حجّیة العامّ بالنسبة إلی فرد من أفراد العلماء معلومها ومشکوکها ، لما عرفت من أنّه لا یعقل
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 379
أن یکون بصدد بیان الأفراد الخارجیة ، ولا تکون الأفراد الخارجیة ملتفتاً إلیها .
فظهر : أنّ الوجه الذی أفاده قدس سره لعدم جواز التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة ، غیر وجیه .
هذا مضافاً إلی أنّ لازم ما ذکره فی عدم الجواز ، هو أنّه لو اشتبه حال الفرد عند المولی وتردّد فی کون زید عادلاً أم لا ، أو اعتقد أنّه فاسق ، ولکن العبد أحرز عدالته ، أن لا یجب إکرامه ، ولا أظنّ التزامه به . و لو التزم به فلا یکون وجیهاً ؛ لأنّه لا یعد العبد عند ترک إکرامه ، معذوراً وإن اعتذر بأنّ المولی لم یکن فی مقام البیان بالنسبة إلی المشکوک فیه ، ألا تری أنّه إذا قال المولی لعبده : «أنقذ ابنی من الغَرق» فغرق ولده وعلم بذلک عبده ، ولکنّ المولی اعتقد أنّ الغریق عدوّه ، فیجب علیه إنقاذه ، ولا یجوز له ترک إنقاذه معتذراً بأنّ المولی لم یکن فی مقام البیان بالنسبة إلیه . بل علی العبد الإنقاذ وإن نهی المولی عن إنقاذه ؛ فیما إذا تمکّن العبد من إنقاذه مع نهیه .
فظهر ممّا ذکرنا : أنّ علم المولی وجهله بالموضوع ، غیر دخیل فی موضوع الإطاعة وصحّة الاحتجاج وعدمها ، وإنّما ذلک وظیفة العبد ، فکلّ ما أحرز العبد أنّه موضوع لحکم المولی ، یجب علیه إطاعته ، وإلاّ یکون معذوراً . هذا کلّه فی أصل مقاله .
وأمّا نسبة ما ذکره إلی شیخنا الأعظم قدس سره فالذی ببالی ـ حسبما رأیت التقریرات سابقاً أنّ الشیخ الأعظم قدس سره بصدد بیان ما اخترناه ، لا ما اختاره قدس سره والله العالم .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 380