المقصد الرابع فی العامّ والخاصّ

المبحث الأوّل فی حجّیة العامّ المخصّص فی الباقی

المبحث الأوّل فی حجّیة العامّ المخصّص فی الباقی

‏هل العامّ المخصّص حجّة فیما بقی مطلقاً‏ ‏، أو لیس بحجّة کذلک‏ ‏، أو یفصّل بین‏‎ ‎‏المخصّص المتصل‏ ‏، وبین المخصّص المنفصل‏ ‏، فیلتزم بالحجّیة فی الأوّل دون الثانی؟‏‎ ‎‏وجوه‏ ‏، بل أقوال‏ .

‏والحقّ حجّیته فی الباقی عند العقلاء‏ ‏؛ متّصلاً کان المخصّص أو منفصلاً‏ ‏. وفی‏‎ ‎‏المقام شبهة ربما تختلج بالبال‏ ‏، وهی إجمال العامّ بعد التخصیص مطلقاً‏ ‏، فینبغی‏‎ ‎‏الإشارة إلیها‏ ‏، ثمّ دفعها :‏

أمّا الشبهة‏ فحاصلها : أنّ لفظة «کلّ» وغیرها من ألفاظ العموم‏ ‏، وضعت‏‎ ‎‏للاستیعاب والشمول‏ ‏، کما تقدّم‏ ‏، ومدخولها الطبیعة اللابشرط‏ ‏، وبإضافتها إلیها تدلّ‏‎ ‎‏علی استیعاب مدخولها‏ ‏، فمقتضی استعمال کلّ منها فی معناه الموضوع له فی قوله تعالی :‏‎ ‎‏«‏أوْفُوا بِالْعُقُودِ‏»‏‏ مثلاً هو لزوم الوفاء بجمیع العقود‏ ‏، فإذا تعقّبه مخصّص بالنسبة إلی‏‎ ‎‏بعض العقود ـ کالعقد الربوی مثلاً ـ یستکشف من ذلک أنّه لیس المراد بـ‏ ‏«الْعُقُودِ» فی‏‎ ‎‏قوله تعالی جمیع العقود‏ ‏، ولازم ذلک عدم استعمال الألف واللام أو مدخولها فیما وضع‏‎ ‎‏له‏ ‏، بل یکون مستعملاً فی غیر ما وضع له‏ ‏، وحیث إنّه لا قرینة علی تعیّن المعنی‏‎ ‎‏المجازی‏ ‏، فبعد یصیر الکلام مجملاً‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 351
‏وتوهّم : أنّ الباقی أقرب المجازات من المعنی الحقیقی بالنسبة إلی سائر المجازات‏ ‏،‏‎ ‎‏فیحمل علیه بعد رفع الید عن المعنی الحقیقی‏ .

‏مدفوع : بأنّ المعتبر فی استعمال اللفظ فی غیر معناه الموضوع له‏ ‏، هو الاُنس‏‎ ‎‏الطبیعی والمعهودیة الذهنیة بین المعنی الموضوع له والمعنی المستعمل فیه‏ ‏، وهو غیر‏‎ ‎‏مرهون بالأقربیة المقداریة إلی المعنی الحقیقی‏ ‏، فإذن لو علم تخصیص عامّ یستکشف‏‎ ‎‏مجازیته‏ ‏، وحیث لم یعلم حدّ المجاز فیصیر الکلام مجملاً‏ ‏، فلا یکون العامّ المخصّص‏‎ ‎‏صالحاً للاحتجاج به‏ ‏. وهکذا الأمر فی المطلق بعد طروّ التقیید علیه‏ .

‏أضف إلی ذلک ما اشتهر : «من أنّه ما من عامّ إلاّ وقد خصّ‏ ‏، وما من مطلق إلاّ‏‎ ‎‏وقد قیّد» فلا یصحّ الاحتجاج بالعمومات والمطلقات الواردة فی الکتاب والسنّة‏ .

وأمّا حلّ الشبهة ‏، فقد أخذ کلّ منهم فی ذلک طریقاً‏ ‏، وقبل حلّ الشبهة ـ علی‏‎ ‎‏ما اقتضاه النظر ـ ینبغی التنبیه علی أمر‏ ‏؛ وهو أنّه لابدّ للباحث فی أمثال المقام الذی‏‎ ‎‏هو باب الحجّة والاحتجاج‏ ‏، من أن یرجع قبل کلّ شیء إلی نظر العرف والعقلاء‏‎ ‎‏فیتبعهم‏ ‏، ویقتفی أثرهم فی کلّ ما اقتضاه نظرهم وبنوا علیه‏ ‏؛ ولو لم یعرف سِرّ ما بنوا‏‎ ‎‏علیه‏ ‏، ولا نحتاج إلی تجشّم تحلیل الأمر مدرسیّاً‏ ‏؛ وإن لم یخلُ تحلیله فی حدّ نفسه من‏‎ ‎‏فائدة‏ ‏، وأمّا إذا لم یکن بناء منهم فی مورد بل کانوا متوقّفین فیه‏ ‏، فلا فائدة فی تحلیل‏‎ ‎‏البحث مدرسیّاً‏ ‏، کما لا یخفی‏ .

‏فإذن نقول : العرف والعقلاء ببابک وعلی مرأی ومسمع منک‏ ‏، فلو اختبرت‏‎ ‎‏حالهم لرأیت ارتکازهم قد استقرّ فی المخصّص المتصل ـ کالاستثناء ـ علی حجّیة العامّ‏‎ ‎‏بعد التخصیص فی الباقی‏ ‏، ولا ینقدح خلاف ذلک فی ذهنهم‏ ‏، ولو توقّف أحد فی مراد‏‎ ‎‏مولاه من قوله : «أکرم کلّ عالم فی البلد إلاّ الفسّاق منهم» معتذراً : بأنّی لم‏ ‏أفهم بعد‏‎ ‎‏التخصیص مراد المولی‏ ‏، لاستنکروه أشدّ الإنکار‏ ‏، ولو أکرم بعض العلماء دون بعض‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 352
‏لما قبلوه منه‏ ‏، ولما رأوا له حجّة علی مولاه‏ ‏، بل یرون لمولاه حجّة بالغة علیه‏ .

وهکذا‏ الأمر فی المقیّد المتصل کـ‏ ‏«أکرم العالم العادل» فإنّه بعد تمامیة مقدّمات‏‎ ‎‏الإطلاق بالنسبة إلی المقیّد‏ ‏، یرونه حجّة بالنسبة إلی غیره‏ .

وأمّا‏ المخصّص المنفصل ـ کما إذا قال : «لا تکرم فسّاق العلماء» بعد قوله :‏‎ ‎‏«أکرم العلماء» ـ فهو نظیر المخصّص المتصل عندهم فی حجّیة العامّ فی الباقی‏ ‏. ومثله‏‎ ‎‏المقیّد المنفصل‏ .

‏ولعمر الحقّ : إنّ ما ذکرناه فی حجّیة العامّ المخصّص والمطلق المقیّد فیما بقی فی‏‎ ‎‏المتصل والمنفصل‏ ‏، أمر واضح لا ریب فیه عند العرف والعقلاء‏ ‏، فإن لم‏ ‏یمکننا تحلیل‏‎ ‎‏ذلک تحلیلاً مدرسیّاً‏ ‏، فلا یوجب توقّفنا فی العمل فیما بقی‏ ‏، کما أنّه لو لم یمکننا معرفة‏‎ ‎‏سرّ أصالة الصحّة والید وحجّیة خبر الواحد ونحوها عند العقلاء‏ ‏، لما أوجب ذلک‏‎ ‎‏تحیّرنا فی العمل بها وترتّب الآثار المطلوبة علی تلک القواعد‏ .

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 353