المبحث الأوّل فی حجّیة العامّ المخصّص فی الباقی
هل العامّ المخصّص حجّة فیما بقی مطلقاً ، أو لیس بحجّة کذلک ، أو یفصّل بین المخصّص المتصل ، وبین المخصّص المنفصل ، فیلتزم بالحجّیة فی الأوّل دون الثانی؟ وجوه ، بل أقوال .
والحقّ حجّیته فی الباقی عند العقلاء ؛ متّصلاً کان المخصّص أو منفصلاً . وفی المقام شبهة ربما تختلج بالبال ، وهی إجمال العامّ بعد التخصیص مطلقاً ، فینبغی الإشارة إلیها ، ثمّ دفعها :
أمّا الشبهة فحاصلها : أنّ لفظة «کلّ» وغیرها من ألفاظ العموم ، وضعت للاستیعاب والشمول ، کما تقدّم ، ومدخولها الطبیعة اللابشرط ، وبإضافتها إلیها تدلّ علی استیعاب مدخولها ، فمقتضی استعمال کلّ منها فی معناه الموضوع له فی قوله تعالی : «أوْفُوا بِالْعُقُودِ» مثلاً هو لزوم الوفاء بجمیع العقود ، فإذا تعقّبه مخصّص بالنسبة إلی بعض العقود ـ کالعقد الربوی مثلاً ـ یستکشف من ذلک أنّه لیس المراد بـ «الْعُقُودِ» فی قوله تعالی جمیع العقود ، ولازم ذلک عدم استعمال الألف واللام أو مدخولها فیما وضع له ، بل یکون مستعملاً فی غیر ما وضع له ، وحیث إنّه لا قرینة علی تعیّن المعنی المجازی ، فبعد یصیر الکلام مجملاً .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 351
وتوهّم : أنّ الباقی أقرب المجازات من المعنی الحقیقی بالنسبة إلی سائر المجازات ، فیحمل علیه بعد رفع الید عن المعنی الحقیقی .
مدفوع : بأنّ المعتبر فی استعمال اللفظ فی غیر معناه الموضوع له ، هو الاُنس الطبیعی والمعهودیة الذهنیة بین المعنی الموضوع له والمعنی المستعمل فیه ، وهو غیر مرهون بالأقربیة المقداریة إلی المعنی الحقیقی ، فإذن لو علم تخصیص عامّ یستکشف مجازیته ، وحیث لم یعلم حدّ المجاز فیصیر الکلام مجملاً ، فلا یکون العامّ المخصّص صالحاً للاحتجاج به . وهکذا الأمر فی المطلق بعد طروّ التقیید علیه .
أضف إلی ذلک ما اشتهر : «من أنّه ما من عامّ إلاّ وقد خصّ ، وما من مطلق إلاّ وقد قیّد» فلا یصحّ الاحتجاج بالعمومات والمطلقات الواردة فی الکتاب والسنّة .
وأمّا حلّ الشبهة ، فقد أخذ کلّ منهم فی ذلک طریقاً ، وقبل حلّ الشبهة ـ علی ما اقتضاه النظر ـ ینبغی التنبیه علی أمر ؛ وهو أنّه لابدّ للباحث فی أمثال المقام الذی هو باب الحجّة والاحتجاج ، من أن یرجع قبل کلّ شیء إلی نظر العرف والعقلاء فیتبعهم ، ویقتفی أثرهم فی کلّ ما اقتضاه نظرهم وبنوا علیه ؛ ولو لم یعرف سِرّ ما بنوا علیه ، ولا نحتاج إلی تجشّم تحلیل الأمر مدرسیّاً ؛ وإن لم یخلُ تحلیله فی حدّ نفسه من فائدة ، وأمّا إذا لم یکن بناء منهم فی مورد بل کانوا متوقّفین فیه ، فلا فائدة فی تحلیل البحث مدرسیّاً ، کما لا یخفی .
فإذن نقول : العرف والعقلاء ببابک وعلی مرأی ومسمع منک ، فلو اختبرت حالهم لرأیت ارتکازهم قد استقرّ فی المخصّص المتصل ـ کالاستثناء ـ علی حجّیة العامّ بعد التخصیص فی الباقی ، ولا ینقدح خلاف ذلک فی ذهنهم ، ولو توقّف أحد فی مراد مولاه من قوله : «أکرم کلّ عالم فی البلد إلاّ الفسّاق منهم» معتذراً : بأنّی لم أفهم بعد التخصیص مراد المولی ، لاستنکروه أشدّ الإنکار ، ولو أکرم بعض العلماء دون بعض
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 352
لما قبلوه منه ، ولما رأوا له حجّة علی مولاه ، بل یرون لمولاه حجّة بالغة علیه .
وهکذا الأمر فی المقیّد المتصل کـ «أکرم العالم العادل» فإنّه بعد تمامیة مقدّمات الإطلاق بالنسبة إلی المقیّد ، یرونه حجّة بالنسبة إلی غیره .
وأمّا المخصّص المنفصل ـ کما إذا قال : «لا تکرم فسّاق العلماء» بعد قوله : «أکرم العلماء» ـ فهو نظیر المخصّص المتصل عندهم فی حجّیة العامّ فی الباقی . ومثله المقیّد المنفصل .
ولعمر الحقّ : إنّ ما ذکرناه فی حجّیة العامّ المخصّص والمطلق المقیّد فیما بقی فی المتصل والمنفصل ، أمر واضح لا ریب فیه عند العرف والعقلاء ، فإن لم یمکننا تحلیل ذلک تحلیلاً مدرسیّاً ، فلا یوجب توقّفنا فی العمل فیما بقی ، کما أنّه لو لم یمکننا معرفة سرّ أصالة الصحّة والید وحجّیة خبر الواحد ونحوها عند العقلاء ، لما أوجب ذلک تحیّرنا فی العمل بها وترتّب الآثار المطلوبة علی تلک القواعد .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 353