المقصد الرابع فی العامّ والخاصّ

أقسام المطلق

أقسام المطلق

‏وأمّا المطلق‏ ‏، فقال المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ فی آخر مبحث المطلق والمقیّد تحت‏‎ ‎‏عنوان «تبصرة لا تخلو من تذکرة» ما حاصله : أنّ قضیّة مقدّمات الحکمة تختلف‏‎ ‎‏حسب اختلاف المقامات‏ ‏؛ فإنّها تارة : یکون حملها علی العموم البدلی‏ ‏، واُخری : علی‏‎ ‎‏العموم الاستیعابی‏ ‏، وثالثة : علی نحو خاصّ ممّا ینطبق علیه‏ ‏؛ حسب اقتضاء خصوص‏‎ ‎‏المقام واختلاف الآثار والأحکام‏ ‏، کما هو الحال فی سائر القرائن بلا کلام‏ ‏، فمقتضی‏‎ ‎‏الحکمة فی قوله تعالی :‏‏«‏أحَلَّ الله ُ الْبَیْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَوٰا‏»‏‎[1]‎‏ هو العموم الاستیعابی‏ ‏؛‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 340
‏بلحاظ أنّ إرادة البیع مهملاً أو مجملاً تنافی فرض کونه فی مقام البیان‏ ‏، وإرادة العموم‏‎ ‎‏البدلی لا تناسب المقام‏ ‏، ولا مجال لاحتمال إرادة بیعٍ اختاره المکلّف‏ ‏؛ أیّ بیع کان‏ ‏،‏‎ ‎‏فمقدّمات الحکمة توجب حمل المطلق ـ وهو‏‏«‏‏الْبَیْعَ‏‏»‏‏ ـ علی العموم الاستیعابی‏ ‏؛ لأنّه‏‎ ‎‏المناسب بعد کونه فی مقام البیان‏‎[2]‎‏ ووافقه فی ذلک بعض‏‎[3]‎ .

‏وفیه : أنّه قد أشرنا غیر مرّة إلی أنّ مقتضی جریان مقدّمات الحکمة فی جمیع‏‎ ‎‏الموارد‏ ‏، لیس إلاّ أمراً واحداً‏ ‏؛ وهو کون ما أخذه موضوعاً للحکم‏ ‏، هو تمام الموضوع‏‎ ‎‏لحکمه من دون دخالة أمر آخر‏ ‏، فإن کان المأخوذ موضوعاً ماهیة لا‏ ‏بشرط ـ کما‏‎ ‎‏فی قوله تعالی :‏‏«‏أحَلّ الله ُ الْبَیْعَ‏»‏‏ ـ فمقتضی الحکمة أنّ نفس ماهیة البیع تمام‏‎ ‎‏الموضوع للحکم بالحلّیة‏ ‏، ولا تکون هناک حالة منتظرة فی ترتّب الحلّیة علیه‏ ‏، وأنّی‏‎ ‎‏له وللدلالة علی الاستیعاب؟!‏

‏نعم‏ ‏، حیث إنّ الطبیعة تتکثّر بتکثّر الأفراد‏ ‏، ویری العقل والعقلاء أنّ ما أخذه‏‎ ‎‏موضوعاً للحکم بالحلّیة‏ ‏، موجود فی هذا البیع‏ ‏، وذاک البیع‏ . . ‏. وهکذا‏ ‏، فلا محالة‏‎ ‎‏یحکمون بنفوذ کلّ واحد من أفراد البیوع‏ ‏، ومن المعلوم أنّ استفادة ذلک لیس‏‎ ‎‏بدلالة الإطلاق‏ .

‏وکذلک إذا جعلت النکرة موضوعاً للحکم‏ ‏، کقوله : «‏أعتق رقبة‏» فإنّ مادّة‏‎ ‎‏«الرقبة» تدلّ علی نفس الطبیعة‏ ‏، والتنوین أو التنکیر‏ ‏. یدلّ علی واحد غیر معیّن‏ ‏،‏‎ ‎‏فـ‏ ‏«رقبةٌ» تدلّ ـ بتعدّد الدالّ ـ علی رقبة غیر معیّنة من الطبیعة‏ ‏، ولا یکون فیها دلالة‏‎ ‎‏علی البدلیة بلا ریب‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 341
نعم ‏، مقتضی حکم العقل ـ بعد تعلیق الحکم علیه ـ هو التخییر بإتیان أیّ فرد‏‎ ‎‏شاء فی مورد التکالیف‏ ‏، ولذا یکون فرق بین قوله : «أعتق رقبة» وبین قولک : «أعتق‏‎ ‎‏أیّة رقبة شئت» فإنّ التخییر فی الأوّل عقلی‏ ‏، وفی الثانی لفظی مستفاد من اللفظ‏ .

‏والحاصل : أنّ مقتضی الحکمة فی جمیع الموارد أمر واحد‏ ‏؛ وهو أنّ ما اُخذ تحت‏‎ ‎‏دائرة الحکم تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه‏ .

نعم‏ ، حکم العقل والعقلاء یختلف بحسب المقامات‏ ‏، وهو غیر دلالة اللفظ‏ ‏؛‏‎ ‎‏فربما یستفاد أنّ الحکم متعلّق بنفس الطبیعة‏ ‏، ولم ترفع الید عنها‏ ‏، کما هو الشأن فی‏‎ ‎‏قابلیة الإنسان للصنعة والکتابة‏ ‏، فکما أنّه إذا لم یکن بعض أفراده قابلاً للصنعة‏‎ ‎‏والکتابة‏ ‏، لا یمکن أن یقال : «إنّ الإنسان کذا» مع أنّه لا دخالة للخصوصیات الفردیة‏‎ ‎‏فی القابلیة‏ ‏، فکذلک فی‏‏«‏أحَلَّ الله ُ الْبَیْعَ‏»‏‏ فإنّه قد جعل نفس طبیعة البیع تمام‏‎ ‎‏الموضوع لتعلّق الحلّیة علیه‏ ‏، ولا یکاد یمکن ذلک إلاّ إذا کان جمیع أفراد البیع‏‎ ‎‏ومصادیقه محلّلاً‏ ‏. کما أنّه ربما یستفاد من الدلیل تحدید الطبیعة‏ ‏، وذلک فیما إذا جعلت‏‎ ‎‏النکرة موضوعاً للحکم‏ .

ولا یخفی‏ : أنّ ذلک لا یضرّ بوحدة مقتضی الإطلاق‏ ‏، ولذا تجری مقدّمات‏‎ ‎‏الحکمة فیما إذا جعل الفرد موضوعاً للحکم‏ ‏، ومقتضاه عدم دخالة حالةٍ دون اُخری‏‎ ‎‏فی موضوعیته للحکم‏ ‏، وواضح أنّه لا تختلف أصالة الإطلاق فی حالات الفرد‏ ‏، مع‏‎ ‎‏أصالة الإطلاق فی صورة کون الماهیة أو النکرة موضوعاً للحکم‏ .

‏فظهر : أنّ استفادة الاستیعاب والبدلیة من مقدّمات الحکمة‏ ‏، غیر وجیه‏ ‏، بل‏‎ ‎‏من المحال أن یستفادا من الإطلاق‏ ‏، وتوهّم استفادة ذلک نشأ من الخلط بین مقتضی‏‎ ‎‏الإطلاق وحکم العقل والعقلاء‏ ‏، فتدبّر وتأمّل حتّی لا تخلط‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 342

تنبیه وتوضیح مقال

‏قد أشرنا آنفاً إلی أنّ تقسیم العموم إلی الأقسام الثلاثة ـ من الاستغراقیة‏ ‏،‏‎ ‎‏والمجموعیة‏ ‏، والبدلیة ـ لیس بلحاظ تعلّق الحکم وبعد تعلّقه‏ ‏، کما هو الشأن فی‏‎ ‎‏استفادة الإطلاق‏ ‏، حیث إنّها بعد تعلّق الحکم‏ ‏، ولکن نعطف عنان البحث حوله ثانیاً‏‎ ‎‏توضیحاً للمقال‏ .

فنقول‏ : یظهر من المحقّقین الخراسانی والنائینی أنّ انقسام العموم إلی‏‎ ‎‏الأقسام المذکورة لیس باعتبار معناه الأفرادی‏ ‏؛ بحیث یکون التقسیم إلیها باعتبار‏‎ ‎‏وضع العموم بمعناه الأفرادی‏ ‏؛ لأنّ العموم بحسب الوضع لیس معناه إلاّ الشمول‏ ‏، وهو‏‎ ‎‏معنی واحد شامل لجمیع الأقسام‏ ‏، بل التقسیم إلیها إنّما یکون باعتبار تعلّق الحکم‏‎ ‎‏بموضوعاتها‏ ‏؛ حیث إنّ الغرض من الحکم :‏

‏تارة : یکون علی وجه یکون لاجتماع الأفراد دخل فی الغرض‏ ‏؛ بحیث یکون‏‎ ‎‏مجموع الأفراد بمنزلة موضوع واحد‏ ‏، وله إطاعة واحدة بإکرامه جمیع أفراد العلماء فی‏‎ ‎‏مثل قولک : «أکرم جمیع العلماء» وعصیانه یکون بعدم إکرام فرد واحد منهم‏ .

‏واُخری : یکون الغرض علی وجه یکون کلّ فرد فرد من العالم‏ ‏، موضوعاً‏‎ ‎‏مستقلاًّ‏ ‏، وتتعدّد الإطاعة والعصیان حسب تعدّد الأفراد‏ .

‏وثالثة‏‎[4]‎‏ : یکون کلّ واحد موضوعاً علی البدل‏ ‏؛ بحیث لو أکرم واحداً منهم‏‎ ‎‏لأطاع وامتثل‏‎[5]‎ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 343
وفیه أوّلاً :‏ أنّ دلالة العموم بأقسامه دلالة لفظیة‏ ‏، ولکلّ واحد من الأقسام‏‎ ‎‏الثلاثة ألفاظ مخصوصة حسب ما فصّلناه‏ ‏، فإنّ المتبادر من لفظة «کلّ عالم» بدوالّ‏‎ ‎‏ثلاثة هو العامّ الاستغراقی‏ ‏؛ أی کلّ فرد من أفراد العالم قبل تعلّق الحکم‏ ‏، وکذا المتبادر‏‎ ‎‏من لفظة «مجموع» مثلاً العامّ المجموعی‏ ‏، ومن «أیّ» العامّ البدلی‏ ‏، ولا‏ ‏یتوقّف العرف‏‎ ‎‏والعقلاء فی فهم واحد منها من تلک الألفاظ علی کیفیة تعلّق الحکم‏ ‏، وهم بمرأی منک‏‎ ‎‏ومسمع فاختبرهم‏ ‏. ولازم ما أفاداه هو توقّف أهل المحاورة فی فهم کیفیة تعلّق الحکم‏‎ ‎‏حتّی یتفحّصوا ویتطلّبوا حوله .‏

‏وبالجملة : باب العموم باب دلالة الألفاظ‏ ‏، ولکلّ من الاستغراقیة والمجموعیة‏‎ ‎‏والبدلیة ألفاظ تخصّها قبل تعلّق الحکم‏ ‏، فحدیث توقّف استفادة ذلک علی کیفیة تعلّق‏‎ ‎‏الحکم ـ کما هو الشأن فی استفادة الإطلاق من المطلق ـ غیر صحیح‏ .

وثانیاً :‏ لک أن تقول : إنّه لا یعقل أن یکون اختلاف الثلاثة باختلاف کیفیة‏‎ ‎‏تعلّق الحکم‏ ‏؛ لأنّه لابدّ فی کلّ قضیّة ـ إخباریة کانت‏ ‏، أم إنشائیة ـ من تصوّر‏‎ ‎‏الموضوع أوّلاً‏ ‏، ثمّ انحدار الحکم الوحدانی علیه‏ ‏؛ لأنّ الحکم تابع لموضوعه‏ ‏، ومن‏‎ ‎‏الواضح أنّه لا یعقل انحدارالحکم الوحدانی علی الموضوعات الکثیرة المأخوذة علی‏‎ ‎‏نحو الاستغراق‏ ‏، ولاانحدار الحکم الاستغراقی علی موضوع وحدانی‏ ‏، فظهر أنّه قبل‏‎ ‎‏تعلّق الحکم لابدّ من تعیین الموضوع من حیث الاستغراقیة‏ ‏، والمجموعیة‏ ‏، والبدلیة‏ ‏،‏‎ ‎‏وأنّ مقتضی ما أفاداه ـ من أنّه قبل تعلّق الحکم لا یکون هناک استغراق‏ ‏، ولا‏‎ ‎‏مجموع‏ ‏، ولا بدل‏ ‏، وإنّما هی بعد تعلّق الحکم ـ هو أن یکون الحکم منحدراً ومتعلّقاً‏‎ ‎‏علی ما لم یکن له فی حدّ نفسه استغراق‏ ‏، ولا مجموع‏ ‏، ولا بدل‏ ‏، ومن المعلوم أنّ‏‎ ‎‏الإهمال الثبوتی الواقعی لا معنی له‏ ‏، بل فی الواقع إمّا یتعلّق الحکم بجمیع الأفراد‏ ‏، أو‏‎ ‎‏بفرد مّا‏ ‏، أو بمجموع الأفراد‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 344
‏فظهر ووضح : أنّ تقسیم العموم إلی الأقسام الثلاثة‏ ‏، إنّما هو بلحاظ تقسیم‏‎ ‎‏الموضوع قبل تعلّق الحکم‏ ‏؛ باعتبار وضع اللفظ لها‏ .

‏ولو سلّم أنّ الإطلاق المستفاد من دلالة العقل‏ ‏، هو من باب المرآتیة للأفراد‏ ‏،‏‎ ‎‏لکنّا نقول بذلک أیضاً وأنّه قبل تعلّق الحکم‏ ‏؛ لأنّ المرآتیة إمّا تکون لجمیع الأفراد‏ ‏،‏‎ ‎‏أو لمجموع الأفراد‏ ‏، أو لفرد منها‏ ‏؛ لما أشرنا من أنّ الإهمال الثبوتی لا معنی له‏ ‏، فإذا‏‎ ‎‏کان الأمر فی الإطلاق المستفاد من دلالة العقل کذلک فما ظنّک فیما تکون دلالته لفظیة‏‎ ‎‏باعتبار وضع اللفظ له؟! فتدبّر‏ .

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 345

  • )) البقرة (2) : 275 .
  • )) کفایة الاُصول : 292 .
  • )) مقالات الاُصول 1 : 430 .
  • )) قلت : لا یذهب علیک أنّ المحقّق النائینی قدس سره یری أنّ تسمیة ما یکون علی وجه البدلیة بالعموم ، لا تخلو عن تسامح ؛ لأنّ العموم بمعنی الشمول والبدلیة ینافیه ، فقال قدس سره بمقال المحقّق الخراسانی فی العامّ الاستغراقی والمجموعی فقط ، فتدبّر.[ المقرّر حفظه الله ]
  • )) کفایة الاُصول : 253 ، فوائد الاُصول 1 : 514 ـ 515 .