الأمر الرابع فی استغناء العامّ فی الدلالة علی العموم عن مقدّمات الحکمة
قد أشرنا إلی استغناء العامّ فی الدلالة علی العموم عن جریان مقدّمات الحکمة ، بخلاف المطلق ، فإنّه محتاج إلیها فی استفادة کون المطلق تمام
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 332
الموضوع للحکم . ولا ینبغی الإشکال فی ذلک .
نعم ، یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره احتیاج دلالة العامّ علی العموم إلی مقدّمات الحکمة ، فقال فی بیانه ما حاصله : أنّ لفظة «کلّ» مثلاً وإن کانت تدلّ علی استیعاب مدخولها ، إلاّ أنّه لا یکاد یستفاد منها أنّ مدخولها مطلق ؛ لاحتمال أن یکون المراد الطبیعة المقیّدة ، لعدم کون مدخولها موضوعاً للطبیعة المطلقة ، ولا المقیّدة ، بل هو موضوع للطبیعة المهملة غیر الآبیة عن الإطلاق والتقیید ، فلابدّ فی إحراز کون المدخول الطبیعة المطلقة ، من إجراء مقدّمات الحکمة .
مثلاً : لفظة «کلّ» فی «أکرم کلّ عالم» تدلّ علی استیعاب مدخولها ، وحیث إنّ مدخولها الطبیعة المهملة غیر الآبیة عن الإطلاق والتقیید ، فیحتمل أن یکون المراد العالم العادل ، فلا یستفاد استیعاب جمیع أفراد العالم إلاّ بالتشبّث بذیل مقدّمات الحکمة .
وفی قبال هذا القول ما ذهب إلیه شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره فقال بعدم الاحتیاج إلی مقدّمات الحکمة مطلقاً ؛ لا فی المسوّرات بـ «کلّ» وأضرابه ، ولا فی النکرة فی سیاق النفی ، وذکر فی وجهه : «أنّ الظاهر من جعل مفهوم مورد للنفی أو اللفظ الدالّ علی العموم ، کون ذلک المفهوم بنفسه مورداً لأحدهما ، لا أنّه معرّف لما یکون هو المورد ، ولا إشکال فی أنّ ورود الـ «کلّ» علی نفس مفهوم لفظ «العالم» مثلاً ، یقتضی استیعاب تمام الأفراد ، کما أنّه لا إشکال فی أنّه إن ورد النفی علیه یقتضی تمام الأفراد .
نعم ، یمکن کون «الرجل» فی قولنا : «لا رجل فی الدار» معرّفاً لفرد خاصّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 333
منه ، ویکون النفی وارداً علیه ، ولکنّ هذا خلاف ظاهر القضیة ؛ فإنّ الظاهر أنّ مفهوم «الرجل» بنفسه مورد للنفی» .
ثمّ أورد قدس سره علی نفسه : «بأنّه بناءً علی هذا الظهور ، یلزم عدم الاحتیاج إلی مقدّمات الحکمة فی الحکم الإیجابی أیضاً ؛ لأجل أنّ ظاهر القضیة الحاکیة لتعلّق الإیجاب بالطبیعة ، أنّها بنفسها مورد للحکم ، لا بما هی معرّفة لصنف خاصّ منها ؛ لعین ما ذکر فی القضیة المنفیة ، ولازم تعلّق الحکم بالطبیعة بنفسها سریانه فی کلّ فرد ، فلا یحتاج فهم العموم من القضیة إلی مقدّمات الحکمة ، مع أنّه محتاج إلیها!!» .
فردّه قدس سره : «بأنّ المهملة تصدق علی وجود فرد خاصّ حقیقة ، فإن کان الثابت فی نفس الأمر الحکم المتعلّق بوجود خاصّ منها ، تصحّ نسبة الحکم إلیها حقیقة ، فإسراء الحکم إلی تمام الأفراد لا یقتضیه وضع اللفظ ، بل یحتاج إلی المقدّمات ، وهذا بخلاف النفی المتعلّق بالطبیعة المهملة ، فإنّه لا یصحّ إلاّ إذا لم تکن محقّقة أصلاً ؛ إذ لو صحّ نفی الطبیعة مع وجود خاصّ منها یلزم اجتماع النقیضین» .
وببیان آخر من سماحة الاُستاذ دام ظلّه : الفرق بین النکرة فی سیاق الإثبات وبین النکرة فی سیاق النفی ؛ هو أنّ وجود الطبیعة یتحقّق بوجود الفرد ویتحد معه ، فیتصف به ، بخلاف النکرة فی سیاق النفی ، فإنّه إنّما یصحّ التنطّق به إذا انتفی جمیع الأفراد ، فیحتاج إلی مقدّمات الحکمة .
وبعبارة أوضح : الطبیعة توجد بوجود فردٍ ما ، وتنعدم بانعدام جمیع الأفراد ، فنحتاج لنفی جمیع الأفراد إلی التشبّث بذیل مقدّمات الحکمة .
ومحصّل الکلام : أنّه لا شکّ فی أنّ قولنا : «کلّ رجل» وقولنا : «لا رجل» یفید العموم من دون حاجة إلی مقدّمات الحکمة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 334
أقول : لا یخفی ما فی کلام العلمین :
أمّا ما أفاده المحقّق الخراسانی قدس سره ومن یقول بمقالته ، فمقتضی کلامه هذا ـ مع قوله : بأنّه بعد جریان مقدّمات الحکمة فی المطلق ، یستفاد منه ما یستفاد من العموم من حیث الدلالة علی استیعاب الأفراد ـ هو أنّ لفظة «کلّ» وما یدلّ علی الاستیعاب زائد ومستدرک فی الکلام ؛ فإنّه لو اُجریت مقدّمات الحکمة فی مدخول «کلّ عالم» مثلاً واستفید منه الشمول والاستیعاب ، فلا نحتاج إلی لفظة «کلّ» بل لا یکون للفظة «کلّ» معنی محصّل .
وبعبارة اُخری : مقتضی القول بلزوم إجراء المقدّمات فی مدخول «کلّ» مثلاً ، هو أنّه بعد جریانها تکون لفظة «کلّ» مستدرکة ، وعند عدم جریانها لا تغنی لفظة «کلّ» عن شیء أصلاً ، وهو کما تری .
وقد أشرنا إلی أنّ مقتضی جریان المقدّمات فیما تجری فیه ، لیس هو الاستیعاب والشمول ، بل غایته أنّ نفس الطبیعة من حیث هی ، تمام الموضوع للحکم ، ومعلوم أنّ نفس الطبیعة من حیث هی لیست إلاّ نفسها ، واللفظ الموضوع لها لا یدلّ علی أزید من ذلک ؛ لعدم معقولیة حکایة اللفظ ودلالته علی غیر ما وضع له وإن اتحد معه خارجاً ، فإذن لفظة «الإنسان» لا تحکی إلاّ عن نفس الطبیعة دون الأفراد .
وقد أشرنا غیر مرّة إلی أنّ دلالة المطلق ـ بعد جریان مقدّمات الحکمة ـ دلالة عقلیة من حیث جعل الطبیعة اللاّ بشرط موضوعاً للحکم ، ولذا یکون جریانها بعد تعلّق الحکم ، ولا یکاد یستفاد الإطلاق ولا التقیید قبل انحدار الحکم علیه . وأمّا دلالة العموم فهی دلالة لفظیة ، ولذا یستفاد الشمول والسریان قبل انحدار الحکم ، مثلاً لفظة «عالم» تدلّ علی نفس الطبیعة المهملة ، ولفظة «کلّ» تدلّ علی الکثرة
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 335
الإجمالیة ، وإضافة الـ «کلّ» إلیها تدلّ علی کثرة طبیعة مدخولها ، فمن سمع «کلّ عالم» قبل انحدار الحکم علیه ، یفهم منه استیعاب جمیع الأفراد ، وبعد انحدار الحکم یفهم تعلّق الحکم علیها .
وبعبارة اُخری : تعلّق الحکم علی الأفراد ، متأخّر عنها تأخّر الحکم عن موضوعه ، وجریان مقدّمات الحکمة متأخّر عن الحکم ، ولو لا الحکم وموضوعیة الطبیعة للحکم لما جرت المقدّمات ، فجریان المقدّمات متأخّر عن إفادة الأفراد برتبتین ، فما ظنّک باستفادتها من جریانها؟!
فظهر : أنّ استفادة الاستیعاب والشمول من العموم ، غیر رهین بجریان المقدّمات ، بخلاف استفادة الإطلاق من المطلق ، فإنّها رهینة بجریانها .
نعم ، یصحّ جریان المقدّمات فی الأفراد بلحاظ حالاتها ، فإنّه لو شکّ ـ بعد العلم بوجوب إکرام کلّ فرد من أفراد العلماء ـ فی أنّه هل یجب ذلک فی جمیع حالاته من کونه فاسقاً ، عادلاً ، راجلاً ، راکباً . . . إلی غیر ذلک ، فمقتضی جریانها هو أنّ کلّ فرد من أفراد العلماء تمام الموضوع لوجوب الإکرام فی جمیع حالاته .
وما ذکرنا من الفرق کأنّه غیر خفیّ علی من أمعن النظر وتدبّر ، ألا تری أنّه لم یقل أحد فی باب من أبواب الفقه ؛ بعدم کون عامّ فی مقام البیان ، مع أنّهم یصرّحون کثیراً بعدم تمامیة مقدّمات الحکمة!! ولیس ذلک إلاّ لأجل أنّ باب العموم غیر مربوط بجریان مقدّمات الحکمة .
وإن کنت مع ذلک فی شکّ فیما ذکرنا ، فاختبر نفسک بأنّه إذا سمعت عامّاً وشککت فی أنّ المتکلّم فی مقام البیان ، تستفید منه الاستیعاب والشمول ، بخلاف المطلق ، فإنّه لا یمکنک الاستفادة إلاّ بعد إحراز کون المتکلّم فی مقام البیان . هذا فیما یتعلّق بمقال المحقّق الخراسانی قدس سره .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 336
وأمّا ما أفاده شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره ففیه أوّلاً : أنّه مخالف لما ذکره فی باب المطلق والمقیّد ، وفاقاً لاُستاذه المحقّق الفشارکی قدس سره وذلک لأنّه ـ کما أشرنا ـ صرّح هنا باحتیاج النکرة فی سیاق الإثبات إلی جریان مقدّمات الحکمة ، وقد صرّح بأنّ مقتضی جریانها هو استفادة العموم والسریان .
بینما صرّح فی باب المطلق والمقیّد بأنّه لا نحتاج فی حمل المطلق علی الإطلاق إلی إحراز مقدّمات الحکمة أصلاً ؛ حتّی إحراز کون المتکلّم فی مقام بیان تمام المراد ، بتقریبٍ حاصله : أنّ الطبیعة المهملة مردّدة بین المطلق والمقیّد ، ولا ثالث لهما ، ومن المعلوم أنّه لو کان المراد المقیّد لما کان تعلّق الإرادة بالطبیعة أصلیاً استقلالیاً ، بل تبعیاً بتبع إرادة المقیّد ، وظهور الإرادة فی الاستقلال یدلّ علی تعلّقها بالطبیعة المطلقة ، فإذا قال : «أکرم رجلاً» فظاهره کون نفس طبیعة الرجولیة متعلّقة للإرادة أوّلاً وبالذات ، لا الطبیعة المقیّدة ، فاُضیفت إرادته إلی نفس الطبیعة لمکان الاتحاد ، ومقتضی هذا الظهور سرایة الإرادة إلی تمام الأفراد ، ولیس هذا إلاّ معنی الإطلاق . فقد ظهر التنافی بین کلامیه .
وثانیاً : أنّه غیر تامّ فی حدّ نفسه ؛ لما أشرنا من أنّه بعد إحراز کون المولی فی مقام البیان ، فغایة ما یقتضیه جعل اللفظ الموضوع للطبیعة المهملة موضوعاً لحکمه ، هی کون الطبیعة من غیر قید تمام الموضوع لحکمه ، ویصحّ علیه احتجاج المولی علی عبده ، وبالعکس ، ولا تکون لتلک اللفظة دلالة أزید من ذلک ، فحدیث توقّف استفادة العموم والشمول علی جریان مقدّمات الحکمة ، غیر صحیح .
نعم ، حیث إنّ الطبیعة تتکثّر فی الخارج بتکثّر الأفراد ، لذا تتکثّر الطبیعة
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 337
بتکثّرها، ولکنّه خارج عن حریم الإطلاق ومقتضاه ، وکم فرق بین دلالة اللفظ علی شیء ، وبین اتحاده مع شیء خارجاً!! کما لا یخفی . وبالجملة : لفظة «الإنسان» وضعت للماهیة اللابشرط ، ولا یعقل حکایة اللفظ الموضوع لمعنی ومرآتیته عن غیر ما وضع له وإن اتّحد معه خارجاً ، فلا یحکی اللفظ الموضوع للطبیعة عن الأفراد، فحدیث سرایة الإرادة إلی تمام الأفراد فی المطلق، غیر سدید .
وأمّا ما ذکره فی باب المطلق والمقیّد ، فمن دقّق النظر فیه یجد أنّ القول بظهور الإرادة فی الاستقلال ، عبارة اُخری عن کون المولی فی مقام البیان ، وإلاّ فلو لم یحرز کون المولی فی مقام بیان تمام المراد واحتمل ذکر القید بعده ، فلا یکون له سبیل إلی ذاک الاستظهار ، فإذن لا محیص فی استفادة الإطلاق من إحراز کون المولی فی مقام البیان ، وسیظهر لک جلیاً إن شاء الله أنّ النکتة الوحیدة فی استفادة الإطلاق هو هذا لیس إلاّ دون غیره ، فارتقب حتّی حین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 338