حول مختار المحقّق النائینی قدس سره فی المقام
إذا أحطت خبراً بما ذکرنا ـ من أنّ الحکم فی العامّ لم یتعلّق بالطبیعة ، بل علی «الکلّ» المضاف إلیها بدوالّ ثلاثة ومدلولات کذلک ، وأنّه لا کاشفیة للطبیعة عن الأفراد ، فضلاً عن خصوصیاتها ـ یظهر لک النظر فیما أفاده والمحقّق النائینی قدس سرهفی المقام ، وهو مبنیّ علی الفرق بین القضیة الحقیقیة والخارجیة ، وقد ذکرنا الفرق بینهما سابقاً ، ولکن لابتناء کثیر من المباحث الآتیة علیه ، نزیده فی المقام وضوحاً :
حاصله : أنّ القضیة الحقیقیة هی التی ورد الحکم فیها علی العنوان والطبیعة ؛ لا بلحاظ تقرّرها العقلی ، بل بلحاظ مرآتیة العنوان لما ینطبق علیه فی الخارج ؛ بحیث یرد الحکم علی الخارجیات بتوسّط العنوان الجامع لها ، وهذا معنی لحاظ العنوان مرآة لما فی الخارج ، بخلاف القضیة الطبیعیة ، فإنّ الحکم فیها وارد علی نفس الطبیعة بلحاظ تقرّرها العقلی ، کقولک : «الإنسان نوع» .
وأمّا القضیة الخارجیة ـ کلّیة کانت ، أم جزئیة ـ فالحکم فیها ابتداءً مترتّب علی الخارج بلا توسّط عنوان جامع کما کان فی الحقیقیة . ولو فرض أنّ هناک جامعاً بین الأفراد الخارجیة ، فإنّما هو جامع اتفاقی ، کما فی قولک : «کلّ من فی العسکر قتل» فإنّ قولک ذلک بمنزلة قولک : «زید قتل ، وعمرو قتل ، وبکر قتل . . . » وهکذا ، ولیس بین قتل زید وعمرو أو بکر مثلاً ، جامع عنوانی اقتضی ذلک الجامع قتل هؤلاء ، بل
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 323
اتفق أنّ کلاًّ من زید وعمرو وبکر ، کان فی المعرکة ، واتفق أنّهم قتلوا .
ولأجل ذلک تقع القضیة الحقیقیة کبری لقیاس الاستنتاج ، وتکون النتیجة ثبوتاً وإثباتاً موقوفة علی تلک الکبری ؛ بحیث یتوصّل بها ـ بعد ضمّ الصغری إلیها ـ إلی أمر مجهول یسمّی بالنتیجة ، کما یقال : «هذا خمر ، وکلّ خمر حرام ، فهذا حرام» ، فإنّ حرمة هذا الخمر إنّما تکون ثبوتاً موقوفة علی حرمة کلّ خمر ، کما أنّ العلم بحرمة هذا الخمر یکون موقوفاً علی العلم بحرمة کلّ خمر ، فالعلم بالنتیجة یتوقّف علی العلم بکلّیة الکبری ، وأمّا العلم بکلّیة الکبری فلا یتوقّف علی العلم بالنتیجة ، بل یتوقّف علی مبادئ اُخر ، من عقل ، أو کتاب ، أو سنّة ، أو إجماع .
وأمّا الخارجیة فلا تقع کبری القیاس ؛ بحیث تکون النتیجة موقوفة علیها ثبوتاً وإن کان قد یتوقّف علیها إثباتاً ، وذلک کما یقال للجاهل بقتل زید : «زید فی العسکر ، وکلّ من فی العسکر قتل ، فزید قتل» إلاّ أنّه لا یتوقّف علی ذلک ثبوتاً ؛ لعدم علّیة قتل کلّ من فی العسکر لقتل زید ، بل لقتله ملاک آخر یخصّه .
وبما ذکرنا ظهر اندفاع الدور الوارد علی الشکل الأوّل الذی هو بدیهی الإنتاج ؛ من جهة توهّم : أنّ العلم بکلّیة الکبری متوقّف علی العلم بالنتیجة ، مع أنّ العلم بالنتیجة یتوقّف علی العلم بکلّیة الکبری .
وجه الدفع : هو أنّ العلم بکلّیة الکبری فی الحقیقة لا یتوقّف علی العلم بالنتیجة ، بل یتوقّف علی مبادئ اُخر من عقل ، أو کتاب ، أو سنّة ، أو إجماع .
والقضایا المعتبرة فی العلوم إنّما هی القضایا الحقیقیة ، ولا عبرة بالقضایا الخارجیة ؛ لأنّ الخارجیة وإن کانت بصورة الکلّیة ، إلاّ أنّها عبارة عن قضایا جزئیة لا یجمعها عنوان کلّی . . . إلی أن قال : «کما یکون العموم والکلّیة علی نحوین : حقیقیة ، وخارجیة ، فکذلک التخصیص یکون تارة : تخصیصاً أنواعیاً ، واُخری :
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 324
یکون أفرادیاً ؛ سواء کان التخصیص بالمتصل ، أو بالمنفصل .
والتخصیص الأنواعی یناسب أن یرد علی العموم المسوق بصورة الحقیقیة ، کما أنّ التخصیص الأفرادی یناسب أن یرد علی العموم المسوق بصورة القضیة الخارجیة . بل الخارجیة لا تصلح إلاّ للتخصیص الأفرادی ؛ لما عرفت من أنّ الحکم فیها علـی الأفراد دون العنوان ؛ وإن فـرض أنّ المخصّص سیـق بصـورة الأنواعی ، بخلاف الحقیقیة ، فإنّه یصلح لورود کلّ من التخصیص الأفرادی والأنواعی . وحیث إنّ الأحکام الشرعیة کلّها علی نهج القضایا الحقیقیة ، کان التخصیص الوارد فی الأحکام الشرعیة کلّها من التخصیصات الأنواعیة إلاّ ما کان من قبیل خصائص النبیّ صلی الله علیه و آله وسلم.
توضیح النظر فیما أفاد قدس سره : هو ما أشرنا إلیه من استحالة أن تکون الطبیعة مرآة لما ینطبق علیه الأفراد بعد أن لم یکن فی الطبیعة ـ لا فی مقام ذاتها ، ولا فی مقام وضعها ، ولا کشفها ودلالتها ـ ما یدلّ علی الأفراد ، والحکم فی القضایا المسوّرة بـ «کلّ» ونحوه سواء کانت إخباریةً أو إنشائیة ، تعلّق علی کلّ مصداق من الطبیعة ، لا مفصّلاً ، بل بعنوان إجمالی ، فهناک اُمور ثلاثة :
الأوّل : نفس طبیعة الإنسان مثلاً التی لا تکون فیها کثرة ؛ وإن کانت قابلة للانطباق علی الکثیر .
الثانی : کثرة خارجیة تفصیلیة ، کزید ، وعمرو ، وبکر . . . وهکذا ، فإنّهم کثرات للطبیعة الإنسانیة ، ومن المعلوم أنّه لیست تلک الکثرات ، بما هی طبیعة الإنسان وإن کانت فیها طبیعة الإنسان .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 325
الثالث : کثرة إجمالیة تکون برزخاً بین الطبیعة التی لاکثرة فیها ، وبین الکثرات المفصّلة الممتازة إحداهما عن الاُخری ، فلفظة «کلّ» فی اللغة العربیة ولفظة «هر» فی اللغة الفارسیة ، لهما کثرة إجمالیة . ونظیره لفظة «الکثرة» فإنّها لا تدلّ علی الکثرات تفصیلاً .
فمن أراد تعلیق حکمه علی أفراد الطبیعة مفصّلاً ، فحیث إنّه لا یمکنه ذلک ، فلا بدّ له من التوصّل بما یمکنه التوصّل إلی مقصوده بنحو الإجمال ، ففی مثل «کلّ نار حارّة» علّقت الحرارة علی أفراد النار ومصادیقها علی نحو الإجمال .
وبالجملة : لم یتعلّق الحکم فی القضایا المسوّرة ونحوها علی نفس الطبیعة بلحاظ مرآتیتها لما تنطبق علیه فی الخارج ، فلو کانت الطبیعة مرآة لما تنطبق علیه فی الخارج ، لکان ذکر لفظة «کلّ» لغواً وزائداً ، مع أنّ لفظة «کلّ» وضعت لإفادة الکثرة الإجمالیة .
وأمّا ما أفاده فی الفرق بین القضیة الحقیقیة والخارجیة ، فغیر سدید ، ولعلّه سبق منّا غیر مرّة ، وحاصله : أنّ الحکم فی کلتا القضیّـتین لم یتعلّق علی الطبیعة ، بل تعلّق علی الأفراد بالعنوان الإجمالی ، ولا فرق بین القضیتین فی ذلک أصلاً ، والفرق بینهما إنّما هو من جهة أنّ الطبیعة المطلقة أو المقیّدة المأخوذة تلو لفظة «کلّ» تارة : تؤخذ بنحو لا تکون قابلة للانطباق إلاّ علی الأفراد الموجودة فی الخارج فی هذا الزمان ، أو الزمان السابق ، أو مجموعهما ، فحینئذٍ تکون القضیة خارجیة ، واُخری : تؤخذ بنحو تکون قابلة للانطباق علی الأفراد المحقّقة والمقدّرة ؛ أی التی لم توجد بعدُ ، فتکون القضیة حقیقیة .
وبالجملة : القضیة الحقیقیة والقضیة الخارجیة ، مشترکتان من حیث تعلّق الحکم علی العنوان الإجمالی المضاف إلی الطبیعة ، والفرق إنّما هو فی أنّ العنوان
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 326
المأخوذ فی الخارجیة ، مقصور علی نحو ینطبق علی خصوص الأفراد المحقّقة فعلاً ، أو فی الزمان السابق ، أو مجموعهما ، والعنوان المأخوذ فی الحقیقیة علی نحو ینطبق علیهما وما سیوجد بعد . والمقسم للخارجیة والحقیقیة والذهنیة إنّما هو الکلّیة ، فالجزئیات خارجة عن المقسم .
فظهر : أنّ القول بأنّ القضیة الخارجیة قضیة شخصیة أو قضایا شخصیة ، غیر سدید .
ثمّ إنّ ما أفاده قدس سره : «من أنّ النتیجة فی القضیة الحقیقیة موقوفة ثبوتاً وإثباتاً علی الکبری ، ولذا تقع الحقیقیة کبری القیاس ، دون الخارجیة» غیر مستقیم ؛ لأنّه لا معنی لعلّیة الکبری للنتیجة ثبوتاً ؛ لوضوح أنّه لا یعقل أن یکون «کلّ خمر حرام» علّة لحرمة خمرة بخصوصها، وهی معلولها ، بل کلّ الخمور مندرجة فیها ، فلا یکون الحکم المتعلّق بالکلّ المضاف ، علّة لتعلّق الحکم بالفرد .
ولو سلّمت العلّیة لذلک ، ولکن لیست العلّیة الثبوتیة منشأً لوقوعها کبری القیاس ، بل التی تناط به هو علّیتها فی مرحلة الإثبات ، فإنّه لو علم ـ بوجه ـ أنّ من فی الدار یجب إکرامه ، وعلم بوجوده فیها ، فمجرّد ذلک یکفی لاستنتاج النتیجة بلا إشکال ، وقد اعترف قدس سره بتوقّف النتیجة فی الخارجیة علی الکبری إثباتاً .
وممّا ذکرنا یظهر : أنّ بناءه علی ما ذکره غیر وثیق ؛ لما أشرنا من صلاحیة کلّ من الحقیقیة والخارجیة لوقوعهما کبری القیاس ؛ بداهة أنّه کما یصحّ أن یقال : «هذه خَمْرة ، وکلّ خمر حرام» فیستنتج حرمة الخمر هذه ، فکذلک یصحّ أن یقال : «زید فی العسکر ، وکلّ من فی العسکر قتل» ویستنتج منه قتل زید .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 327
وأمّا عدم اعتبار القضیة الخارجیة فی العلوم المتعارفة ، فهو لأجل أنّ العلوم المتعارفة بابها باب الحقائق والواقعیات غالباً ، فلا یمکن الاستنتاج منها إلاّ بإلقاء القضایا بنحو القضیة الحقیقیة ، ولذا لا یفید فیها القضایا الطبیعیة أیضاً ، وکم فرق واضح بین عدم اعتبار الخارجیة فی علم ، وعدم صلاحیة وقوعها کبری القیاس!! فتدبّر .
فإذا تمهّد لک أنّ الحکم فی کلتا القضیتین ـ الخارجیة والحقیقیة ـ تعلّق علی الأفراد بالعنوان الإجمالی لا الطبیعة ، یظهر لک : أنّ جمیع التخصیصات الواردة علی العمومات ، تخصیصات أفرادیة فی جمیع القضایا ؛ حقیقیة کانت ، أم خارجیة ، مثلاً المراد بقوله تعالی :«أوْفُوا بِالْعُقُودِ» ، لزوم الوفاء بجمیع أفراد العقود بالعنوان الإجمالی ، لا أنواعها ؛ لعدم ما یدلّ علیها ، کما لا یخفی ، فإن ورد علیه تخصیص بعدم لزوم الوفاء بالعقد الربوی مثلاً ، فمقتضاه خروج أفراد العقد الربوی ـ بنعت الإجمال ـ عن دائرة العموم ، لا هذا النوع من البیع ؛ بداهة أنّه لم یکن النوع بما هو نوع ، داخلاً تحت العامّ حتّی یخرج عنه .
فبما ذکرنا یظهر : أنّ ما استنتجه قدس سره أخیراً ـ بعد کون الأحکام الشرعیة کلّها مجعولة علی نهج القضایا الحقیقیة ـ من أنّ التخصیصات الواردة کلّها من التخصیصات الأنواعیة ، إلاّ ما کان من قبیل خصائص النبی صلی الله علیه و آله وسلم غیر مستقیم ؛ لما أشرنا من أنّه لو کانت جمیع القضایا مجعولة علی نهج القضایا الحقیقیة ، لوجب أن تکون التخصیصات تخصیصات فردیة لا نوعیة ؛ علی عکس ما ذکره ، فافهم واغتنم ، وکن من الشاکرین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 328