المقام الأوّل حول ارتفاع الحکم المغیّا عمّا بعد الغایة
اختلفوا فی دلالة القضیة المغیّاة بغایة علی ارتفاع الحکم عمّا بعد الغایة علی أقوال :
ثالثها : ما هو المشهور ؛ وهو التفصیل بین کون الغایة غایة للموضوع ، فسبیلها سبیل الوصـف فـی عـدم الدلالة علی المفهوم ، وبین کونها غایـة للحکم ، فتدلّ علی المفهوم .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 295
رابعها : ما ذهب إلیه المحقّق العراقی قدس سره من التفصیل بین کون الغایة للموضوع أو المحمول ، وبین کونها غایة للنسبة الحکمیة ، فقال بالمفهوم فی الأخیر ، دون الأوّلین .
والحقّ هو التفصیل الذی ذهب إلیه المشهور ، وقد اختاره شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره فی «الدرر» فقال : «إذا کانت غایة للموضوع ـ کـ «سِر من البصرة إلی الکوفة» ـ فسبیله سبیل الوصف فی عدم الدلالة علی المفهوم ، وغایة ما یدلّ تحدید الموضوع بها ، هی انتفاء الحکم فی القضیة عند حصولها ، ولیس هذا قولاً بالمفهوم . وأمّا إذا کانت غایة للحکم ـ کـ «اجلس من الصبح إلی الزوال» ـ فتدلّ علی المفهوم ؛ وذلک لما عرفت من أنّ مفاد الهیئة إنشاء حقیقة الطلب ، لا الطلب الجزئی الخارجی ، فتکون الغایة فی القضیة غایة لحقیقة الطلب ، ولازم ذلک ارتفاع حقیقته عند وجودها . نعم لو قلنا بأنّ مفاد الهیئة هو الطلب الجزئی ، فالغایة لا تدلّ علی ارتفاع سنخ الوجوب» .
ولکنّه قدس سره عدل عنه فی أواخر عمره الشریف ، فقال بعدم المفهوم للغایة مطلقاً حتّی فیما إذا کانت غایة للحکم ؛ قیاساً لها علی الجملة الشرطیة .
ولکنّ البیان الذی استفدناه منه قدس سره فی مجلس الدرس وضبطناه فی هامش «الدرر» یخالف ما علّقه هو بنفسه علی «الدرر» .
أمّا الذی ضبطناه منه فحاصله : أنّ کلّ حکم یتعلّق بموضوع فلابدّ وأن یکون بسبب وعلّة ، فإن استفدنا من القضیة المغیّاة بالغایة العلّیة المنحصرة ، فیمکن استفادة
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 296
المفهوم ، وإلاّ فلا ، وحیث إنّه لم یکن لنا طریق إلی معرفة ذلک ، ولم یکن مقتضی إطلاق القضیة ذلک أیضاً ، فلا یکون لها مفهوم .
وأمّا ما علّقه علی «الدرر» من النسخة المطبوعة فهو : «یمکن أن یقال بمنع المفهوم حتّی فیما اُخذ فیه الغایة قیداً للحکم ـ کما فی اجلس من الصبح إلی الزوال ـ لمساعدة الوجدان علی أنّا لو قلنا بعد الکلام المذکور : وإن جاء زید فاجلس من الزوال إلی الغروب ، فلیس فیه مخالفة لظاهر الکلام الأوّل ، فهذا یکشف عن أنّ المغیّا لیس سنخ الحکم من أیّ علّة تحقّق ، بل السنخ المعلول لعلّة خاصّة ؛ سواء کانت مذکورة کما فی إن جاء زید فاجلس من الصبح إلی الزوال ، أم کانت غیر مذکورة ، فإنّه مع عدم الذکر أیضاً تکون لا محالة هنا علّة یکون الحکم المذکور مسبباً عنها».
فمرجع ما أفاده قدس سره علی ما ضبطناه ، هو أنّه لا سبیل إلی استکشاف العلّیة المنحصرة ، وعلی ما علّقه هو عدم التنافی بین الجملتین المسبّب عن عدم استفادة العلّیة المنحصرة .
وکیفما کان : ففی کلا التقریرین نظر ؛ لأنّ مقایسة المقام بالقضیة الشرطیة مع الفارق ، ولکلّ منهما مناط یخصّها ؛ وذلک لأنّ الظاهر من الجملة الشرطیة ، أنّه اُخذ الشرط لترتّب الجزاء علیه ، فالقضیة الشرطیة عندهم مرکّبة من موضوع ، ومحمول ، وعلّة ثبوت الحکم علیه بواسطة أداة الشرط ، فدلالتها علی المفهوم عند العرف مرهون باستفادة العلّیة المنحصرة ، فإن استفید منها الانحصار فهو ، وإلاّ فلا . وأمّا القضیة المغیّاة بغایة ، فلا یکاد ینقدح فی ذهنهم موضوع ، وحکم ، وعلّة ، بل غایة ما هناک هی الموضوع والحکم والغایة ، فلیست استفادتهم المفهوم منها لأجل العلّیة
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 297
المنحصرة ، بل لأجل تحدید حقیقة الطلب ـ غیر المقیّدة بقید خاصّ ـ بغایة .
ولا یبعد أن یقال : إنّه إذا کانت حقیقة الطلب مغیّاة بغایة ، فمقتضاه عند العرف والعقلاء اختصاص الحکم بین الحدّین ، فإثبات سنخ ذلک الحکم لما بعد الغایة مناقض له ، مثلاً لو استفید من قوله : «اجلس من الصبح إلی الزوال» أنّه بصدد تحدید وجوب الجلوس إلی الزوال ، فلازمه انتفاء الحکم لدی تحقّق الغایة ، فیکون وجوب الجلوس بعد الزوال مناقضاً له .
فظهر : أنّ استفادة المفهوم فی القضایا عند العرف والعقلاء ، لیست دائماً رهینة استفادة العلّیة المنحصرة ، بل ربما یستفیدون ذلک من مجرّد تحدید الحکم إلی غایة ؛ من دون أن ینقدح فی ذهنهم أنّ الحکم المغیّا معلول لعلّته ، فضلاً عن کونها منحصرة .
وبعبارة اُخری : یصحّ استظهار المفهوم من الحکم المغیّا بغایة ؛ وإن کان المستظهر أشعریاً قائلاً بأنّ الأحکام غیر معلّلة بالأغراض والمصالح ، بل إنّما هی عادات جرت .
وأمّا حدیث عدم التنافی فی المثال بین قوله : «اجلس من الصبح إلی الزوال» وبین قوله : «وإن جاءک زید فاجلس من الزوال إلی الغروب» فلوجهین :
الوجه الأوّل : احتمال ظهور المثال عند العرف ، فی کون القید قیداً للموضوع لا للحکم ، وقد أشرنا إلی أنّ المدّعی إنّما هو استفادة المفهوم من القضیة المغیّاة فیما إذا کانت الغایة للحکم .
الوجه الثانی : ولعلّه أقرب ـ هو أنّ التنافی المتصوّر علی القول بالمفهوم ، إنّما هو تنافٍ خفیف ، وهو التنافی بین المطلق والمقیّد ؛ لأنّ مقتضی مفهوم «اجلس من
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 298
الصبح إلی الزوال» هو الحکم بعدم الجلوس من الزوال إلی الغروب ؛ جاء زید ، أو لم یجئ ، طار الغراب أم لا . . . وهکذا ، ومن المعلوم أنّه مطلق بالنسبة إلی قوله : «إن جاءک زید فاجلس من الزوال إلی الغروب» حیث قیّد الوجوب بمجیء زید ، وقد ذکرنا فی باب التعادل والترجیح أنّه لا تنافی فی محیط التقنین بین المطلق والمقیّد ، وکذا بین العموم والخصوص ؛ وإن کان بینهما تنافٍ فی غیر محیط التقنین ، خلافاً لما هو المعروف بینهم من عدم التنافی بینهما أصلاً ، بل یوفّق العرف بینهما بمجرّد سماعهما بحمل المطلق أو العامّ علی المقیّد والخاصّ .
والشاهد علی عدم التنافی بینهما فی خصوص محیط التقنین ؛ هو ما نری من جریان دیدن المقنّنین ـ واحداً کانوا ، أم جماعة ـ علی ذکر المطلقات والعمومات أوّلاً ، ثمّ ذکر المقیّدات والمخصّصات بعنوان التبصرة أو المادّة الواحدة ونحوهما ثانیاً ، وثالثاً . . . وهکذا .
أضف إلی ذلک وجود مطلقات ومقیّدات وعمومات ومخصّصات کثیرة فی الذکر الحکیم ، مع أنّه تعالی ذکر أنّه لا اختلاف فی القرآن الحکیم .
بل ربما یکون فی القرآن الحکیم مطلق أو عامّ ، ثمّ یرد المقیّد أو المخصّص فی السنّة وفی کلمات المعصومین علیهم السلام فیقیّد به المطلق القرآنی أو یخصّص بذلک ، وعلیه جرت سیرة السلف الصالح والخلف الوفی ، مع أنّه ورد عن أئمّة أهل البیت علیهم السلام: «ما جاءکم یخالف کتاب الله فلم أقله» ، وقد صدر عنهم علیهم السلام
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 299
روایات کثیرة جدّاً مقیّدة أو خاصّة فی قبال مطلقات الآیات وعموماتها .
فإذن عدم التنافی فی المثالین ، لیس لعدم المفهوم ، بل لأجل أنّ العرف لا یری تنافیاً بین الدلیلین للجمع العرفی بینهما ، فالحقّ هو التفصیل بین ما إذا کانت الغایة للموضوع ، فلیس لها مفهوم ، وحالها حال الوصف ، وبین ما إذا کانت غایة للحکم ، فلها مفهوم ، فتدبّر .
إشکال ودفع
ربما یتوهّم فی المقام إشکال : وهو احتمال کون منشأ نظر المشهور القائلین بالمفهوم ، عموم الوضع والموضوع له فی الحروف عندهم ، کما علیه بعض المشایخ المتأخّرین ، فإن ذهب أحد إلی کون الموضوع له فیها خاصّاً وجزئیاً ـ نظیر الإشارة ـ فلا یکون مفاد الهیئة حقیقة الطلب ، بل لیس إلاّ الطلب الجزئی ، ولا ریب فی أنّ زواله بزوال الغایة ، غیر منافٍ لثبوت طلب جزئی آخر ، فلا سبیل إلی القول بالمفهوم .
ولکنّه یندفع : بأنّ الأمر وإن کان کذلک حقیقة حسب الفرض ، إلاّ أنّه ینتقل العرف والعقلاء من ذلک إلی حقیقة الطلب ؛ وأنّه الواجب ، لا الوجوب الخارجی الجزئی ، کما هو الشأن فیما لو أمر بالخروج بالإشارة ، فإنّه وإن کان المشیر والمشار إلیه بل والإشارة جزئیاً ، إلاّ أنّه مع ذلک فبالإشارة إلی الخروج یفهم العرف أنّ الخروج واجب ، لا الوجوب الخارجی الجزئی المدلول علیه بالإشارة بالإیجاب ، بل الوجوب الحقیقی الاسمی .
وبالجملة : کما أنّ الموضوع له فی اسم الإشارة خاصّ ، ولم یقل أحد بکون
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 300
الموضوع له فی الإشارة معنی کلّیاً ؛ لأنّها لیست من سنخ المفاهیم ، بل من قبیل الإیجادیات ، ولکن مع ذلک یفهم العرف من الإشارة إلی الخروج ، أنّ نفس طبیعة الخروج بلا قید واجب ، نظیر تداعی المعانی ، فکذلک فی الهیئة فإنّ الموضوع له فیها وإن کان خاصّاً جزئیاً أدویاً حسب الفرض ، إلاّ أنّه لا ینافی أن ینتقل ذهن العرف من ذلک إلی المفهوم الکلّی والمعنی الاستقلالی ، فیحکم بتقیید الطلب الحقیقی بتلک الغایة ، فبزوالها یزول بالبداهة سنخ الطلب ؛ وإن لم یکن سنخ الحکم مفاداً للهیئة .
والحاصل أنّ الموضوع له فی الهیئة والإشارة وإن کان معنی أدویاً جزئیاً ، إلاّ أنّه لا یستقرّ ذهن العرف والعقلاء علی ما یحصل من الآلة الجزئیة أوّلاً ، بل ینتقل منه إلی المعنی الذی یبعث إلیه تارة باللفظ ، واُخری بالإشارة ؛ وهو المطلوب ، وهو غیر مقیّد بکونه معنی للّفظ أو الإشارة .
فظهر : أنّه حتّی علی القول بکون الوضع والموضوع له فی الحروف خاصّاً ، یمکن القول بالمفهوم ، فتدبّر .
ذکر وتعقیب
فصّل المحقّق العراقی قدس سره وفاقاً لبعض الأعلام ـ بین کون الغایة غایة للموضوع والحکم ، وبین کونها غایة للنسبة الحکمیة ، فقال بالمفهوم فی الأخیر ، دون الأوّلین . وهذا منه قدس سره مبنیّ علی ما أسّسه فی باب المفاهیم من أنّ طبع القضیة ـ من دون أن یکون فی الکلام قید زائد لا یقتضی أزید من إثبات المحمول علی الموضوع الخاصّ بنحو الإهمال ، فلا یکون للموضوع ولا للحکم إطلاق حتّی یدلّ علی تعلیق سنخ الحکم ، لکی ینتفی السنخ بانتفاء الموضوع ، فالغایة الواردة علی مثل هذا الموضوع والمحمول ، لا تقتضی إلاّ تحدید انتهائهما بما هما مهملة ؛ من دون إطلاق فی طرف المحدود موضوعاً أو حکماً .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 301
وأمّا لو کانت غایة للنسبة الحکمیة ، فحیث إنّها قید زائد علی الطرفین ، فیمکن أن یکون لها إطلاق ، فیستفاد تعلیق سنخ النسبة بین الطبیعتین ، فتدلّ علی انتفاء السنخ منهما ، فتدلّ قهراً علی انتفاء سنخ الحکم فی ظرف وجود المدخول .
ثمّ أورد علی نفسه : بأنّه کیف یمکن التفکیک بین المحمول والموضوع ، وبین النسبة ؛ بأخذ الإهمال فیهما ، والإطلاق فی الأخیر ، مع أنّ النسبة تابعة لهما إطلاقاً وإهمالاً؟ کما هو الشأن فی کلّیة المعانی الحرفیة من حیث تبعیتها للمتعلّق إطلاقاً وإهمالاً ، ولیس له قابلیة التعمیم والتخصیص مستقلاًّ فی قبالهما .
فأجاب : بأنّ التبعیة کذلک إنّما هی فی عالم الثبوت ، وأمّا فی عالم الإثبات فیمکن أن یقال : إنّ طبع القضیة بظهورها النوعی ، لا یقتضی إلاّ إهمال موضوعه ومحموله ، ولا ینافی ذلک وجود مقتضٍ خارجی موجب لإطلاق التعلیق الموجب لانتفاء السنخ عند حصول الغایة ، وحینئذٍ فإطلاق التعلیق فی طرف النسبة ، یقتضی إطلاق التعلیق فی طرف الموضوع والمحمول ، کما أنّ الإطلاق فیهما أیضاً یقتضی الإطلاق فی النسبة ، فالفرق بینهما إنّما هو من حیث إحراز الإطلاق فی النسبة دونهما ؛ من جهة کونهما من شؤون الجملة غیر المقتضی للأزید من إهمالهما ، بخلاف النسبة فإنّها جهة زائدة عنهما ، فلا تنافی بینهما ، انتهی محصّل ما أفاده .
وفیه : أنّه قد سبق غیر مرّة أنّه لا وجه للقول بالإهمال فی نوع القضایا بعد وجود الإطلاق فی ناحیة الموضوع والمحمول کثیراً ، وإلاّ لانسدّت أبواب الفقه ، فتری الفقهاء ـ ولعلّ هذا المحقّق منهم ـ یتمسّکون بإطلاق الموضوع أو الحکم بمجرّد أخذ شیء بلا قید موضوعاً للحکم إذا اُحرز کونه فی مقام البیان ؛ من دون أن یکون فی الکلام شیء ثالث ، وهو النسبة الحکمیة ، حتّی یتشبّث بها ، نعم القضیة وإن انحلّت
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 302
إلیها وإلی غیرها ، إلاّ أنّها أجنبیة عن فهم العرف المتبع فی أمثال المقام .
وبالجملة : حدیث إنکار الإطلاق فی نوع القضایا بالنسبة إلی الموضوع أو الحکم ، ضعیف جدّاً . نعم هو کذلک نادراً فی بعض القضایا ؛ وهو فیما إذا لم یحرز کونه فی مقام البیان .
فتحصّل : أنّ مبناه قدس سره فی باب المفاهیم غیر صحیح ، فما بنی علیه هنا غیر سدید ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 303