المقصد الثالث فی المفهوم

التحقیق عدم ثبوت مفهوم الوصف

التحقیق عدم ثبوت مفهوم الوصف 

‏إذا عرفت موضوع البحث فنقول : ذهب المحقّق النائینی ‏‏قدس سره‏‏ إلی أنّه لا یعقل أن‏‎ ‎‏یکون للوصف مفهوم‏ ‏؛ لأنّه إنّما یتصوّر المفهوم فی قضیة‏ ‏، إذا أمکن إرجاع القید إلی‏‎ ‎‏الحکم بالمعنی المعقول‏ ‏؛ وهو تقیید المتحصّل من الجملة‏ ‏، لا ذات الانتساب الذی هو‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 290
‏معنی حرفی‏ ‏، کالقضیة الشرطیة‏ ‏، والقضیة المغیّاة بالغایة‏ ‏، وأمّا لو کان القید راجعاً إلی‏‎ ‎‏الموضوع أو المحمول‏ ‏، فلا سبیل إلی القول بالمفهوم‏ ‏، کما فی الوصف‏ ‏، فإنّه لا یمکن‏‎ ‎‏إرجاع القید إلاّ إلی الموضوع ، فیکون کالشرطیة التی سیقت لفرض وجود‏‎ ‎‏الموضوع‏‎[1]‎‏.‏

ویظهر‏ من المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ ـ کما سبقت الإشارة إلیه ـ أنّه لا إشکال فی أنّ‏‎ ‎‏الموضوع علّة منحصرة لشخص حکمه‏ ‏، وبانتفائه ینتفی شخص حکمه‏ ‏، والنزاع فی‏‎ ‎‏المفهوم وعدمه إنّما هو فی تعلّق سنخ الحکم‏ ‏، أو شخصه‏ ‏، فمن قال بالمفهوم یری تعلّق‏‎ ‎‏سنخ الحکم‏ ‏، ومن قال بعدم المفهوم یری أنّ المعلّق هو شخص الحکم‏ ‏، وتعلّق الحکم‏‎ ‎‏علی موضوعه فی القضایا ـ بحسب طبیعتها الأوّلیة واقتضاء ذاتها ـ إنّما هو علی سبیل‏‎ ‎‏الإهمال ، فلا إطلاق هناک‏ ‏، فلا مفهوم‏ .

‏نعم‏ ‏، قد تکون فی البین جهة زائدة علی ربط الحکم بموضوعه‏ ‏، کما فی القضیة‏‎ ‎‏الشرطیة‏ ‏، حیث إنّ أداة الشرط تقتضی ربط سنخ الحکم بشرطه زائداً علی ربطه‏‎ ‎‏بموضوعه‏ ‏، فیکون للقضیة من هذه الجهة إطلاق‏ ‏؛ وإن لم یکن فیها إطلاق بلحاظ‏‎ ‎‏طبیعتها الأوّلیة‏ ‏، فیستفاد المفهوم من القضیة الشرطیة‏ ‏، ولهذه العنایة نقول بالمفهوم‏‎ ‎‏أیضاً فی الغایة وأداة الحصر‏ ‏، وأمّا التوصیف فهو من شؤون الموضوع‏ ‏، ویتقیّد‏‎ ‎‏الموضوع به‏ ‏، وتعلّق الحکم علی الموضوع المتقیّد نظیر تعلّق الحکم بذاته بلا قید من‏‎ ‎‏حیث الإهمال‏ ‏، فلا إطلاق‏ ‏، فلا مفهوم‏‎[2]‎ ‏، انتهی حاصل ما أفاده‏‎[3]‎ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 291
أقول :‏ لا یخلو ما أفاداه من النظر :‏

أمّا ما أفاده‏ المحقّق النائینی ‏‏قدس سره‏‏ :‏

ففیه أوّلاً :‏ ما أشرنا إلیه مکرّراً من صحّة تقیید المعنی الحرفی‏ ‏، بل التقیید غالباً‏‎ ‎‏إنّما یطرأ علی المعنی الحرفی‏ ‏، فلاحظ‏ .

وثانیاً :‏ أنّ الذی فی باب المفهوم ویریده القائل به‏ ‏، هو أنّ الإطلاق کما یقتضی‏‎ ‎‏کون المأخوذ موضوعاً‏ ‏، هو تمام الموضوع من حیث ترتّب الحکم علیه ونفی الشریک‏‎ ‎‏له‏ ‏، فکذلک یقتضی عدم بدیل له‏ ‏، فینحصر ترتّب الحکم علیه دون غیره‏ ‏، وهو معنی‏‎ ‎‏المفهوم‏ ‏. والقید وإن رجع إلی الموضوع‏ ‏، ولکنّه لا یوجب کون الموضوع مرکّباً کی‏‎ ‎‏ینتفی بانتفاء قیده‏ ‏، بل الموضوع ذات المتقیّد‏ ‏، فبعد ارتفاع الوصف یکون الموضوع‏‎ ‎‏باقیاً‏ ‏. وبهذا یظهر الفرق بین ما نحن فیه‏ ‏، والشرطیة التی سیقت لفرض وجود‏‎ ‎‏الموضوع‏ ‏، حیث إنّ الشرطیة تقتضی کون الموضوع مرکّباً‏ ‏، فتدبّر‏ .

وأمّا ما أفاده‏ المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ :‏

ففیه أوّلاً :‏ أنّ النزاع فی المفهوم لم یکن فی تعلّق شخص الحکم وسنخه‏ ‏، بل‏‎ ‎‏محطّ البحث عندهم إنّما هو فی تعلّق سنخ الحکم‏ ‏، فقالت طائفة بالمفهوم‏ ‏، واُخری‏‎ ‎‏بعدمه‏ ‏. ولعلّ منشأ ما زعمه ‏‏قدس سره‏‏ هو توهّم أنّ المفهوم عبارة عن انتفاء الحکم‏ ‏، فرأی‏‎ ‎‏أنّه لا معنی لانتفاء سنخ الحکم مع عدم المفهوم‏ ‏، فلابدّ وأن یری منکر المفهوم انتفاء‏‎ ‎‏شخص الحکم‏ ‏، وقد عرفت فی أوائل هذا المقصد أنّ المفهوم هو الحکم بالانتفاء‏ ‏،‏‎ ‎‏لا مجرّد الانتفاء‏ ‏، فالقائل بالمفهوم یحکم بانتفاء سنخ الحکم‏ ‏، ولذا یعارض ما دلّ علی‏‎ ‎‏ثبوت الحکم‏ ‏، والمنکر لا یحکم بالنفی‏ ‏، فتدبّر‏ ‏، فإنّه لا یخلو من دقّة‏ .

وثانیاً :‏ أنّک قد عرفت عدم استقامة القول بکون القضایا بحسب طبیعتها‏‎ ‎‏الأوّلیة مهملة‏ ‏، بل کثیراً ما تکون القضایا علی سبیل الإطلاق‏ ‏، ولکن مع ذلک‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 292
‏لا یکون لها مفهوم‏ ‏؛ لأنّ غایة ما یقتضیه الإطلاق کون المأخوذ تمام الموضوع لترتّب‏‎ ‎‏الحکم علیه‏ ‏، وهذا ینفی الشریک‏ ‏، لا البدیل‏ ‏، فتدبّر‏ .

‏فظهر : أنّه لا فرق بین الوصف والشرط من حیث وقوعهما محطّ البحث فی‏‎ ‎‏استفادة المفهوم‏ ‏؛ وذلک لأنّه کما یمکن تخیّل المفهوم من جهة أخذ الشرط زائداً علی‏‎ ‎‏ذات المشروط به‏ ‏، صوناً للکلام عن اللغویة‏ ‏، فکذلک یمکن فیما إذا اُخذ وصف زائد‏‎ ‎‏علی ذات الموصوف‏ .

ولکن الذی یسهّل الخطب :‏ هو عدم دلالة الجملة الوصفیة علی المفهوم‏ ‏؛ لأنّ‏‎ ‎‏أقوی ما یمکن أن یستدلّ به للمفهوم إنّما هو من ناحیة الإطلاق‏ ‏، بلحاظ أنّ الإطلاق‏‎ ‎‏کما یدلّ علی أنّه تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه وبلا شریک‏ ‏، کذلک یدلّ علی أنّه‏‎ ‎‏بلا بدیل‏ ‏، ولکن قد أشرنا إلی أنّ الإطلاق لا یقتضی ذلک‏ ‏، بل غایة مقتضاه هی کون‏‎ ‎‏الموصوف بالوصف تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه‏ ‏، ولا یکون له حالة منتظرة‏‎ ‎‏لترتّب الحکم علیه‏ .

‏وبالجملة : غایة ما یقتضیه الإطلاق نفی الشریک‏ ‏، لا نفی البدیل‏ ‏، فلا یستفاد‏‎ ‎‏من الإطلاق المفهوم‏ .

وربما یتمسّک‏ هنا لإثبات المفهوم بوجه عقلی‏ ‏، نظیر ما تمسّک به لإثبات‏‎ ‎‏مفهوم الشرط‏ ‏، وحاصله : أنّ ظاهر القضیة ـ بعد إحراز أنّ الأصل فی القید أن یکون‏‎ ‎‏احترازیاً ـ یدلّ علی أنّ القید بذاته وعنوانه دخیل فی الموضوع‏ ‏، ومتمّم لقابلیة القابل‏ ‏،‏‎ ‎‏فإن کان له عدیل فمع تعدّد العلّة‏ ‏، یکون الجامع علّة‏ ‏، لا القید بعنوانه‏ ‏، لئلاّ تنخرم‏‎ ‎‏قاعدة الواحد المبرهن علیها فی محلّها‏‎[4]‎ ‏، وهو خلاف الظاهر‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 293
وفیه :‏ أنّا قد أشرنا غیر مرّة إلی أنّ باب موضوعات الأحکام‏ ‏، غیر باب‏‎ ‎‏العلل الحقیقیة حتّی یتمسّک بقاعدة الواحد‏ ‏؛ فإنّ المیزان فیه هو فهم العرف العامّ‏ ‏،‏‎ ‎‏ومن الواضح أنّه یمکن أن یجعل ـ لمصالح ـ موضوعات عدیدة بعناوینها‏ ‏، موضوعاً‏‎ ‎‏للحکم‏ ‏، وأین هذا من باب العلل وباب التأثیر والتأثّر؟!‏

‏هذا مضافاً إلی أنّه قد تقدّم مراراً : أنّ مجری القاعدة عند مثبتیها إنّما هو الواحد‏‎ ‎‏البسیط الحقیقی الذی لا تشوبه شائبة الکثرة‏ ‏؛ لا خارجاً‏ ‏، ولا ذهناً‏ ‏، ولا وهماً‏ ‏، لا کلّ‏‎ ‎‏مورد یکون هناک صدور وصادر ومصدر‏ .

‏وبالجملة : لابدّ من تنقیح المسألة وتحریرها علی ما یقتضیه النظر العرفی‏‎ ‎‏والعقلائی‏ ‏، لا علی ما تقتضیه الدقائق الفلسفیة‏ ‏، فإن ورد فی دلیل : «فی الغنم‏‎ ‎‏السائمة زکاة»‏ ‏، وورد فی دلیل آخر : «فی الغنم المعلوفة زکاة» وفهم العرف والعقلاء‏‎ ‎‏تنافیاً بین الدلیلین‏ ‏، فیستکشف من ذلک وجود المفهوم‏ ‏؛ لقوله : «فی الغنم السائمة‏‎ ‎‏زکاة» وإلاّ فلا‏ .

‏فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه : أنّه لا مفهوم للجملة الوصفیة لو خلّیت وطبعها‏ ‏؛ وإن‏‎ ‎‏کان الوصف فیها معتمداً علی الموصوف‏ ‏، کما لم یکن للشرطیة کذلک مفهوم‏ ‏. نعم ربما‏‎ ‎‏یستفاد المفهوم منهما بلحاظ احتفافها بالقرائن الحالیة أو المقالیة‏ ‏، فتدبّر‏ .

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 294

  • )) فوائد الاُصول 1 : 502 .
  • )) مقالات الاُصول 1 : 395 ـ 412 .
  • )) قلت : قد اقتبست ما فی المتن من مجموع ما أفاده المحقّق العراقی قدس سره فی ثلاث مقالات ، لا من مقالة واحدة ، فلیتذکّر . [ المقرّر حفظه الله ]
  • )) راجع الحکمة المتعالیة 2 : 204 ـ 209 ، شرح المنظومة ، قسم الحکمة : 132 ـ 133 .