حول الوجهین اللذین ذکرهما الشیخ الأعظم لتحکیم المقدّمة الثانیة
ثمّ إنّ الشیخ الأعظم أعلی الله مقامه ذکر وجهین لتحکیم المقدّمة الثانیة لا یخلوان من النظر:
الوجه الأوّل : أنّ الأسباب الشرعیة کالأسباب العقلیة والعادیة ، فإن التزمنا بکون الأسباب الشرعیة أسباباً لنفس الأحکام لا لمتعلّقاتها ، فیلزم تعدّد إیجاد الفعل فی الخارج ، وهو المطلوب .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 272
بیان الملازمة : هو أنّ المسبّب حینئذٍ اشتغال الذمّة بإیجاد الفعل ، ولا شکّ فی أنّ السبب الأوّل یقتضی ذلک ، فإذا فرضنا وجود سبب آخر فیوجب اشتغالاً آخر ؛ إذ لو لم یقتض ذلک فإمّا لنقص فی السبب ، أو فی المسبّب ، ولیس ذلک فی شیء منهما : أمّا الأوّل فلما هو المفروض ، وأمّا الثانی فلأنّ قبول اشتغال الذمّة للتعدّد وعدمه ، إنّما هو تابع لقبول الفعل المتعلّق له وعدمه ، کما هو ظاهر للمتأمّل ، والمفروض قبوله للتعدّد . وملاحظة الأسباب العقلیة ترفع احتمال التأکید .
وفیه : أنّه قد أشرنا غیر مرّة إلی أنّه لا وجه لمقایسة العلل الشرعیة بالعلل التکوینیة ؛ لأنّ العلّة التکوینیة مؤثّرة فی وجود معلولها ، بل یکون تشخّص معلولها بتشخّصها ، ویکون وجود المعلول ربطاً ومتدلّیاً من وجود علّته ، ومن البدیهی أنّ النوم أو البول مثلاً ، لم یکن مؤثّراً وسبباً تکوینیاً لإیجاد الوضوء ، وکذا بعث المولی لم یکن مسبِّباً لذلک ، بل غایة ما هناک جعل البول مثلاً سبباً لإیجاب الوضوء ، بناءً علی إمکان جعل السببیة ، أو إیجاب الوضوء عند حدوث البول ، وواضح أنّه کما یصحّ جعل کلّ من البول والنوم سبباً لإیجاب الوضوء حال الانفراد ، فکذلک یصحّ عند اجتماعهما ، أو إیجاب الوضوء عند اجتماعهما .
وبالجملة : فعند وجود السببین یکون هناک إیجابان نحو ماهیة واحدة ، وقد أشرنا إلی أنّ مجرّد ذلک لا یوجب تعدّد اشتغال الذمّة بإیجاد الفعل ، بل غایة ما هناک تعدّد الوجوب ، فیدور الأمر بین حفظ إطلاق الشرطین والجزاءین ؛ وحمل الأمر الثانی علی التأکید ، وبین الاحتفاظ بأصالة التأسیس ، ورفع الید عن ظهور الشرطیة ، وقد قلنا : إنّ حمل الأمر علی التأکّد أولی ، فلاحظ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 273
وبعبارة اُخری : أنّ اشتغال الذمّة بإیجاد الفعل ، لیس إلاّ لأجل الوجوب علی المکلّف ، ولیس هاهنا شیء غیر البعث المتعلّق بالماهیة المتوجه إلی المکلّف المنتزع منه الوجوب ، فحینئذٍ تحقّق اشتغال آخر من السبب الثانی ، فرع تقدیم الظهور التأسیسی علی إطلاق الجزاء ، وهو ممنوع ، بل لو فرض معنی آخر لاشتغال الذمّة فتعدّده فرع هذا التقدیم الممنوع .
الوجه الثانی : الالتزام بکون الأسباب الشرعیة أسباباً لنفس الأفعال دون الأحکام ، ولا یلزم منه انفکاک المعلول عن علّته ؛ لأنّها لم تکن أسباباً عقلیة ولا عادیة، بل أسباباً جعلیة، ومعنی السبب الجعلی أنّ لها ـ کالبول مثلاً ـ اقتضاءً فی نظر الجاعل للوضوء؛ علی وجه لو انقدح ذلک فی نفوسنا لکنّا جازمین بالسببیة أیضاً.
وبعبارة اُخری ـ کما فی «المقالات» ـ : «أنّ الظاهر من الشرط کونه مقتضیاً لوجود الموضوع ، وأنّ اقتضاءه لوجوبه من تبعات اقتضائه الوجود ؛ حیث إنّ اقتضاءه التشریعی لوجود شیء کونه موجباً لوجوبه ، وحینئذٍ لازم إبقاء ظهور الشرط فی المؤثّریة المستقلّة اقتضاؤه وجوداً مستقلاًّ» .
وفیه : أنّه إن تمّ ما ذکره فلا یقتضی تعدّد الوجود ؛ لأنّه بعد الاعتراف بأنّ معنی السببیة الجعلیة للبول مثلاً ، أنّ له اقتضاءً للوضوء ، لا کونه مؤثّراً فعلیاً له ، فتعدّد الاقتضاء المستقلّ لا یوجب تعدّد الوجود ، کما لا یخفی ؛ لأنّ معنی استقلال الاقتضاء ، هو أنّه فی اقتضائه غیر متوقّف علی الضمّ والضمیمة ، ولا ینافی ذلک الاشتراک فی التأثیر الفعلی ، فحینئذٍ مع حفظ إطلاق الجزاء واستقلال کلّ واحد من
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 274
الشرطین فی اقتضاء نفس الماهیة ، یثبت القول بالتداخل لا محالة ، فتدبّر .
وأمّا ما قاله أعلی الله مقامه أخیراً وصدّقه المحقّق العراقی قدس سره ـ من أنّ لازم إبقاء ظهور الشرط فی المؤثّریة المستقلّة ، اقتضاؤه وجوداً مستقلاًّ ـ فرجوع عمّا ذکره فی الصدر؛ من أنّ الشرط له سببیة الاقتضاء بالنسبة إلیه، لا السببیة الاستقلالیة.
ولا یخفی : أنّ هذا الوجه وإن کان یشبه الوجه الذی اخترناه لتعدّد الجزاء وجوداً من وجهٍ ، ولکنّه غیره حقیقة ؛ بداهة أنّا تشبّثنا لإثبات ذلک بالفهم العرفی ومغروسیة المناسبة بین الشرط ومتعلّق الجزاء فی ذهنه ، بخلاف هذا الوجه ، فتدبّر حتّی لا یختلط علیک أحدهما بالآخر .
ویزید هذا الوجه وهناً ، عدم ارتضاء الشیخ الأعظم أعلی الله مقامه به ؛ حیث قال : «إنّ الإنصاف أنّه لا یسمن» نعم ارتضاه المحقّق العراقی قدس سره والأمر فی ذلک سهل ، والله الهادی إلی الرشاد .
فبعد ما تحقّق لدیک الأمر فی المقدّمتین اللتین استظهرهما الشیخ الأعظم أعلی الله مقامه من الوجه الذی ذکره العلاّمة قدس سره لعدم التداخل ـ من أنّ کلاًّ من الشرطین مستقلّ فی التأثیر ، وأنّ أثر الثانی غیر أثر الأوّل ـ تصل النوبة إلی المقدّمة الثالثة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 275