المقصد الثالث فی المفهوم

حول الوجهین اللذین ذکرهما الشیخ الأعظم لتحکیم المقدّمة الثانیة

حول الوجهین اللذین ذکرهما الشیخ الأعظم لتحکیم المقدّمة الثانیة

‏ثمّ إنّ الشیخ الأعظم أعلی الله مقامه ذکر وجهین لتحکیم المقدّمة الثانیة‏‎ ‎‏لا یخلوان من النظر:‏

الوجه الأوّل :‏ أنّ الأسباب الشرعیة کالأسباب العقلیة والعادیة‏ ‏، فإن التزمنا‏‎ ‎‏بکون الأسباب الشرعیة أسباباً لنفس الأحکام لا لمتعلّقاتها‏ ‏، فیلزم تعدّد إیجاد الفعل‏‎ ‎‏فی الخارج‏ ‏، وهو المطلوب‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 272
‏بیان الملازمة : هو أنّ المسبّب حینئذٍ اشتغال الذمّة بإیجاد الفعل‏ ‏، ولا شکّ فی‏‎ ‎‏أنّ السبب الأوّل یقتضی ذلک‏ ‏، فإذا فرضنا وجود سبب آخر فیوجب اشتغالاً آخر‏ ‏؛‏‎ ‎‏إذ لو لم یقتض ذلک فإمّا لنقص فی السبب‏ ‏، أو فی المسبّب‏ ‏، ولیس ذلک فی شیء منهما :‏‎ ‎‏أمّا الأوّل فلما هو المفروض‏ ‏، وأمّا الثانی فلأنّ قبول اشتغال الذمّة للتعدّد وعدمه‏ ‏، إنّما‏‎ ‎‏هو تابع لقبول الفعل المتعلّق له وعدمه‏ ‏، کما هو ظاهر للمتأمّل‏ ‏، والمفروض قبوله‏‎ ‎‏للتعدّد‏ ‏. وملاحظة الأسباب العقلیة ترفع احتمال التأکید‏‎[1]‎ .

وفیه :‏ أنّه قد أشرنا غیر مرّة إلی أنّه لا وجه لمقایسة العلل الشرعیة بالعلل‏‎ ‎‏التکوینیة‏ ‏؛ لأنّ العلّة التکوینیة مؤثّرة فی وجود معلولها‏ ‏، بل یکون تشخّص معلولها‏‎ ‎‏بتشخّصها‏ ‏، ویکون وجود المعلول ربطاً ومتدلّیاً من وجود علّته‏ ‏، ومن البدیهی أنّ‏‎ ‎‏النوم أو البول مثلاً‏ ‏، لم یکن مؤثّراً وسبباً تکوینیاً لإیجاد الوضوء‏ ‏، وکذا بعث المولی‏‎ ‎‏لم یکن مسبِّباً لذلک‏ ‏، بل غایة ما هناک جعل البول مثلاً سبباً لإیجاب الوضوء‏ ‏، بناءً‏‎ ‎‏علی إمکان جعل السببیة‏ ‏، أو إیجاب الوضوء عند حدوث البول‏ ‏، وواضح أنّه کما‏‎ ‎‏یصحّ جعل کلّ من البول والنوم سبباً لإیجاب الوضوء حال الانفراد‏ ‏، فکذلک یصحّ‏‎ ‎‏عند اجتماعهما‏ ‏، أو إیجاب الوضوء عند اجتماعهما‏ .

‏وبالجملة : فعند وجود السببین یکون هناک إیجابان نحو ماهیة واحدة‏ ‏،‏‎ ‎‏وقد أشرنا إلی أنّ مجرّد ذلک لا یوجب تعدّد اشتغال الذمّة بإیجاد الفعل‏ ‏، بل غایة ما‏‎ ‎‏هناک تعدّد الوجوب‏ ‏، فیدور الأمر بین حفظ إطلاق الشرطین والجزاءین‏ ‏؛ وحمل‏‎ ‎‏الأمر الثانی علی التأکید‏ ‏، وبین الاحتفاظ بأصالة التأسیس‏ ‏، ورفع الید عن ظهور‏‎ ‎‏الشرطیة‏ ‏، وقد قلنا : إنّ حمل الأمر علی التأکّد أولی‏ ‏، فلاحظ‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 273
‏وبعبارة اُخری : أنّ اشتغال الذمّة بإیجاد الفعل‏ ‏، لیس إلاّ لأجل الوجوب علی‏‎ ‎‏المکلّف‏ ‏، ولیس هاهنا شیء غیر البعث المتعلّق بالماهیة المتوجه إلی المکلّف المنتزع‏‎ ‎‏منه الوجوب‏ ‏، فحینئذٍ تحقّق اشتغال آخر من السبب الثانی‏ ‏، فرع تقدیم الظهور‏‎ ‎‏التأسیسی علی إطلاق الجزاء‏ ‏، وهو ممنوع‏ ‏، بل لو فرض معنی آخر لاشتغال الذمّة‏‎ ‎‏فتعدّده فرع هذا التقدیم الممنوع‏ .

الوجه الثانی :‏ الالتزام بکون الأسباب الشرعیة أسباباً لنفس الأفعال دون‏‎ ‎‏الأحکام‏ ‏، ولا یلزم منه انفکاک المعلول عن علّته‏ ‏؛ لأنّها لم تکن أسباباً عقلیة ولا‏‎ ‎‏عادیة، بل أسباباً جعلیة، ومعنی السبب الجعلی أنّ لها ـ کالبول مثلاً ـ اقتضاءً فی نظر‏‎ ‎‏الجاعل للوضوء؛ علی وجه لو انقدح ذلک فی نفوسنا لکنّا جازمین بالسببیة أیضاً‏‎[2]‎‏.‏

‏وبعبارة اُخری ـ کما فی «المقالات» ـ : «أنّ الظاهر من الشرط کونه مقتضیاً‏‎ ‎‏لوجود الموضوع‏ ‏، وأنّ اقتضاءه لوجوبه من تبعات اقتضائه الوجود‏ ‏؛ حیث إنّ‏‎ ‎‏اقتضاءه التشریعی لوجود شیء کونه موجباً لوجوبه‏ ‏، وحینئذٍ لازم إبقاء ظهور‏‎ ‎‏الشرط فی المؤثّریة المستقلّة اقتضاؤه وجوداً مستقلاًّ»‏‎[3]‎ .

وفیه :‏ أنّه إن تمّ ما ذکره فلا یقتضی تعدّد الوجود‏ ‏؛ لأنّه بعد الاعتراف بأنّ‏‎ ‎‏معنی السببیة الجعلیة للبول مثلاً‏ ‏، أنّ له اقتضاءً للوضوء‏ ‏، لا کونه مؤثّراً فعلیاً له‏ ‏،‏‎ ‎‏فتعدّد الاقتضاء المستقلّ لا یوجب تعدّد الوجود‏ ‏، کما لا یخفی‏ ‏؛ لأنّ معنی استقلال‏‎ ‎‏الاقتضاء‏ ‏، هو أنّه فی اقتضائه غیر متوقّف علی الضمّ والضمیمة‏ ‏، ولا ینافی ذلک‏‎ ‎‏الاشتراک فی التأثیر الفعلی‏ ‏، فحینئذٍ مع حفظ إطلاق الجزاء واستقلال کلّ واحد من‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 274
‏الشرطین فی اقتضاء نفس الماهیة‏ ‏، یثبت القول بالتداخل لا محالة‏ ‏، فتدبّر‏ .

وأمّا‏ ما قاله أعلی الله مقامه  أخیراً وصدّقه المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ ـ من أنّ لازم‏‎ ‎‏إبقاء ظهور الشرط فی المؤثّریة المستقلّة‏ ‏، اقتضاؤه وجوداً مستقلاًّ ـ فرجوع‏‎ ‎‏عمّا ذکره فی الصدر؛ من أنّ الشرط له سببیة الاقتضاء بالنسبة إلیه، لا السببیة‏‎ ‎‏الاستقلالیة.‏

ولا یخفی :‏ أنّ هذا الوجه وإن کان یشبه الوجه الذی اخترناه لتعدّد الجزاء‏‎ ‎‏وجوداً من وجهٍ‏ ‏، ولکنّه غیره حقیقة‏ ‏؛ بداهة أنّا تشبّثنا لإثبات ذلک بالفهم العرفی‏‎ ‎‏ومغروسیة المناسبة بین الشرط ومتعلّق الجزاء فی ذهنه‏ ‏، بخلاف هذا الوجه‏ ‏، فتدبّر‏‎ ‎‏حتّی لا یختلط علیک أحدهما بالآخر‏ .

‏ویزید هذا الوجه وهناً‏ ‏، عدم ارتضاء الشیخ الأعظم أعلی الله مقامه به ؛ حیث‏‎ ‎‏قال : «إنّ الإنصاف أنّه لا یسمن»‏‎[4]‎‏ نعم ارتضاه المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ والأمر فی ذلک‏‎ ‎‏سهل‏ ‏، والله الهادی إلی الرشاد‏ .

‏فبعد ما تحقّق لدیک الأمر فی المقدّمتین اللتین استظهرهما الشیخ الأعظم‏‎ ‎‏أعلی الله مقامه من الوجه الذی ذکره العلاّمة ‏‏قدس سره‏‏ لعدم التداخل ـ من أنّ کلاًّ من‏‎ ‎‏الشرطین مستقلّ فی التأثیر‏ ‏، وأنّ أثر الثانی غیر أثر الأوّل ـ تصل النوبة إلی‏‎ ‎‏المقدّمة الثالثة‏ .

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 275

  • )) مطارح الأنظار : 180 / السطر 1 .
  • )) مطارح الأنظار : 180 / السطر 20 .
  • )) مقالات الاُصول 1 : 407 .
  • )) مطارح الأنظار : 180 / السطر 24 .