المقدّمة الرابعة : فی إمکان تداخل الأسباب
لا یخفی : أنّ مسألة تداخل الأسباب والمسبّبات وعدمها ، مرهونة بالاستظهار من الأدلّة ، فلابدّ قبل الاستظهار من إثبات إمکانه ، وإلاّ فلو امتنع التداخل أو وجب ، لزم تأویل ما یدلّ علی خلافه ، ولا نحتاج إلی تجشّم الدلیل علی إمکانه ، بل یکفی فی ذلک رفـع ما یکون محـذوراً وإشکالاً ، نظیـر ما قلنـاه فی مسألـة إمکان التعبّد بالظنّ فی قبال ابن قِبة القائل بعدم إمکان التعبّد بالظنّ ، فإنّ مجرّد إبطال ما استدلّ بـه لامتناع التعبّـد بالظنّ ، یکفی لإثبات إمکان التعبّـد بالظنّ ، فیؤخذ بما یکون ظاهره حجّیة الظنّ ، ولا نحتاج فی ذلک إلی دلیل یتعبّدنا بصحّة التعبّد بالظنّ .
وبالجملة: ـ کما أشرنا فی مسألة إمکان التعبّد بالظنّ ـ إنّ رفع ما استدلّ به لامتناع التعبّد بالظنّ، یکفی فی الأخذ بما یکون ظاهره حجّیة الظنّ وجواز العمل بخبر الواحد، فکذلک فی المقام بعد رفع ما استدلّ به لامتناع التداخل أو وجوبه، یکفی فی الأخذ بما یکون ظاهره التداخل وعدمه، ولا تحتاج إلی تجشّم الدلیل لإثبات الإمکان.
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 247
فنقول : أمّا إمکان التداخل فی الأسباب الشرعیة فلا إشکال فیه ؛ لأنّ الأسباب الشرعیة لیست من قبیل العلل التکوینیة بالنسبة إلی مسبّباتها ، بحیث یکون المسبّب مترشّحاً من سببه ، وتکون مرتبة نازلة منه ، کما هو الشأن فی المسبّبات التکوینیة ، بل بابها باب الموضوعیة للحکم والتناسب العقلائی بین الحکم وموضوعه ؛ فإنّه یفهم من قولک : «إن أکرمک زید فأکرمه» أنّ بین الإکرامین تناسباً وارتباطاً ، وإلاّ لما علّق أحدهما علی الآخر ، ولم یکن إکرام زید إیّاک علّة وجودیة لإکرامک إیّاه ، بل کان کلّ منهما عنواناً برأسه له مبادئ تخصّه .
وبالجملة غایة ما فی الباب جعل السببیة والموضوعیة ؛ بناءً علی إمکان جعلهما ، أو جعل المسبّب عند وجود السبب لو امتنع ذلک ، وعلیه فکما یمکن لمصلحة جعل الوضوء عقیب کلّ من النوم والبول مستقلاًّ ، أو جعل سببیة کلّ منهما مستقلاًّ للوضوء ، فکذلک یمکن جعل الوضوء لمصلحة عقیب کلیهما مجتمعاً ، أو سببیتهما له حال الاجتماع ، فلا یلزم من ذلک محذور اجتماع علّتین علی معلول واحد حتّی یقال بامتناع التداخل .
وبهـذا یظهـر : أنّـه لا بـدّ للفقیـه ـ بل لکلّ باحث فـی المسائل العقلائیـة ـ أن یخلّی ذهنه ویجرّده من المباحث العقلیة ، ویقصر نظره إلی الاستظهارات العرفیة ؛ لئلاّ یختلط علیه الأمر فیقع فی اشتباهات ، کما وقع فیها بعض من خلط المسائل العقلائیة بالمسائل العقلیة . کما أنّ الباحث فی المسائل العقلیة ، لابدّ له من رفض التعهّدات العرفیة والاستظهارات العقلائیة ، وقصر النظر إلی ما یستقلّ به العقل ؛ لئلاّ یقع فی ضیق واضطراب . واختلاط نحوی التفکّر ربما أورث اشتباهات فی البین حتّی مـن الأعـلام ، عصمنا الله وإیّاکم مـن اختلاط نحوی التفکّر بحرمـة محمّـد وآله المعصومین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 248
هذا حال العلل الاعتباریة والأسباب الشرعیة ، وقد وضح إمکان التداخل فیها.
وأمّا العلل التکوینیة ، فالبحث عنها وإن کان خارجاً عن موضوع البحث فی مسألة التداخل، إلاّ أنّه بلحاظ رفع بعض الاشتباهات والمناقشات لا بأس بالإشارة إلیها .
فنقول : مصبّ قاعدة الواحد ومجراها عند مثبتیها ، لیس فی تأثیر کلّ شیء فی شیء ، بل إنّما یجرونها فی الفاعل الإلهی البسیط من جمیع الجهات ؛ بحیث لا تشوبه شائبة الکثرة ؛ لا خارجاً ، ولا ذهناً ، ولا وهماً ، ویرون أنّ الواحد البسیط من جمیع الجهات لا یعقـل أن یصـدر منـه غیر الواحـد ، کما أنّ مرادهم بعکس تلک القاعـدة ـ وهو عدم صدور الواحد إلاّ من الواحد ـ هو ذلک أیضاً .
وعلیـه فالفواعل الطبیعیة والعلل التکوینیة التی تکون فی عالم الکون والفساد ـ الذی فیه جهات من الکثرة ـ أجنبیّة عن مصبّ القاعدتین ومجراهما . ومن أجری قاعدة الواحد فی الفواعل الطبیعیة ، توهّم فی صورة توارد علل مستقلّة واجتماعها علی معلول واحد ، أنّ المؤثّر هو الجامع بینها ، ورأی أنّ المؤثّر والعلّة واحد ، کما أنّ المعلول أیضاً واحد ، وتمسّک فی ذلک بأمثلة عرفیة .
مثل ما إذا کان هناک حجر لا یمکن أن یرفعه شخص واحد ، بل یحتاج فی رفعه إلی رفیق أو رفقاء ، فالرافع لیس آحاد الأشخاص ، بل الجامع بینهم .
ومثل الماء لا یصیر حارّاً إلاّ بوضع شموع متعدّدة تحته ، فیکون المؤثّر هو الجامع بین الشموع . . . إلی غیر ذلک من الأمثلة المعروفة التی لیس من شأن الباحث
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 249
عن تلک القاعدة أن یتفوّه بها ؛ لما أشرنا من أنّ القاعدة من المسائل العقلیة الغامضة الخاصّة بمورد خاصّ ، فالتمسّک فیها بأمثلة عرفیة ممّا تنکره عقول ذوی اللبّ والبصیرة .
أضف إلی ذلک : أنّ الأمر فی المثالین ونحوهما لیس کما زعمـوا ؛ لأنّ الأجسـام ـ ومنها الحجر علی رأی القدماء من الحکماء ـ لها میل إلی مرکز العالم ؛ وهو الأرض علی زعمهم ، وعلی رأی المتأخّرین منهم تکون للأرض قوّة جاذبة تجذبها ، ومعلوم أنّ ذلک علی کلا الرأیین بلحاظ ثقل الجسم وخفّته ، فإذا کان الجسم ثقیلاً کالحجر فیکون میله الطبیعی إلی الأرض بحدّ خاصّ لا یکون فی الجسم الخفیف کالقطنة ، فإذا حدثت قوّة علی خلافه أکثر من القوّة التی تکون فیه ، أبعدته عن الأرض ، فکلّ من الرجلین أو الرجال یحدث مقداراً من القوّة فی الحجر ؛ بحیث إذا بلغت بذلک الحدّ یرتفع الحجر من الأرض ، وکذا الماء إنّما یسخن إذا قارنه مقدار خاصّ من الحرارة ، فلکلّ شمعة درجة من الحرارة ، فإذا بلغت الحرارة بذلک الحدّ فینفعل الماء ، ویصیر حارّاً ، فهناک علل متعدّدة ومعلولات کذلک أثّر کلّ منها بمقدار یخصّه ، فأیّ معنی لتأثیر الجامع؟!
مضافاً إلی أنّ الجامع بما هو جامع ، لا وجود له فی الخارج ؛ لأنّ الخارج ظرف التحقّق والتشخّص ، ووجود الجامع إنّما هو باختراع من الذهن فی الذهن ، فإذا لم یکن الجامع موجوداً خارجیاً فکیف یؤثّر فی شیء خارجی؟!
فظهر ممّا ذکرنا : أنّ القول بتداخل الأسباب فی الاعتباریات والتکوینیات ، بمکان من الإمکان . هذا کلّه فی أصل إمکان التداخل فی قبال الامتناع .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 250
وأمّا إثبات إمکان التداخل فی قبال وجوب التداخل .
فذهب بعض أعاظم العصر دام ظلّه إلی وجوب التداخل ، وقال فی بیانه ما حاصله : أنّه کما لا إشکال فی أنّه یمکن أن یتعلّق وجوب واحد بفردین من طبیعة واحدة علی نحو الارتباط ؛ بحیث یکون المأمور به واحداً ، فکذلک لا إشکال فی أنّه یمکن أن یتعلّق بهما وجوبان فی عرض واحد بخطاب واحد ؛ بأن یقول : «توضّأ وضوءین» ویصرّح باستقلال کلّ من الوجوبین ، بحیث یکون لکلّ منهما علی حیاله إطاعة وعصیان .
وأمّا إذا کان هناک خطابان أو أکثر علی نحو التدریج ـ بأن ورد فی خطاب : «إذا بلت فتوضّأ» وفی خطاب آخر : «إذا نمت فتوضّأ» ـ فلا یخلو إمّا أن یقال : إنّ متعلّق الوجوب فی کلیهما نفس الحیثیة المطلقة ؛ أعنی طبیعة الوضوء ، أو یقال : إنّه فی کلیهما فرد الطبیعة ، أو الطبیعة المقیّدة ، أو یقال : إنّه فی أحدهما مطلق ، وفی الآخر مقیّد ، أو فرد الطبیعة :
أمّا الأوّل فمستحیل ؛ لأنّ الفرض وحدة المکلِّف ، والمکلَّف ، والمکلَّف به ، فلا یبقی ملاک لتعدّد الوجوب وتکثّره ، وصِرف الشیء لا یتکرّر .
فلابدّ للقائل بعدم التداخل من الالتزام بأحد الأخیرین ، فحینئذٍ یسأل عمّا یقیّد به الطبیعة فی أحدهما أو کلیهما، ولکن التقیید ممتنع؛ ضرورة أنّ البول قد یکون مقدّماً علی النوم ، وقد یکون بالعکس ، فلا یمکن أن یقال : «إذا بلت فتوضّأ وضوءً غیر ما یجب علیک بسبب النوم» ثمّ یقول : «إذا نمت فتوضّأ وضوءً غیر ما وجب علیک بسبب البول» بحیث تکون الغیریة مأخوذة فی متعلّق أحدهما أو کلیهما ، والالتزام بذلک مشکل؛ بداهة عدم نظرأحد الخطابین فی الأسباب المتعدّدة إلی الآخر.
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 251
فإذا لم یکن فی مقام الثبوت قید یصلح لتقیید الطبیعة ، فلا تصل النوبة إلی مقام الاستظهار ، فإن لم نقل بتداخل الأسباب فلا محیص من القول بکون المتعلّق نفس الطبیعة غیر القابلة للتکرار ، فلا محیص إلاّ من القول بالتداخل .
وفیه أوّلاً : أنّه قد أشرنا فی صدر البحث إلی أنّه لابدّ للقائل بوجوب التداخل ، من إثبات امتناع عدم التداخل حتّی یصرف ما یکون ظاهره عدم التداخل ، ومجرّد عدم وجدان ما یصلح للتقیید بعد إمکان طروّ التقیید ، لا یکفی لصرف ما یکون ظاهره عدم التداخل .
وبالجملة : مجرّد عدم وجود القید فی مقام الاستظهار اللفظی ، لا یثبت الامتناع عقلاً ، فتدبّر .
وثانیاً : أنّه یمکن التقیید من جانب سببه ؛ بأن یقال فی المثال المذکور : «إن بلت فتوضّأ وضوءً من قِبل البول» ومعلوم أنّه غیر الوضوء من قِبل النوم ، فلو کان لکلّ من القضیتین ظهور فی سببیة کلّ منهما مستقلاًّ لجزاء یخصّه ، وانحصر الإشکال فی عدم إمکان أخذ قید صالح لذلک ، فنقول : یمکن تصویر القید ولو لم یکن مذکوراً فی الکلام ؛ بأن یقال : «إذا بلت فتوضّأ وضوءً من قِبل البول ، وإن نمت فتوضّأ وضوءً من قِبل النوم» ومعلوم أنّه بعد ذلک لا یجوز رفع الید عن ظاهر القضیتین بمجرّد عدم وجود القید فی الکلام .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 252