المقصد الثالث فی المفهوم

المقدّمة الرابعة‏: فی إمکان تداخل الأسباب

المقدّمة الرابعة : فی إمکان تداخل الأسباب 

‏لا یخفی : أنّ مسألة تداخل الأسباب والمسبّبات وعدمها‏ ‏، مرهونة بالاستظهار‏‎ ‎‏من الأدلّة‏ ‏، فلابدّ قبل الاستظهار من إثبات إمکانه‏ ‏، وإلاّ فلو امتنع التداخل أو‏‎ ‎‏وجب ، لزم تأویل ما یدلّ علی خلافه‏ ‏، ولا نحتاج إلی تجشّم الدلیل علی إمکانه‏ ‏،‏‎ ‎‏بل یکفی فی ذلک رفـع ما یکون محـذوراً وإشکالاً‏ ‏، نظیـر ما قلنـاه‏‎[1]‎‏ فی مسألـة‏‎ ‎‏إمکان التعبّد بالظنّ فی قبال ابن قِبة القائل بعدم إمکان التعبّد بالظنّ‏ ‏، فإنّ مجرّد‏‎ ‎‏إبطال ما استدلّ بـه لامتناع التعبّـد بالظنّ‏ ‏، یکفی لإثبات إمکان التعبّـد بالظنّ‏ ‏،‏‎ ‎‏فیؤخذ بما یکون ظاهره حجّیة الظنّ‏ ‏، ولا نحتاج فی ذلک إلی دلیل یتعبّدنا بصحّة‏‎ ‎‏التعبّد بالظنّ‏ .

‏وبالجملة: ـ کما أشرنا فی مسألة إمکان التعبّد بالظنّ ـ إنّ رفع ما استدلّ به‏‎ ‎‏لامتناع التعبّد بالظنّ، یکفی فی الأخذ بما یکون ظاهره حجّیة الظنّ وجواز العمل‏‎ ‎‏بخبر الواحد، فکذلک فی المقام بعد رفع ما استدلّ به لامتناع التداخل أو وجوبه،‏‎ ‎‏یکفی فی الأخذ بما یکون ظاهره التداخل وعدمه، ولا تحتاج إلی تجشّم الدلیل‏‎ ‎‏لإثبات الإمکان.‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 247
فنقول : أمّا إمکان التداخل‏ فی الأسباب الشرعیة فلا إشکال فیه‏ ‏؛ لأنّ‏‎ ‎‏الأسباب الشرعیة لیست من قبیل العلل التکوینیة بالنسبة إلی مسبّباتها‏ ‏، بحیث یکون‏‎ ‎‏المسبّب مترشّحاً من سببه‏ ‏، وتکون مرتبة نازلة منه‏ ‏، کما هو الشأن فی المسبّبات‏‎ ‎‏التکوینیة‏ ‏، بل بابها باب الموضوعیة للحکم والتناسب العقلائی بین الحکم‏‎ ‎‏وموضوعه‏ ‏؛ فإنّه یفهم من قولک : «إن أکرمک زید فأکرمه» أنّ بین الإکرامین تناسباً‏‎ ‎‏وارتباطاً‏ ‏، وإلاّ لما علّق أحدهما علی الآخر‏ ‏، ولم یکن إکرام زید إیّاک علّة وجودیة‏‎ ‎‏لإکرامک إیّاه‏ ‏، بل کان کلّ منهما عنواناً برأسه له مبادئ تخصّه‏ .

‏وبالجملة غایة ما فی الباب جعل السببیة والموضوعیة‏ ‏؛ بناءً علی إمکان‏‎ ‎‏جعلهما‏ ‏، أو جعل المسبّب عند وجود السبب لو امتنع ذلک‏ ‏، وعلیه فکما یمکن لمصلحة‏‎ ‎‏جعل الوضوء عقیب کلّ من النوم والبول مستقلاًّ‏ ‏، أو جعل سببیة کلّ منهما مستقلاًّ‏‎ ‎‏للوضوء‏ ‏، فکذلک یمکن جعل الوضوء لمصلحة عقیب کلیهما مجتمعاً‏ ‏، أو سببیتهما له‏‎ ‎‏حال الاجتماع‏ ‏، فلا یلزم من ذلک محذور اجتماع علّتین علی معلول واحد حتّی یقال‏‎ ‎‏بامتناع التداخل‏ .

‏وبهـذا یظهـر : أنّـه لا بـدّ للفقیـه ـ بل لکلّ باحث فـی المسائل العقلائیـة ـ‏‎ ‎‏أن یخلّی ذهنه ویجرّده من المباحث العقلیة‏ ‏، ویقصر نظره إلی الاستظهارات العرفیة‏ ‏؛‏‎ ‎‏لئلاّ یختلط علیه الأمر فیقع فی اشتباهات‏ ‏، کما وقع فیها بعض من خلط المسائل‏‎ ‎‏العقلائیة بالمسائل العقلیة‏ ‏. کما أنّ الباحث فی المسائل العقلیة‏ ‏، لابدّ له من رفض‏‎ ‎‏التعهّدات العرفیة والاستظهارات العقلائیة‏ ‏، وقصر النظر إلی ما یستقلّ به العقل‏ ‏؛‏‎ ‎‏لئلاّ یقع فی ضیق واضطراب‏ ‏. واختلاط نحوی التفکّر ربما أورث اشتباهات فی البین‏‎ ‎‏حتّی مـن الأعـلام‏ ‏، عصمنا الله وإیّاکم مـن اختلاط نحوی التفکّر بحرمـة محمّـد‏‎ ‎‏وآله المعصومین‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 248
‏هذا حال العلل الاعتباریة والأسباب الشرعیة‏ ‏، وقد وضح إمکان التداخل‏‎ ‎‏فیها.‏

وأمّا‏ العلل التکوینیة ، فالبحث عنها وإن کان خارجاً عن موضوع البحث فی‏‎ ‎‏مسألة التداخل، إلاّ أنّه بلحاظ رفع بعض الاشتباهات والمناقشات لا بأس‏‎ ‎‏بالإشارة إلیها‏ .

فنقول :‏ مصبّ قاعدة الواحد ومجراها عند مثبتیها‏‎[2]‎ ‏، لیس فی تأثیر کلّ شیء‏‎ ‎‏فی شیء‏ ‏، بل إنّما یجرونها فی الفاعل الإلهی البسیط من جمیع الجهات‏ ‏؛ بحیث لا تشوبه‏‎ ‎‏شائبة الکثرة‏ ‏؛ لا خارجاً‏ ‏، ولا ذهناً‏ ‏، ولا وهماً‏ ‏، ویرون أنّ الواحد البسیط من جمیع‏‎ ‎‏الجهات لا یعقـل أن یصـدر منـه غیر الواحـد‏ ‏، کما أنّ مرادهم بعکس تلک القاعـدة‏‎ ‎‏ـ وهو عدم صدور الواحد إلاّ من الواحد ـ هو ذلک أیضاً‏ .

‏وعلیـه فالفواعل الطبیعیة والعلل التکوینیة التی تکون فی عالم الکون والفساد‏‎ ‎‏ـ الذی فیه جهات من الکثرة ـ أجنبیّة عن مصبّ القاعدتین ومجراهما‏ ‏. ومن أجری‏‎ ‎‏قاعدة الواحد فی الفواعل الطبیعیة‏ ‏، توهّم فی صورة توارد علل مستقلّة واجتماعها علی‏‎ ‎‏معلول واحد‏ ‏، أنّ المؤثّر هو الجامع بینها‏ ‏، ورأی أنّ المؤثّر والعلّة واحد‏ ‏، کما أنّ‏‎ ‎‏المعلول أیضاً واحد‏ ‏، وتمسّک فی ذلک بأمثلة عرفیة‏ .

‏مثل ما إذا کان هناک حجر لا یمکن أن یرفعه شخص واحد‏ ‏، بل یحتاج فی‏‎ ‎‏رفعه إلی رفیق أو رفقاء‏ ‏، فالرافع لیس آحاد الأشخاص‏ ‏، بل الجامع بینهم‏ .

‏ومثل الماء لا یصیر حارّاً إلاّ بوضع شموع متعدّدة تحته‏ ‏، فیکون المؤثّر هو‏‎ ‎‏الجامع بین الشموع‏ . . ‏. إلی غیر ذلک من الأمثلة المعروفة التی لیس من شأن الباحث‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 249
‏عن تلک القاعدة أن یتفوّه بها‏ ‏؛ لما أشرنا‏‎[3]‎‏ من أنّ القاعدة من المسائل العقلیة‏‎ ‎‏الغامضة الخاصّة بمورد خاصّ‏ ‏، فالتمسّک فیها بأمثلة عرفیة ممّا تنکره عقول‏‎ ‎‏ذوی اللبّ والبصیرة‏ .

أضف‏ إلی ذلک : أنّ الأمر فی المثالین ونحوهما لیس کما زعمـوا‏ ‏؛ لأنّ الأجسـام‏‎ ‎‏ـ ومنها الحجر علی رأی القدماء من الحکماء ـ لها میل إلی مرکز العالم‏ ‏؛ وهو الأرض‏‎ ‎‏علی زعمهم‏ ‏، وعلی رأی المتأخّرین منهم تکون للأرض قوّة جاذبة تجذبها‏ ‏، ومعلوم‏‎ ‎‏أنّ ذلک علی کلا الرأیین بلحاظ ثقل الجسم وخفّته‏ ‏، فإذا کان الجسم ثقیلاً کالحجر‏‎ ‎‏فیکون میله الطبیعی إلی الأرض بحدّ خاصّ لا یکون فی الجسم الخفیف کالقطنة‏ ‏، فإذا‏‎ ‎‏حدثت قوّة علی خلافه أکثر من القوّة التی تکون فیه‏ ‏، أبعدته عن الأرض‏ ‏، فکلّ من‏‎ ‎‏الرجلین أو الرجال یحدث مقداراً من القوّة فی الحجر‏ ‏؛ بحیث إذا بلغت بذلک الحدّ‏‎ ‎‏یرتفع الحجر من الأرض‏ ‏، وکذا الماء إنّما یسخن إذا قارنه مقدار خاصّ من الحرارة‏ ‏،‏‎ ‎‏فلکلّ شمعة درجة من الحرارة‏ ‏، فإذا بلغت الحرارة بذلک الحدّ فینفعل الماء‏ ‏، ویصیر‏‎ ‎‏حارّاً‏ ‏، فهناک علل متعدّدة ومعلولات کذلک أثّر کلّ منها بمقدار یخصّه‏ ‏، فأیّ معنی‏‎ ‎‏لتأثیر الجامع؟!‏

مضافاً‏ إلی أنّ الجامع بما هو جامع‏ ‏، لا وجود له فی الخارج‏ ‏؛ لأنّ الخارج ظرف‏‎ ‎‏التحقّق والتشخّص‏ ‏، ووجود الجامع إنّما هو باختراع من الذهن فی الذهن‏ ‏، فإذا لم یکن‏‎ ‎‏الجامع موجوداً خارجیاً فکیف یؤثّر فی شیء خارجی؟!‏

‏فظهر ممّا ذکرنا : أنّ القول بتداخل الأسباب فی الاعتباریات والتکوینیات‏ ‏،‏‎ ‎‏بمکان من الإمکان‏ ‏. هذا کلّه فی أصل إمکان التداخل فی قبال الامتناع‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 250
‏وأمّا إثبات إمکان التداخل فی قبال وجوب التداخل .‏

فذهب بعض أعاظم العصر دام ظلّه‎[4]‎‏ إلی وجوب التداخل‏ ‏، وقال فی بیانه ما‏‎ ‎‏حاصله : أنّه کما لا إشکال فی أنّه یمکن أن یتعلّق وجوب واحد بفردین من طبیعة‏‎ ‎‏واحدة علی نحو الارتباط‏ ‏؛ بحیث یکون المأمور به واحداً‏ ‏، فکذلک لا إشکال فی أنّه‏‎ ‎‏یمکن أن یتعلّق بهما وجوبان فی عرض واحد بخطاب واحد‏ ‏؛ بأن یقول : «توضّأ‏‎ ‎‏وضوءین» ویصرّح باستقلال کلّ من الوجوبین‏ ‏، بحیث یکون لکلّ منهما علی حیاله‏‎ ‎‏إطاعة وعصیان‏ .

‏وأمّا إذا کان هناک خطابان أو أکثر علی نحو التدریج ـ بأن ورد فی خطاب :‏‎ ‎‏«إذا بلت فتوضّأ» وفی خطاب آخر : «إذا نمت فتوضّأ» ـ فلا یخلو إمّا أن یقال : إنّ‏‎ ‎‏متعلّق الوجوب فی کلیهما نفس الحیثیة المطلقة‏ ‏؛ أعنی طبیعة الوضوء‏ ‏، أو یقال : إنّه فی‏‎ ‎‏کلیهما فرد الطبیعة‏ ‏، أو الطبیعة المقیّدة‏ ‏، أو یقال : إنّه فی أحدهما مطلق‏ ‏، وفی الآخر‏‎ ‎‏مقیّد‏ ‏، أو فرد الطبیعة :‏

‏أمّا الأوّل فمستحیل‏ ‏؛ لأنّ الفرض وحدة المکلِّف‏ ‏، والمکلَّف‏ ‏، والمکلَّف به‏ ‏،‏‎ ‎‏فلا یبقی ملاک لتعدّد الوجوب وتکثّره‏ ‏، وصِرف الشیء لا یتکرّر‏ .

‏فلابدّ للقائل بعدم التداخل من الالتزام بأحد الأخیرین‏ ‏، فحینئذٍ یسأل عمّا‏‎ ‎‏یقیّد به الطبیعة فی أحدهما أو کلیهما، ولکن التقیید ممتنع؛ ضرورة أنّ البول قد یکون‏‎ ‎‏مقدّماً علی النوم‏ ‏، وقد یکون بالعکس‏ ‏، فلا یمکن أن یقال : «إذا بلت فتوضّأ وضوءً‏‎ ‎‏غیر ما یجب علیک بسبب النوم» ثمّ یقول : «إذا نمت فتوضّأ وضوءً غیر ما وجب‏‎ ‎‏علیک بسبب البول» بحیث تکون الغیریة مأخوذة فی متعلّق أحدهما أو کلیهما‏ ‏،‏‎ ‎‏والالتزام بذلک مشکل؛ بداهة عدم نظرأحد الخطابین فی الأسباب المتعدّدة إلی الآخر.‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 251
‏فإذا لم یکن فی مقام الثبوت قید یصلح لتقیید الطبیعة‏ ‏، فلا تصل النوبة إلی مقام‏‎ ‎‏الاستظهار‏ ‏، فإن لم نقل بتداخل الأسباب فلا محیص من القول بکون المتعلّق نفس‏‎ ‎‏الطبیعة غیر القابلة للتکرار‏ ‏، فلا محیص إلاّ من القول بالتداخل‏‎[5]‎ .

وفیه أوّلاً :‏ أنّه قد أشرنا فی صدر البحث إلی أنّه لابدّ للقائل بوجوب‏‎ ‎‏التداخل‏ ‏، من إثبات امتناع عدم التداخل حتّی یصرف ما یکون ظاهره عدم‏‎ ‎‏التداخل‏ ‏، ومجرّد عدم وجدان ما یصلح للتقیید بعد إمکان طروّ التقیید‏ ‏، لا یکفی‏‎ ‎‏لصرف ما یکون ظاهره عدم التداخل‏ .

‏وبالجملة : مجرّد عدم وجود القید فی مقام الاستظهار اللفظی‏ ‏، لا یثبت الامتناع‏‎ ‎‏عقلاً‏ ‏، فتدبّر‏ .

وثانیاً :‏ أنّه یمکن التقیید من جانب سببه‏ ‏؛ بأن یقال فی المثال المذکور : «إن‏‎ ‎‏بلت فتوضّأ وضوءً من قِبل البول» ومعلوم أنّه غیر الوضوء من قِبل النوم‏ ‏، فلو کان‏‎ ‎‏لکلّ من القضیتین ظهور فی سببیة کلّ منهما مستقلاًّ لجزاء یخصّه‏ ‏، وانحصر الإشکال فی‏‎ ‎‏عدم إمکان أخذ قید صالح لذلک‏ ‏، فنقول : یمکن تصویر القید ولو لم یکن مذکوراً فی‏‎ ‎‏الکلام‏ ‏؛ بأن یقال : «إذا بلت فتوضّأ وضوءً من قِبل البول‏ ‏، وإن نمت فتوضّأ وضوءً من‏‎ ‎‏قِبل النوم» ومعلوم أنّه بعد ذلک لا یجوز رفع الید عن ظاهر القضیتین بمجرّد عدم‏‎ ‎‏وجود القید فی الکلام‏ .

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 252

  • )) راجع أنوار الهدایة 1 : 189 .
  • )) الحکمة المتعالیة 2 : 204 ـ 209 ، شرح المنظومة ، قسم الحکمة : 132 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 224 .
  • )) قلت : عنی به اُستاذنا الأعظم البروجردی ـ دام ظلّه ـ . [ المقرّر حفظه الله ]
  • )) لمحات الاُصول : 292 ـ 293 ، نهایة الاُصول : 308 ـ 309 .