المقام الثانی : فی علاج التعارض بین الجملتین
لا یخفی : أنّه تختلف کیفیة ذلک باختلاف المشارب فی استفادة المفهوم :
فلو استفید ذلک من ناحیة وضع الجملة الشرطیة للعلّیة المنحصرة ، فتتعارض أصالة الحقیقة فی کلّ منهما مع أصالة الحقیقة فی الاُخری ، وحیث إنّه لا ترجیح لإحداهما علی الاُخری ، تتساقط أصالة الحقیقة من الجملتین ، ویحصل الإجمال فی الکلام .
وأمّا حملهما علی العلّیة التامّة ـ لکونها أقرب المجازات إلی المعنی الحقیقی والعلّیة المنحصرة واقعاً ـ فغیر وجیه ؛ لأنّ باب الاستعمال غیر رهین بأقربیة شیء لشیء واقعاً ، لأنّ المعتبر فی ذلک الاُنس الذهنی والفهم العقلائی الراجع إلی الاستظهار العرفی ومأنوسیة الاستعمال ، فربما تکون غیر العلّة التامّة أظهر منها فی مقام الاستظهار .
نعم ، لو کان فی بعض الموارد ظهور فی العلّیة التامّة فیتّبع ، فإن رجع مقال مدّعی الأقربیة إلی هذا فهو ، وإلاّ فغیر سدید ، کما أشرنا ، فتدبّر .
وأمّا لو لم نقل بوضع الجملة الشرطیة للعلّیة المنحصرة ، بل وضعت للعلّة التامّة ، إلاّ أنّها تکون منصرفة إلی العلّة المنحصرة ، فیقع التعارض بین الانصرافین ، وظاهر أنّ الانصراف متأخّر عن استعمال اللفظ فی معناه الموضوع له ، لا قبله حتّی یکون الاستعمال مجازیـاً ، فاللفظ مستعمل فـی معناه الحقیقی ، وغایـة ما یقتضیه الانصراف کون المراد الجدّی قسماً منها ؛ وهو العلّیة المنحصرة ، وهذه حجّة لولا ابتلاؤه بالمعارض ، وبعد تعارض الانصرافین لا یمکن ثبوت إرادة ما انصرف إلیه
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 235
جدّاً فی کلّ من الجملتین ، فیتساقط الانصرافان ، فتبقی أصالة الحقیقة فی کلّ منهما محکّمة ، ومقتضاها کون کلّ من خفاء الأذان وخفاء الجدران ، علّة تامّة لقصر الصلاة .
ولا یخفی : أنّ المراد بکون شیء علّة تامّة فی المقام ، لیس ما هو المصطلح علیه عند أرباب المعقول ، بل المراد هو کون الشیء تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه .
إذا تمهّد لک ما ذکرنا فیما إذا کانت الجملة موضوعة للعلّة التامّة وانصرفت إلی العلّة المنحصرة ، یسهل لک الأمر لو قیل بوضع الجملة الشرطیة لمطلق الترتّب بین الشرط والجزاء ، أو بوضعها لمطلق الترتّب بینهما ، ولکن قیل بانصرافها إلی العلّة المنحصرة ، فلا یحتاج إلی البیان ، کما لا یخفی .
وأمّا لو استفید المفهوم من ناحیة الإطلاق ومقدّمات الحکمة ، فلا یخلو إمّا أن یقال باستفادة العلّیة التامّة من ناحیة وضع اللفظ ، واستفادة الانحصار من ناحیة الإطلاق ، أو یقال بأنّ استفادة کلّ من العلّیة التامّة والانحصار من الإطلاق :
فعلی القول الأوّل ، حیث إنّ حجّیة أصالة الإطلاق من باب ظهور الفعل وکشفه عن تعلّق الإرادة بهما ، فإن جرت فی المقام أصالة الإطلاق فیهما فی حدّ نفسها ، فیقع التعارض بین أصالتی الإطلاق فی الجملتین ، فتقع أصالة الحقیقة فیهما بلا مزاحم فیؤخذ بها ، ومقتضاه کون کلّ من خفاء الجدران والأذان علّة تامّة لترتّب القصر .
وإن أبیت عن جریان أصالة الإطلاق فیهما فی المقام ، فلا یضرّ ذلک بالأخذ بأصالة الحقیقة فیهما ، کما لا یخفی فتدبّر .
وعلی القول الثانی ـ وهو ما إذا کانت استفادة کلّ من العلّیة التامّة والانحصار من الإطلاق ـ فمقتضی أصالة الإطلاق فی قوله : «إذا خفی الأذان فقصّر» نفی الشریک ؛ وأنّ خفاء الأذان تمام الموضوع لقصر الصلاة ، کما أنّ مقتضی أصالة الانحصار فیه نفی
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 236
البدیل ؛ وأنّه لا یخلف خفاء الأذان شیءٌ فی قصر الصلاة ، فبعد ورود قوله : «إذا خفی الجدران فقصّر» یعلم إجمالاً بطروّ القید علی الجملة الاُولی ، ولکن یحتمل أن یکون خفاء الجدران قیداً لخفاء الأذان ، ومقتضاه إثبات الشریک له ، فیکون خفاء الجدران جزءً للموضوع ، أو عدلاً له ، ومقتضاه إثبات العدل له ، وبعد قیام العلم الإجمالی یقع التعارض بین أصالة الإطلاق من جانب نفی الشریک ، ومن جانب نفی البدیل ، وحیث إنّه لا ترجیح لأحدهما فیرجع إلی الاُصول العملیة .
اللهمّ إلاّ أن یقال بانحلال العلم الإجمالی ـ بورود قید إمّا علی الإطلاق من ناحیة نفی الشریک ، وإمّا علیه من ناحیة نفی البدیل ـ إلی العلم التفصیلی بعدم انحصار العلّة ؛ إمّا لأجل تقیید الإطلاق من ناحیة البدیل ، وإمّا لأجل تقییده من ناحیة نفی الشریک الرافع لموضوع الإطلاق من ناحیة البدیل ، فیشکّ فی تقیید الإطلاق من ناحیة الشریک بدواً ، فیتمسّک بأصالة الإطلاق .
وبعبارة اُخری : القید إمّا وارد علی الإطلاق المثبت للانحصار ، أو الإطلاق المفید للاستقلال ، وعلی التقدیرین یکون الانحصار منفیاً إمّا لتعلّق القید به ، أو بموضوعه ، فینحلّ العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی بعدم الانحصار إمّا لأجل تقیید الإطلاق من جهة البدیل ، أو لأجل تقییده من جهة الشریک ، فیرتفع موضوع الإطلاق من جهة البدیل ، وإلی شکّ بدوی فی تقیید الإطلاق من جهة الشریک ، فیتمسّک بأصالة الإطلاق فی ذلک .
ولکن فیه : أنّ لانحلال العلم الإجمالی ضابطاً لا ینطبق علی ما نحن فیه ، وقد أشرنا إلیه سابقاً ، وسیجیء التعرّض له إن شاء الله مفصّلاً ، وحاصله صیرورة
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 237
العلم الإجمالی عند التحلیل وفی الواقع ، علماً تفصیلیاً وشکّاً بدویاً ؛ بحیث یزول العلم الإجمالی ویتبدّل إلی العلم التفصیلی والشکّ البدوی ، کما فی الأقلّ والأکثر الاستقلالیین ، کالدین المردّد بین عشرة دراهم أو ثلاثین مثلاً ، فعند التوجّه البدوی إلی الدین یحصل له العلم الإجمالی بدین مردّد بین عشرة دراهم وثلاثین ، ولکن بعد التأمّل ینحلّ هذا العلم الإجمالی ویتبدّل إلی العلم التفصیلی باشتغال ذمّته بعشرة دراهم والشکّ البدوی باشتغاله بعشرین .
وبالجملة : الضابط فی انحلال العلم الإجمالی هو زواله ؛ بحیث تخرج الأطراف عن کونها أطرافاً للعلم ، وتکون فی الحقیقة علماً تفصیلیاً انضمّ إلیه شکّ بدوی ، وعلیه فإن کان العلم الإجمالی فی مورد باقیاً بحاله ، وتولّد منه علم تفصیلی ، فلا یکاد یعقل انحلال العلم الإجمالی به ؛ لأنّ العلم التفصیلی متولّد من العلم الإجمالی قائم به ، ودائر مداره ، ومن آثاره ، ومحال أن یرفع الأثر مؤثّره ؛ لاستلزامه رفع الشیء نفسه ، ورفع الأثر مؤثّره ، وکلاهما محالان ، فلابدّ عند ذلک من الرجوع إلی قواعد اُخری .
أقول : إذا عرفت الضابط فی انحلال العلم الإجمالی وعدمه ، فما نحن فیه من قبیل الثانی ؛ لأنّ العلم التفصیلی بعدم الانحصار ، متولّد من العلم الإجمالی بطروّ القید ؛ إمّا علی الإطلاق المثبت للانحصار ، أو علی الإطلاق المفید للاستقلال قائماً به ومن آثاره ، فلا یعقل حفظ العلم التفصیلی إلاّ ببقاء العلم الإجمالی ، فکیف یمکن أن یکون رافعاً وموجباً لانحلال العلم الإجمالی به؟!
وحیث إنّ کلاًّ من العلمین الإجمالیین تعلّق بعنوان غیر ما تعلّق به الآخر ، فیکون حجّة بالنسبة إلی مؤدّاه ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 238
ثمّ إنّ فی المقام إشکالات تعرّض لها ولردّها المحقّق النائینی قدس سره وقد کفانا قدس سره مؤنة التعرّض لها ولردّها .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 239