المقصد الثالث فی المفهوم

المقام الثانی‏: فی علاج التعارض بین الجملتین

المقام الثانی : فی علاج التعارض بین الجملتین

‏لا یخفی : أنّه تختلف کیفیة ذلک باختلاف المشارب فی استفادة المفهوم :‏

فلو‏ استفید ذلک من ناحیة وضع الجملة الشرطیة للعلّیة المنحصرة‏ ‏، فتتعارض‏‎ ‎‏أصالة الحقیقة فی کلّ منهما مع أصالة الحقیقة فی الاُخری‏ ‏، وحیث إنّه لا ترجیح‏‎ ‎‏لإحداهما علی الاُخری‏ ‏، تتساقط أصالة الحقیقة من الجملتین‏ ‏، ویحصل الإجمال‏‎ ‎‏فی الکلام‏ .

‏وأمّا حملهما علی العلّیة التامّة ـ لکونها أقرب المجازات إلی المعنی الحقیقی والعلّیة‏‎ ‎‏المنحصرة واقعاً ـ فغیر وجیه‏ ‏؛ لأنّ باب الاستعمال غیر رهین بأقربیة شیء لشیء‏‎ ‎‏واقعاً‏ ‏، لأنّ المعتبر فی ذلک الاُنس الذهنی والفهم العقلائی الراجع إلی الاستظهار العرفی‏‎ ‎‏ومأنوسیة الاستعمال‏ ‏، فربما تکون غیر العلّة التامّة أظهر منها فی مقام الاستظهار‏ .

‏نعم‏ ‏، لو کان فی بعض الموارد ظهور فی العلّیة التامّة فیتّبع‏ ‏، فإن رجع مقال‏‎ ‎‏مدّعی الأقربیة إلی هذا فهو‏ ‏، وإلاّ فغیر سدید‏ ‏، کما أشرنا‏ ‏، فتدبّر‏ .

وأمّا‏ لو لم نقل بوضع الجملة الشرطیة للعلّیة المنحصرة‏ ‏، بل وضعت للعلّة‏‎ ‎‏التامّة‏ ‏، إلاّ أنّها تکون منصرفة إلی العلّة المنحصرة‏ ‏، فیقع التعارض بین الانصرافین‏ ‏،‏‎ ‎‏وظاهر أنّ الانصراف متأخّر عن استعمال اللفظ فی معناه الموضوع له‏ ‏، لا قبله حتّی‏‎ ‎‏یکون الاستعمال مجازیـاً‏ ‏، فاللفظ مستعمل فـی معناه الحقیقی‏ ‏، وغایـة ما یقتضیه‏‎ ‎‏الانصراف کون المراد الجدّی قسماً منها‏ ‏؛ وهو العلّیة المنحصرة‏ ‏، وهذه حجّة لولا‏‎ ‎‏ابتلاؤه بالمعارض‏ ‏، وبعد تعارض الانصرافین لا یمکن ثبوت إرادة ما انصرف إلیه‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 235
‏جدّاً فی کلّ من الجملتین‏ ‏، فیتساقط الانصرافان‏ ‏، فتبقی أصالة الحقیقة فی کلّ منهما‏‎ ‎‏محکّمة‏ ‏، ومقتضاها کون کلّ من خفاء الأذان وخفاء الجدران‏ ‏، علّة تامّة لقصر الصلاة‏ .

‏ولا یخفی : أنّ المراد بکون شیء علّة تامّة فی المقام‏ ‏، لیس ما هو المصطلح علیه‏‎ ‎‏عند أرباب المعقول‏ ‏، بل المراد هو کون الشیء تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه‏ .

إذا ‏تمهّد لک ما ذکرنا فیما إذا کانت الجملة موضوعة للعلّة التامّة وانصرفت إلی‏‎ ‎‏العلّة المنحصرة‏ ‏، یسهل لک الأمر لو قیل بوضع الجملة الشرطیة لمطلق الترتّب بین‏‎ ‎‏الشرط والجزاء‏ ‏، أو بوضعها لمطلق الترتّب بینهما‏ ‏، ولکن قیل بانصرافها إلی العلّة‏‎ ‎‏المنحصرة‏ ‏، فلا یحتاج إلی البیان‏ ‏، کما لا یخفی‏ .

وأمّا‏ لو استفید المفهوم من ناحیة الإطلاق ومقدّمات الحکمة‏ ‏، فلا یخلو إمّا أن‏‎ ‎‏یقال باستفادة العلّیة التامّة من ناحیة وضع اللفظ‏ ‏، واستفادة الانحصار من ناحیة‏‎ ‎‏الإطلاق‏ ‏، أو یقال بأنّ استفادة کلّ من العلّیة التامّة والانحصار من الإطلاق :‏

‏فعلی القول الأوّل‏ ‏، حیث إنّ حجّیة أصالة الإطلاق من باب ظهور الفعل‏‎ ‎‏وکشفه عن تعلّق الإرادة بهما‏ ‏، فإن جرت فی المقام أصالة الإطلاق فیهما فی حدّ‏‎ ‎‏نفسها‏ ‏، فیقع التعارض بین أصالتی الإطلاق فی الجملتین‏ ‏، فتقع أصالة الحقیقة فیهما‏‎ ‎‏بلا مزاحم فیؤخذ بها‏ ‏، ومقتضاه کون کلّ من خفاء الجدران والأذان علّة تامّة‏‎ ‎‏لترتّب القصر‏ .

‏وإن أبیت عن جریان أصالة الإطلاق فیهما فی المقام‏ ‏، فلا یضرّ ذلک بالأخذ‏‎ ‎‏بأصالة الحقیقة فیهما‏ ‏، کما لا یخفی فتدبّر‏ .

‏وعلی القول الثانی ـ وهو ما إذا کانت استفادة کلّ من العلّیة التامّة والانحصار‏‎ ‎‏من الإطلاق ـ فمقتضی أصالة الإطلاق فی قوله : «إذا خفی الأذان فقصّر» نفی الشریک‏ ‏؛‏‎ ‎‏وأنّ خفاء الأذان تمام الموضوع لقصر الصلاة‏ ‏، کما أنّ مقتضی أصالة الانحصار فیه نفی‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 236
‏البدیل‏ ‏؛ وأنّه لا یخلف خفاء الأذان شیءٌ فی قصر الصلاة‏ ‏، فبعد ورود قوله : «إذا خفی‏‎ ‎‏الجدران فقصّر» یعلم إجمالاً بطروّ القید علی الجملة الاُولی‏ ‏، ولکن یحتمل أن یکون‏‎ ‎‏خفاء الجدران قیداً لخفاء الأذان‏ ‏، ومقتضاه إثبات الشریک له‏ ‏، فیکون خفاء الجدران‏‎ ‎‏جزءً للموضوع‏ ‏، أو عدلاً له‏ ‏، ومقتضاه إثبات العدل له‏ ‏، وبعد قیام العلم الإجمالی یقع‏‎ ‎‏التعارض بین أصالة الإطلاق من جانب نفی الشریک‏ ‏، ومن جانب نفی البدیل‏ ‏،‏‎ ‎‏وحیث إنّه لا ترجیح لأحدهما فیرجع إلی الاُصول العملیة‏ .

اللهمّ‏ إلاّ أن یقال بانحلال العلم الإجمالی ـ بورود قید إمّا علی الإطلاق من‏‎ ‎‏ناحیة نفی الشریک‏ ‏، وإمّا علیه من ناحیة نفی البدیل ـ إلی العلم التفصیلی بعدم انحصار‏‎ ‎‏العلّة‏ ‏؛ إمّا لأجل تقیید الإطلاق من ناحیة البدیل‏ ‏، وإمّا لأجل تقییده من ناحیة نفی‏‎ ‎‏الشریک الرافع لموضوع الإطلاق من ناحیة البدیل‏ ‏، فیشکّ فی تقیید الإطلاق من‏‎ ‎‏ناحیة الشریک بدواً‏ ‏، فیتمسّک بأصالة الإطلاق‏ .

‏وبعبارة اُخری : القید إمّا وارد علی الإطلاق المثبت للانحصار‏ ‏، أو الإطلاق‏‎ ‎‏المفید للاستقلال‏ ‏، وعلی التقدیرین یکون الانحصار منفیاً إمّا لتعلّق القید به‏ ‏، أو‏‎ ‎‏بموضوعه‏ ‏، فینحلّ العلم الإجمالی إلی العلم التفصیلی بعدم الانحصار إمّا لأجل تقیید‏‎ ‎‏الإطلاق من جهة البدیل‏ ‏، أو لأجل تقییده من جهة الشریک‏ ‏، فیرتفع موضوع‏‎ ‎‏الإطلاق من جهة البدیل‏ ‏، وإلی شکّ بدوی فی تقیید الإطلاق من جهة الشریک‏ ‏،‏‎ ‎‏فیتمسّک بأصالة الإطلاق فی ذلک‏ .

ولکن فیه :‏ أنّ لانحلال العلم الإجمالی ضابطاً لا ینطبق علی ما نحن فیه‏ ‏،‏‎ ‎‏وقد أشرنا إلیه سابقاً‏‎[1]‎ ‏، وسیجیء التعرّض له إن شاء الله مفصّلاً‏ ‏، وحاصله صیرورة‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 237
‏العلم الإجمالی عند التحلیل وفی الواقع‏ ‏، علماً تفصیلیاً وشکّاً بدویاً‏ ‏؛ بحیث یزول العلم‏‎ ‎‏الإجمالی ویتبدّل إلی العلم التفصیلی والشکّ البدوی‏ ‏، کما فی الأقلّ والأکثر‏‎ ‎‏الاستقلالیین‏ ‏، کالدین المردّد بین عشرة دراهم أو ثلاثین مثلاً‏ ‏، فعند التوجّه البدوی‏‎ ‎‏إلی الدین یحصل له العلم الإجمالی بدین مردّد بین عشرة دراهم وثلاثین‏ ‏، ولکن بعد‏‎ ‎‏التأمّل ینحلّ هذا العلم الإجمالی ویتبدّل إلی العلم التفصیلی باشتغال ذمّته بعشرة‏‎ ‎‏دراهم والشکّ البدوی باشتغاله بعشرین‏ .

‏وبالجملة : الضابط فی انحلال العلم الإجمالی هو زواله‏ ‏؛ بحیث تخرج‏‎ ‎‏الأطراف عن کونها أطرافاً للعلم‏ ‏، وتکون فی الحقیقة علماً تفصیلیاً انضمّ إلیه شکّ‏‎ ‎‏بدوی‏ ‏، وعلیه فإن کان العلم الإجمالی فی مورد باقیاً بحاله‏ ‏، وتولّد منه علم تفصیلی‏ ‏،‏‎ ‎‏فلا یکاد یعقل انحلال العلم الإجمالی به‏ ‏؛ لأنّ العلم التفصیلی متولّد من العلم‏‎ ‎‏الإجمالی قائم به‏ ‏، ودائر مداره‏ ‏، ومن آثاره‏ ‏، ومحال أن یرفع الأثر مؤثّره‏ ‏؛ لاستلزامه‏‎ ‎‏رفع الشیء نفسه‏ ‏، ورفع الأثر مؤثّره‏ ‏، وکلاهما محالان‏ ‏، فلابدّ عند ذلک من الرجوع‏‎ ‎‏إلی قواعد اُخری‏ .

أقول :‏ إذا عرفت الضابط فی انحلال العلم الإجمالی وعدمه‏ ‏، فما نحن فیه من‏‎ ‎‏قبیل الثانی‏ ‏؛ لأنّ العلم التفصیلی بعدم الانحصار‏ ‏، متولّد من العلم الإجمالی بطروّ القید‏ ‏؛‏‎ ‎‏إمّا علی الإطلاق المثبت للانحصار‏ ‏، أو علی الإطلاق المفید للاستقلال قائماً به ومن‏‎ ‎‏آثاره‏ ‏، فلا یعقل حفظ العلم التفصیلی إلاّ ببقاء العلم الإجمالی‏ ‏، فکیف یمکن أن یکون‏‎ ‎‏رافعاً وموجباً لانحلال العلم الإجمالی به؟!‏

‏وحیث إنّ کلاًّ من العلمین الإجمالیین تعلّق بعنوان غیر ما تعلّق به الآخر‏ ‏،‏‎ ‎‏فیکون حجّة بالنسبة إلی مؤدّاه‏ ‏، فتدبّر‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 238
‏ثمّ إنّ فی المقام إشکالات تعرّض لها ولردّها المحقّق النائینی ‏‏قدس سره‏‏ وقد کفانا ‏‏قدس سره‏‎ ‎‏مؤنة التعرّض لها ولردّها‏‎[2]‎ .

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 239

  • )) تقدّم فی الجزء الثالث : 140 .
  • )) قلت : أحببت أن لا یخلو تقریرنا هذا منها ، فلنشر إجمالاً إلی الإشکالات وما أجاب به المحقّق النائینی قدس سره عنها ، وهی ثلاثة :     الإشکال الأوّل : هو أنّ ظهور الشرط فی کونه علّة تامّة ، أقوی من ظهوره فی الانحصار ؛ فإنّ دلالة القضیة الشرطیة علی استناد الجزاء إلی الشرط إنّما یکون بالنصوصیة ، بخلاف ظهورها فی الانحصار ، فإنّه إنّما یکون بالإطلاق ، فلابدّ من رفع الید عن ظهوره فی الانحصار والقول بکفایة أحد الشرطین .     وفیه : أنّ أصل استناد الجزاء إلی الشرط إنّما یکون بالإطلاق ؛ إذ من إطلاق الشرط وعدم ذکر شیء آخر معه ، یستفاد الاستناد ، وهذا لا ینافی أنّ حقیقة الاستناد إنّما تکون فی استناد الشیء إلی علّته التامّة ؛ فإنّ ذلک بعد الفراغ عن الاستناد وأنّ الجزاء یکون مستنداً إلی الشرط ، وهذا المعنی إنّما یکون بالإطلاق ، فظهور القضیة فی کون الشرط علّة تامّة کظهورها فی الانحصار ؛ فی أنّ کلاًّ منهما یکون بالإطلاق .     الإشکال الثانی : هو أنّ تقیید العلّة التامّة وجعل الشرط جزء العلّة ، یستلزم تقیید الانحصار أیضاً ، فإنّه لا یعقل الانحصار مع کونه جزء العلّة ، وهذا بخلاف تقیید الانحصار ، فإنّه لا یلزم منه تقیید العلّة التامّة کما لا یخفی ، فیدور الأمر بین تقیید واحد وتقییدین ، ومعلوم أنّ الأوّل أولی ، فلابدّ من تقیید الانحصار .     وفیه : أنّ غایة ما یقتضیه تقیید العلّة التامّة رفع موضوع الانحصار ، لا إیجاب تقیید زائد ، کما تقدّم نظیره فی الواجب المشروط ؛ ومن تقیید الهیئة یوجب رفع موضوع إطلاق المادّة ، لا تقییداً زائداً .     الإشکال الثالث : هو أنّ رتبة تقیید العلّة مقدّمة علی رتبة تقیید الانحصار ؛ لوضوح أنّ کون الشیء علّة منحصرة أو غیرها إنّما هو بعد کونه علّة تامّة ، ومقتضی التقدّم الرتبی إرجاع القید إلی العلّة التامّة وجعل الشرط جزء العلّة .     وفیه : أنّ التقدّم الرتبی لا ینفع بعد العلم الإجمالی بورود التقیید علی أحد الإطلاقین ، ولیس التقدّم الرتبی موجباً لانحلال هذا العلم ، کما لا یخفی ، فتأمّل(أ) . [ المقرّر حفظه الله ]     أ ـ فوائد الاُصول 1 : 488 ـ 489 .