الأمر الأوّل فی شمول محلّ النزاع لما إذا کان الجزاء معنی حرفیاً
قالوا : إنّ محطّ النزاع فی المفهوم إنّما هو بعد الفراغ عن کون المجعول فی القضیة سنخ الحکم ، کما إذا وقع المعنی الاسمی محمولاً فی القضیة ، کقوله علیه السلام : «الماء إذا بلغ قدر کرّ لم ینجّسه شیء» ، وأمّا إذا کان المجعول فیها حکماً جزئیاً علی موضوع جزئی ـ کما إذا وقف مالاً علی أولاده الذکور ، أو أولاده العدول ، أو إن کانوا عدولاً ـ فإن کان عقیماً أو کان له أولاد غیر عدول ، فالحکم الشخصی وإن کان ینتفی ، ولکنّ ذلک لیس لأجل المفهوم ، بل لأجل انتفاء الموضوع أو قیده وشرطه ، وانتفاء الحکم عند ذلک عقلی ؛ قیل بالمفهوم أم لا .
ولأجل ذلک صار المحمول الذی هو معنی اسمی فی القضیة ، محطّاً للنزاع بلا منازع . وأمّا إذا کان المحمول فیها معنی حرفیاً کهیئة الأمر أو النهی ، فقد صار دخوله فی محطّ النزاع محلاًّ للإشکال ؛ لأنّ المعنی الحرفی جزئی ، فإذا جعل محمولاً ـ کقوله : «إن جاءک زید فأکرمه» ـ فیکون من قبیل تعلیق شخص الحکم علی موضوعه ، لا سنخ الحکم .
وحاصل الإشکال : هو أنّ هیئة الأمر مثلاً موضوعة لإیقاع البعث ، وهو معنی جزئی بمنزلة إشارة الأخرس ، فإذا جعلت محمولاً فی قضیة فلا یکاد یستفاد منها المفهوم ؛ لأنّه إنّما یتطرّق فیما إذا کان المجعول فی القضیة الملفوظة سنخ الحکم
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 226
لا شخصه ، وانتفاء شخص الحکم أو الإنشاء الخاصّ بانتفاء بعض القیود ، عقلی .
وقد تخلّص عن الإشکال بوجوه :
الوجه الأوّل: ما تخلّص به القائل بکون الوضع والموضوع له فی الحروف عامّین ، کالمحقّق الخراسانی قدس سره ومن وافقه علی ذلک ، وحاصل ما أفاده فی ذلک :
هو أنّه لا فرق بین إفادة المعنی بالاسم وبالحرف ، ففی کلیهما یکون الموضوع له عامّاً وکلّیاً ، والفرق بینهما إنّما هو فی خصوصیة الاستعمال ، حیث إنّه لوحظت خصوصیة استعمال المعنی الاسمی بنحو الاستقلال ، بخلاف المعنی الحرفی ، فإنّه لوحظت فیه بنحو الآلیة والحالیة لغیره ، وعلیه فالمعلّق علی الشرط إنّما هو نفس الوجوب الذی هو مفاد الصیغة ومعناها ، وأمّا الشخص والخصوصیة الناشئة من قبل استعمالها فیه ، فلا یکاد تکون من خصوصیات معناها المستعملة فیه ، کما لا تکون الخصوصیة الحاصلة من قبل الإخبار به من خصوصیات ما اُخذ واستعمل فیه إخباراً .
وبالجملة : کما لا یکون المخبر به المعلّق علی الشرط ، خاصّاً بالخصوصیات الناشئة من قبل الإخبار به ، کقولک : «إن جاءک زید فیجب إکرامه» أو «یکون إکرامه واجباً» فکذلک المنشأ بالطبیعة المعلّق علیه .
ثمّ إنّه قدس سره حکی عن الشیخ الأعظم الأنصاری أعلی الله مقامه أنّه لم یقم دلیل علی کون الموضوع له فی الإنشاء عامّاً ؛ لو لم نقل بقیام الدلیل علی خلافه ؛ لکون الخصوصیات بأنفسها مستفادة من الألفاظ، فتعجّب قدس سره من کلامه أعلی الله مقامه حیث قال: «لعمری لا یکاد ینقضی تعجّبی کیف تجعل خصوصیات الإنشاء من خصوصیات
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 227
المستعمل فیه ، مع أنّها ـ کخصوصیات الإخبار ـ تکون ناشئة من الاستعمال» .
وفیه : أنّ تعجّبه قدس سره فی غیر محلّه ، بل إنّما التعجّب من تعجّبه ؛ بداهة أنّ المعنی المستفاد من هیئة الأمر ، هو المعنی المستفاد من الإشارة ، فکما أنّ الإشارة لا تفید مفهوم البعث ، بل تفید ما یکون بعثاً بالحمل الشائع ، فکذلک هیئة الأمر .
وبعبارة اُخری : إذا أشار الرجل بیده مثلاً ، لا یفهم منه مفهوم کلّی البعث ، بل غایة ما هناک إیقاع البعث ، وهو معنی جزئی ، کما هو واضح ، فکذلک هیئة الأمر لا یفهم منها أزید ممّا یفهم من الإشارة ، والفرق بینهما إنّما هو من جهة أنّ استفادة ذلک من الهیئة بالوضع ، دون الإشارة .
وبالجملة : المنشأ بالألفاظ ـ ولو کان المنشأ أمراً اعتباریاً ـ عبارة عن إیجاد معنی اعتباری ، نظیر إشارة الأخرس ، فکما أنّه بالإشارة یوقع البعث أو الزجر الجزئیین ، فکذلک بهیئة الأمر أو النهی یُنشئ ویوجد البعث أو الزجر الاعتباریین ، لا المفهوم الکلّی منهما ، ولعلّه واضح بأدنی تأمّل ، فعلی هذا یکون الموضوع له فی الهیئات والمعانی الحرفیة خاصّاً ، کما أفاده الشیخ الأعظم أعلی الله مقامه ، فلیت شعری لأیّ شیء تعجّب المحقّق الخراسانی قدس سره من الشیخ الأعظم أعلی الله مقامه؟!
فظهر : أنّ ما تخلّص به المحقّق الخراسانی قدس سره من الإشکال غیر وجیه .
الوجه الثانی: ما تخلّص به المحقّق النائینی قدس سره وقد صرّح قدس سره : بأنّ التوهّم أو الإشکال لا یبتنی علی کون الوضع فی الحروف خاصّاً ، ولا الجواب مبنی علی کون الوضع فیها عامّاً ، بل لو قلنا بأنّ الوضع فیها عامّ فیتوجّه الإشکال أیضاً ؛ لأنّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 228
الإشکال من جهة اُخری : وهی أنّه یعتبر فی التقیید والتعلیق أن یلاحظ الشیء معنی اسمیاً ، والمعنی الحرفی غیر قابل للتقیید والتعلیق ، فالجواب لابدّ وأن یکون من جهة اُخریٰ .
وحاصله : أنّ التقیید یرجع إلی المحمول المنتسب ؛ أی للمحمول فی رتبة الانتساب ، فالمعلّق مطلقاً ـ سواء کان الجزاء بصورة الإخبار ، کقولک : «إن جاءک زید یجب إکرامه» أو بصورة الإنشاء ، کقولک : «إن جاءک زید فأکرمه» ـ لم یکن فی المعنی الحرفی ، بل فی المعنی الاسمی ؛ وهو وجوب الإکرام ، وهو الذی ینتفی بانتفاء الشرط . هذا ما فی «فوائد الاُصول» .
وقد قرّر الجواب فی «أجود التقریرات» بتقریب یتحد مع التقریب الأوّل لُبّاً ، ویختلف عنه تأدیة، ولعلّ ما فیه أحسن ممّا فی سابقه ، وحاصله : أنّ المعلّق فی القضیة لیس هو مفاد الهیئة ؛ لأنّه معنی حرفی وملحوظ آلی ، بل المعلّق فی القضیة هی نتیجة القضیة المذکورة فی الجزاء ؛ أی المادّة المنتسبة ، فالمعلّق فی الحقیقة الحکم العارض للمادّة ، کوجوب الصلاة فی قولنا : «إذا دخل الوقت فصلّ» فینتفی هو بانتفاء شرطه .
ویرد علیه ما ذکرناه مفصّلاً فی المعانی الحرفیة ، وإجماله أنّ المعانی الحرفیة قابلة للتقیید ، وملتفت إلیها ، بل أکثر القیود التی تقع فی الکلام والجمل ـ خبریة کانت أم إنشائیة ـ فإنّما هی فی المعانی الحرفیة ، مثلاً القیود التی فی قولنا : «ضرب زید عمراً ، أمام الأمیر ، یوم الجمعة ، ضرباً شدیداً» ترجع إلی المعنی الحرفی .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 229
نعم ، المعنی الحرفی لا یقع موضوعاً فی القضیة ، ولا محمولاً لها ؛ وذلک بلحاظ أنّ المعنی الحرفی سنخ معنی ربطی غیر مستقلّ فی التحقّق والوجود ، لذا یأبی عن جعله موضوعاً أو محمولاً ، ومقتضی ذلک عدم تعلّق اللحاظ الاستقلالی بالمعنی الحرفی ، ولکنّ ذلک لا یوجب عدم إمکان تقییده ؛ بداهة أنّ التقیید کما یمکن أن یکون فی المعنی الملحوظ مستقلاًّ ، فکذلک یمکن أن یکون فی المعنی الملحوظ تبعاً وآلة لغیره .
وبعبارة أوضح : صیغة «أکرمه» مثلاً لها مادّة وهیئة ، وکلّ منهما موضوع لمعنی غیر ما للآخر ؛ لأنّ المادّة تدلّ علی طبیعة الإکرام ، والهیئة تدلّ علی البعث إلیها ، فهناک دالاّن ومدلولان ، وکلّ منهما یدلّ علی معناه مستقلاًّ غیر مربوط بالآخر .
نعم ، دلالة کلّ منهما فی ضمن الآخر ؛ لأنّه لا یمکن التنطق بکلّ واحد منهما مستقلاًّ ، فکما أنّ الهیئة فی ضمن المادّة تدلّ علی المعنی ، فکذلک المادّة فی ضمن الهیئة تدلّ علی المعنی ، فعند استعمال صیغة الأمر یلاحظ ویستعمل کلّ من الهیئة والمادّة فی معناهما ، وإلاّ فلو لم یستعملا یلزم کون التنطّق بهیئة الأمر لقلقة اللسان ، وهو کما تری واضح البطلان ، فما أفاده قدس سره من عدم إمکان تقیید المعنی الحرفی ، فی غیر محلّه .
بل المتبادر عند العرف والعقلاء من القضیة الشرطیة ـ کقولنا: «إن جاءک فأکرمه» ـ علّیة الشرط للجزاء ، فلم یکن هنا مقام التقیید حتّی یحتاج فی تصحیحه إلی إرجاع التقیید إلی المحمول المنتسب وغیره ، ولا وجه لصرف الکلام عن ظاهره العرفی وارتکاب ما یکون خلاف الظاهر ، فتدبّر .
ثمّ إنّ قوله : «المعلّق هو نتیجة القضیة المذکورة» إن أراد به أنّها قبل صیرورتها نتیجة معلّقة ، فلازمه أن یکون التقیید فی المعنی الحرفی ، وإن کان بعد ذلک فلا مجال للتقیید ، فتأمّل .
الوجه الثالث: ما تخلّصنا به عن الإشکال ، وهو جارٍ فی مطلق القضایا
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 230
إخباریة کانت أم إنشائیة ، وحاصله : أنّه لا إشکال فی أنّه إذا اُلقیت جملة خبریة، کقولنا : «إذا طلعت الشمس وجد النهار» یستفاد منها أنّ بین طلوع الشمس ووجود النهار ، مناسبةً ورابطة واقعیة أخبر عنها المخبر ، ولم یقل أحد بأنّ هنا إخبارین : الأوّل : الإخبار بالتلازم بین الشرط والجزاء ، والثانی : الإخبار بأنّ النهار موجود ، بل غایة ما یفهم العرف منها ـ وهم ببابک فاختبرهم ـ علّیة طلوع الشمس لوجود النهار ، وحیث إنّه متوقّف علیه ثبوتاً فأراد المخبر الإخبار عمّا هو الثابت ، فإذن الجملة الخبریة إخبار عمّا هو الثابت واقعاً .
فبعد ما عرفت الأمر فی الجمل الخبریة ، فیمکن دعوی ذلک فی القضایا الإنشائیة غیر التعلیقیة أیضاً ؛ وذلک لما تقرّر فی محلّه من أنّ الواجبات الشرعیة ألطاف فی الواجبات العقلیة ، فللواجب الشرعی ـ کالصلاة مثلاً ـ فی الواقع ونفس الأمر ، اقتضاء للوجوب ومصلحة ملزمة ؛ بحیث لو اطلعنا علیها لحکمت عقولنا بلزوم إتیانها ، فإذن ایجاب الشارع الأقدس الصلاة وأمره بإتیانها بقوله : « أَقِمِ الصَّلاَةَ » لتحصیل المصلحة التی تکون فیها ، وهکذا الحال فی القضایا الإنشائیة التعلیقیة ؛ لأنّ المعلّق فیها فی ظاهر القضیة وإن کان تعلیق الإنشاء والبعث إلی الشرط ، وهو یوهم علّیة الشرط لإنشاء البعث ، ولکنّ المتبادر عند العرف والعقلاء من ذلک ، هو أنّ المناسبة والارتباط الواقعی بین حیثیة مادّة الجزاء والشرط ، أوجب إخبار المتکلّم عنها ، مثلاً إذا قال المولی لعبده : «إن جاءک زید فأکرمه» یفهم العرف والعقلاء من ذلک ، أنّ التناسب الواقعی بین المجیء والإکرام ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 231
دعا المولی لإیجاب الإکرام عند تحقّق المجیء ، فالإیجاب متفرّع علی الثابت الواقعی ، وإلاّ کان التفریع لغواً وجزافاً .
وبالجملة :کلّ مورد تعلّق حکم بشرط ، یفهم منه العرف والعقلاء أنّ بین طبیعی ذاک الحکم وذلک الشرط ، ملازمةً وارتباطاً واقعیاً ألجأ المولی للتوصّل إلیها بذلک .
ولا فرق فی تلک الاستفادة بین جعل ذلک والتعبیر عنها بالمعنی الاسمی ، وبین إنشائها بالهیئة والمعنی الحرفی ؛ فإنّه وإن کان ظاهر القضیة ترتّب البعث علی الشرط ، إلاّ أنّ المرتکز عند العرف والعقلاء من ذلک وجود المناسبة بین الشرط ومادّة الجزاء ، فیکون بعینها عنواناً مشیراً وآلة للتوصّل بها إلی ذلک .
فعلی هذا لو تمّ فی مورد استفادة العلّیة المنحصرة من الشرط ، لتـمّت استفادة المفهوم من القضیة الشرطیة وإن کان الجزاء بصیغة الأمر أو النهی .
ولک أن تقول : إنّ الهیئة وإن کانت دالّة علی البعث الحرفی ، ولکن تناسب الحکم والموضوع یوجب إلغاء الخصوصیة عرفاً ، ویجعل الشرط علّة منحصرة لنفس الوجوب وطبیعیه ، فبانتفائه ینتفی طبیعی الوجوب وسنخه ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 232