المقصد الثالث فی المفهوم

توجیهان عقلیان لاستفادة المفهوم ودفعهما

توجیهان عقلیان لاستفادة المفهوم ودفعهما

‏وأمّا الوجه العقلی لاستفادة المفهوم‏ ‏، فنذکر منه تقریبین :‏

التقریب الأوّل :‏ ما أفاده المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ فی «المقالات» وحاصله : أنّ مرکز‏‎ ‎‏البحث فی المفهوم ومآله إلی أنّ الظاهر من القضیة ـ تعلیقیة کانت‏ ‏، أم غیرها ـ هو‏‎ ‎‏کونها فی مقام تعلیق سنخ الحکم أو شخصه‏ ‏؛ بعد الفراغ عن ظهور الشرط فی‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 220
‏الانحصار ولو من جهة ظهور دخل خصوصیة العنوان المأخوذ فی حیّز الخطاب فی‏‎ ‎‏ترتّب الحکم علیه‏ ‏؛ جزاء أوغیره‏ ‏، سنخاً أو شخصاً‏ ‏، وحینئذٍ یمکن أن یقال : إنّ طبع‏‎ ‎‏القضیة ـ باقتضاء ذاتها ـ لیس إلاّ ترتّب الحکم مهملة علی موضوعه‏ ‏؛ أی لا یقتضی‏‎ ‎‏بنفسه نفی الحکم عن غیر مورده‏ ‏، فلا یکون له مفهوم‏ .

‏ولکن إذا کانت فی البین جهة زائدة علی ربط الحکم بموضوعه ـ کما فی القضیة‏‎ ‎‏الشرطیة‏ ‏؛ من حیث اقتضاء أداة الشرط ربط الحکم بشرطه زائداً علی ربطه‏‎ ‎‏بموضوعه ـ فیمکن أن یقال : إنّ القضیة من هذه الجهة التی هی خارجة عن مدلولها‏ ‏،‏‎ ‎‏لا تقتضی إهمال الجزاء‏ ‏، بل مقتضی مقدّمات الحکمة تعلیق إطلاق حکمه الملازم‏‎ ‎‏لتجریده عن هذه الجهة‏ ‏، فیبقی حیث الإضافة إلی الموضوع علی طبعه الأوّلی فی‏‎ ‎‏القضایا الظاهرة نوعاً فی أنّ ترتّب الحکم علی موضوعه مهملة‏ .

‏وبعبارة اُخری نقول : إنّ ظهور القضایا نوعاً فی إهمال المحمول بالنسبة إلی‏‎ ‎‏موضوعه‏ ‏، مانع عن الأخذ بأصالة الإطلاق فی مثله‏ ‏، ولکن لا یمنع ذلک عن الأخذ‏‎ ‎‏بأصالة الإطلاق فی سائر الجهات‏ ‏. وبهذه العنایة أیضاً نقول بالمفهوم فی الغایة‏‎ ‎‏وأداة الحصر‏ .

‏وأمّا التوصیف‏ ‏، فحیث إنّه من شؤون الموضوع‏ ‏، وکانت نسبة الحکم إلیه‏‎ ‎‏کنسبته إلی ذات موضوعه‏ ‏، لذا صار منشأً للتشکیک فی أصالة الإطلاق من حیث‏‎ ‎‏إضافة الحکم إلیه‏ .

‏وأمّا العاری عن جمیع هذه الاُمور کالألقاب فلیس لها مفهوم‏ ‏، ولا یکون أحد‏‎ ‎‏یدّعیه هنا إلاّ فی مورد قیام قرینة شخصیة خارجیة‏ ‏، ککونه فی مقام التحدید‏‎ ‎‏وأمثاله‏‎[1]‎ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 221
وفیما أفاده ‏قدس سره‏‏ مواقع للنظر :‏

‏منها :‏‏ ما یظهر منه من أنّ مقتضی ظهور الکلام‏ ‏، هو أنّ العنوان المأخوذ فی‏‎ ‎‏موضوع الحکم‏ ‏، تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه‏ ‏، مع أنّه لا یکاد یثبت ظهور‏‎ ‎‏الکلام ذلک‏ ‏، بل المثبت له إنّما هو الإطلاق ومقدّمات الحکمة‏ ‏، ولذا لو لم نحرز کونه فی‏‎ ‎‏مقام البیان لما أمکن استفادة کونه تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه‏ ‏، کما لا یخفی‏ .

ومنها :‏ ما یظهر منه أیضاً من استفادة الانحصار من ظهور الکلام‏ ‏، وقد أشرنا‏‎ ‎‏آنفاً إلی عدم إمکان استفادة موضوعیته للحکم من ظهور اللفظ‏ ‏، فما ظنّک باستفادة‏‎ ‎‏الانحصار منه؟! وغایة ما تقتضیه مقدّمات الحکمة أنّ العنوان المأخوذ فی لسان‏‎ ‎‏الدلیل‏ ‏، هو تمام الموضوع لترتّب الحکم علیه‏ ‏، ولا یکاد یستفاد منها انحصاره فیه‏ ‏،‏‎ ‎‏وقد أوضحنا الأمر فی ذلک آنفاً عند الحدیث عن عدم استفادة الانحصار من إطلاق‏‎ ‎‏الشرط أو الجزاء‏ ‏، فراجع‏ .

ومنها :‏ ما یستفاد منه من أنّ طبع القضیة وقوع القضایا فیها إهمال‏ ‏، ولعلّ‏‎ ‎‏منشأ ما ذکره هو توهّم جعل الأحکام علی موضوعاتها بالمعنی الحرفی‏ ‏، وکأنّه‏‎ ‎‏لم‏ ‏یتفطّن لصور جعل الأحکام علی موضوعاتها بالمعنی الاسمی‏ ‏، مثل «الکلب نجس‏ ‏؛‏‎ ‎‏لا یتوضّأ بسؤره» أو «اجتنب عن الخمر النجس» إلی غیر ذلک‏ ‏، لأنّ «النجس» فیهما‏‎ ‎‏عنوان اسمی لنفس الکلب أو الخمر‏ ‏، لا لشخصهما‏ ‏، فلا إهمال فیهما‏ ‏، کما لا یخفی‏ .

ومنها :‏ أنّ مقتضی ما ذکره ‏‏قدس سره‏‏ ثبوت المفهوم فی مثل تلک القضایا التی اُلقیت‏‎ ‎‏بالمعنی الاسمی مع أنّ الأمر لیس کذلک‏ ‏، ولم یلتزم ‏‏قدس سره‏‏ به‏ ‏؛ فإنّ غایة ما یستفاد من‏‎ ‎‏قوله : «الکلب نجس» مثلاً أنّ عنوان الکلبیة تمام الموضوع للنجاسة‏ ‏، وأمّا انحصار‏‎ ‎‏النجاسة فیه فدون إثباته خرط القتاد‏ .

ومنها :‏ أنّه ‏‏قدس سره‏‏ قال : «إنّ فی غیر الثلاثة» الشرطیة‏ ‏، والغایة‏ ‏، والحصر «حیث‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 222
‏إنّه لم یتعلّق فیها سنخ الحکم فلم یکن لها مفهوم‏ ‏، وأمّا فی الثلاثة فلاشتمال القضیة علی‏‎ ‎‏عنایة زائدة‏ ‏، فیستفاد منها تعلیق سنخ الحکم‏ ‏، فلها مفهوم»‏ .

‏فعلی هذا الملاک کلّ الملاک عنده فی استفادة المفهوم‏ ‏، هو تعلیق سنخ الحکم‏ ‏،‏‎ ‎‏ولازم ذلک ثبوت المفهوم فی کلّ قضیة علّق فیها سنخ الحکم‏ ‏؛ سواء کانت القضیة من‏‎ ‎‏الأقسام الثلاثة‏ ‏، أو غیرها‏ ‏، ولم یلتزم به ‏‏قدس سره‏‏ مثلاً لا إهمال فی قوله تعالی : « حُرِّمَتْ‏‎ ‎‏عَلَیْکُمُ الْخَمْرُ » أو «الخمر نجس» أو «الکرّ معتصم» ونحو ذلک‏ ‏، ولم یتعلّق شخص‏‎ ‎‏الحکم‏ ‏، بل تعلّق سنخ الحرمة‏ ‏، أو النجاسة‏ ‏، أو الاعتصام‏ .

ومنها :‏ أنّه لو سلّم أنّ فی نوع القضایا إهمالاً‏ ‏، وتکون فی قوّة الجزئیة‏ ‏، ولم‏‎ ‎‏یکن لمقام البیان دخالة فی ذلک‏ ‏، فما معنی استفادة المفهوم لو کانت جهة زائدة؟! وذلک‏‎ ‎‏لأنّ الظاهر من لفظة : «إذا» الشرطیة مثلاً هو تعلیق الجزاء علی الشرط‏ ‏؛ وأنّها‏‎ ‎‏واسطة ثبوت الحکم للموضوع‏ ‏، ولا دلالة لها علی کون ما علّق علیه هو سنخ الحکم‏‎ ‎‏أو شخصه‏ ‏، ولیس مقتضی إطلاق مقام البیان إلاّ کون الارتباط غیر مرهون بزمان‏‎ ‎‏دون زمان‏ ‏، فلا یکاد یستفاد منه أیضاً أنّ المعلّق سنخ الحکم‏ .

‏وبالجملة : حدیث استفادة تعلیق سنخ الحکم لا شخصه من ظهور لفظة أداة‏‎ ‎‏الشرط أو مقدّمات الحکمة‏ ‏، غیر صحیح کما لا یخفی‏ .

ومنها‏ قوله : «إنّ مرکز البحث فی المفهوم هو کون الخطاب المعلّق سنخ الحکم‏‎ ‎‏أو شخصه» فإنّ ظاهره أنّه ‏‏قدس سره‏‏ بصدد تعیین محلّ النزاع عند القوم‏ ‏، ولم أجد أحداً‏‎ ‎‏منهم إلی الآن عقد البحث کذلک‏ ‏؛ وقال بالمفهوم بمجرّد کون الخطاب المعلّق سنخ‏‎ ‎‏الحکم‏ ‏. نعم قالوا : «إنّ محلّ النزاع بین المنکر ومثبته فی صورة کون الخطاب المعلّق‏‎ ‎‏سنخ الحکم‏ ‏، ولکن قال جمیعهم إنّ استفادة المفهوم إنّما هی من ناحیة العلّیة‏‎ ‎‏المنحصرة‏ ‏، فتدبّر واغتنم‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 223
التقریب الثانی :‏ وهو الذی أشار إلیه المحقّق الأصفهانی ‏‏قدس سره‏‎[2]‎‏ وبعض الأعاظم‏‎ ‎‏دام ظلّه‏‎[3]‎‏ وحاصله : أنّ ظاهر أخذ عنوان تلو حرف الشرط‏ ‏، هو أنّ التالی معلّق‏‎ ‎‏علی ذاک العنوان بخصوصه‏ ‏، لا علیه وعلی شیء آخر علی نحو الاشتراک‏ ‏؛ حتّی یکون‏‎ ‎‏التالی مستنداً إلی الجامع‏ ‏، وهو خلاف التعلیق‏ ‏، وإلاّ یلزم صدور الواحد من الکثیر‏ ‏،‏‎ ‎‏مثلاً قولک : «إن جاءک زید فأکرمه» ظاهر فی أنّ المجیء تمام العلّة لوجوب الإکرام‏ ‏،‏‎ ‎‏ولازم ذلک الانحصار بخصوصه‏ ‏، لا بما أنّه مصداق للجامع بینه وبین أمر آخر‏ ‏؛ لأنّه‏‎ ‎‏لو لم یکن المجیء علّة منحصرة یلزم أن یکون وجوب الإکرام مستنداً إلی الجامع بین‏‎ ‎‏المجیئیة وغیرها‏ ‏، وهو خلاف ظاهر القضیة الشرطیة‏ ‏، حیث إنّها تقتضی ترتّب التالی‏‎ ‎‏علی المقدّم بعنوانه‏ .

وفیه أوّلاً :‏ أنّ العلّیة والمعلولیة التکوینیتین غیر باب موضوعیة شیء للحکم‏ ‏؛‏‎ ‎‏لوضوح أنّ الموضوع لم یکن موجداً لحکمه ومؤثّراً فیه‏ ‏، بل غایة ما هناک جعل‏‎ ‎‏شیء بحسب الظاهر موضوعاً للحکم‏ ‏، فحدیث المؤثّریة ساقط‏ ‏، فلا مورد لجریان‏‎ ‎‏قاعدة الواحد‏ .

‏وبالجملة : قیاس التشریع بالتکوین أورث اشتباهات‏ ‏، منها جریان قاعدة‏‎ ‎‏الواحد فیه‏ ‏، لما أشرنا من عدم کون العلّیة والمعلولیة فی التشریع علی حذو العلّیة‏‎ ‎‏والمعلولیة التکوینیة ـ من صدور أحدهما عن الآخر ـ حتّی یتوهّم جریان قاعدة‏‎ ‎‏الواحد‏ ‏، بل المراد موضوعیته للحکم‏ ‏، ویجوز بالبداهة دخالة کلّ واحد من الماء‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 224
‏الجاری والکرّ وماء المطر مستقلاً ـ بعناوینها ـ فی عدم الانفعال بمجرّد ملاقاة النجس‏ ‏،‏‎ ‎‏کما هو کذلک‏ .

وثانیاً :‏ لو سلّم حدیث المؤثّریة فی باب العلل التشریعیة فنقول : إنّ مجری‏‎ ‎‏القاعدة إنّما هو فی الواحد البسیط الذی لا تشوبه شائبة الترکیب أصلاً‏ ‏؛ لا خارجاً‏ ‏،‏‎ ‎‏ولا ذهناً‏ ‏، ولا وهماً‏ ‏، کما هو مقرّر فی محلّه‏ ‏، لا فی مطلق الفاعل‏ .

وثالثاً :‏ لو أغمضنا عن ذلک کلّه فنقول : إنّ الباب باب الدلالة اللفظیة‏‎ ‎‏والاستظهار العرفی‏ ‏، والمتّبع فیه هو الفهم العرفی‏ ‏، لا التدقیقات الفلسفیة‏ .

ورابعاً :‏ أنّه لا ینقضی تعجّبی کیف تفوّه المحقّق الأصفهانی ‏‏قدس سره‏‏ مع تضلّعه‏‎ ‎‏فی المعقول : «بأنّه لو اجتمع اثنان یکون المؤثّر الجامع بینهما» مع أنّه لم یکن‏‎ ‎‏للجامع وجود فـی الخارج حتّی یکون مؤثّراً فـی شیء‏ ‏، بل لـه وجـود عقلائـی‏‎ ‎‏اعتباری‏ ‏، فتدبّر‏ .

‏هذا کلّه فی مفهوم الجملة الشرطیة‏ ‏. وقد أشرنا إلی أنّه لا یصحّ ولا یمکن‏‎ ‎‏استفادة المفهوم من نفس الجملة الشرطیة لو خلّیت ونفسها‏ ‏، ولکن هذا لا ینافی‏‎ ‎‏استفادة المفهوم منها لو احتفّت بقرینة حالیة أو سیاقیة ونحوهما‏ ‏، کما لا یبعد دعوی‏‎ ‎‏ذلک فی أکثر الجمل الشرطیة المشتملة علی الحکم‏ ‏، فتدبّر‏ .

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 225

  • )) مقالات الاُصول 1 : 397 ـ 399 .
  • )) نهایة الدرایة 2 : 416 .
  • )) وهو سماحة الاُستاذ الأعظم البروجردی ـ دام ظلّه ـ وقد ذکر دام ظلّه هذا التقریب حینما کان یحضر بحث اُستاذه المحقّق الخراسانی قدس سره(أ) . [المقرّر حفظه الله ]     أ ـ راجع نهایة الاُصول : 299 .