المقصد الثانی فی النواهی

المطلب الثامن‏: فی حکم مساوقة الصحّة والفساد للتمام والنقص

المطلب الثامن : فی حکم مساوقة الصحّة والفساد للتمام والنقص

‏قد اشتهر بینهم : أنّ الصحّة والفساد أمران إضافیان مساوقان للتمام والنقص‏‎ ‎‏لغة وعرفاً‏ ‏، بینهما تقابل العدم والملکة‏ ‏، ویعنون بـ‏ ‏«الملکة» الصحّة‏ ‏، وبـ‏ ‏«العدم»‏‎ ‎‏الفساد‏ ‏. والاختلاف فی التعبیر بین الفقیه والمتکلّم لأجل ما هو المهمّ فی نظرهما‏ ‏؛ لأنّ‏‎ ‎‏نظر الفقیه حیث یکون فی وجوب الإعادة والقضاء وعدمهما‏ ‏، فسّر الصحّة بإسقاط‏‎ ‎‏الإعادة والقضاء‏ ‏، وحیث یکون نظر المتکلّم فی حصول الامتثال الموجب عقلاً‏‎ ‎‏لاستحقاق العقوبة‏ ‏، فسّرها بما یوافق الأمر تارة‏ ‏، وبما یوافق الشریعة اُخری‏‎[1]‎ ‏. ولا‏‎ ‎‏یخفی ما فیه :‏

أمّا حدیث المساوقة ‏، فقد أشرنا فی مبحث الصحیح والأعمّ إلی عدم تمامیته‏ ‏،‏‎ ‎‏بل أشرنا إلی أنّ الصحّة والفساد یخالفان التمام والنقص مفهوماً‏ ‏؛ لغة‏ ‏، وعرفاً‏ ‏،‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 145
‏ومصداقاً‏‎[2]‎ ‏؛ لأنّ التمام والنقص عند العرف والعقلاء‏ ‏، یطلقان غالباً فی المرکّب ذی‏‎ ‎‏الأجزاء‏ ‏، فإن تمّت أجزاؤه یطلق علیه «التمام» فیقال : «بیت تامّ» إذا کملت مرافقه‏ ‏،‏‎ ‎‏ولا یطلق علیه «بیت صحیح» وإن نقص منه بعض مرافقه یطلق علیه «بیت ناقص»‏‎ ‎‏ولا یطلق علیه «بیت فاسد» وأمّا الصحّة والفساد فغالب استعمالهما عندهم فی‏‎ ‎‏الکیفیات والأحوال‏ ‏، مثل الکیفیات المزاجیّة أو الشبیهة بها‏ ‏، فیقال : «بطّیخة‏‎ ‎‏صحیحة» إذا کانت حلوة لم تفسدها المفسدات‏ ‏، ولا یطلق علیها «بطّیخة تامّة» کما‏‎ ‎‏یقال : «بطّیخة فاسدة» إذا تعفّنت‏ ‏، ولا یطلق علیها «بطّیخة ناقصة»‏ .

‏وبالجملة : إن کان هناک مزاج وکیفیة وطابق المصداق المزاج المتوقّع من‏‎ ‎‏الطبیعة‏ ‏، یقال : «إنّه صحیح» وإن لم یطابقه فیقال : «إنّه فاسد» فالصحّة والفساد‏‎ ‎‏کیفیتان عارضتان للشیء‏ ‏؛ فإن کانت مطابقة للکیفیة المترقّبة من ذلک الشیء‏ ‏، یطلق‏‎ ‎‏علیه «الصحیح» وإن کانت منافرة لمزاجه یطلق علیه : «الفاسد» فالفاکهة الفاسدة ما‏‎ ‎‏عرضتها کیفیة وجودیة منافرة لمزاجها تتنفّر منها الطبائع غالباً‏ ‏، کما أنّ الفاکهة‏‎ ‎‏الصحیحة ما تکون ملائمة لمزاجها تشتاق وتمیل إلیها الطبائع غالباً‏ .

‏فعلی هذا یکون التقابل بین التمام والنقص‏ ‏، تقابل العدم والملکة‏ ‏، کما أنّ التقابل‏‎ ‎‏بین الصحّة والفساد تقابل التضادّ‏ ‏، فحدیث مساوقة الصحّة والفساد للتمام والنقص‏‎ ‎‏وکون النسبة بینهما تقابل العدم والملکة‏ ‏، کما تری‏ .

‏نعم‏ ‏، لا یبعد أن تکون النسبة بین عنوانی «التمام» و«الصحة» العموم من وجه‏‎ ‎‏من حیث المورد والمصداق‏ .

‏هـذا ما یقتضیـه نظر العرف واللغـة بالنسبـة إلی مفهومی الصحّـة والفساد‏ ‏،‏‎ ‎‏والتمام والنقص‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 146
نعم ‏، یمکن تصحیح ما ذکروه من التساوق فی الشریعة‏ ‏، حیث تطلق الصحّة‏‎ ‎‏والفساد فی باب العبادات والمعاملات علی مرکّب ذی أجزاء وشروط‏ ‏، فإذا کملت‏‎ ‎‏أجزاء الصلاة وشروطها مثلاً ولم تجامعها الموانع‏ ‏، یطلق علیها «الصحّة» ویقال : «إنّها‏‎ ‎‏صلاة صحیحة» کما أنّه إذا فقد جزء أو شرط لها أو وجد مانع‏ ‏، یطلق علیها‏‎ ‎‏«الفاسدة» ویقال : «إنّها صلاة فاسدة» وهکذا یطلق «الصحیح» و«الفاسد» علی عقد‏‎ ‎‏البیع‏ ‏، فیطلق علیه «الصحیح» إن کان واجداً للأجزاء والشروط فاقداً للموانع‏ ‏، کما‏‎ ‎‏یطلق علیه «الفاسد» إذا فقد معه جزء أو شرط‏ ‏، أو قرن بالمانع‏ .

وبعد ما عرفت :‏ أنّ إطلاق «الصحّة» و«الفساد» عند العرف واللغة‏ ‏، إنّما هو فیما‏‎ ‎‏إذا کان هناک مزاج وکیفیة تطابقه أو لا تطابقه‏ ‏، ولم یکن لماهیة الصلاة والبیع کیفیة‏‎ ‎‏ومزاج‏ ‏، فإطلاقهم فی العبادات والمعاملات علی المرکّب ذی الأجزاء‏ ‏، لابدّ إمّا أن‏‎ ‎‏یکون بوضع جدید‏ ‏، أو باستعمال مجازی‏ ‏؛ بحیث کثر استعمالهما فیها وشاع إلی أن بلغا‏‎ ‎‏حدّ الحقیقة‏ .

‏ولکن من البعید دعوی وضع جدید فی ذلک من الشرع‏ ‏؛ حتّی یکون الموضوع‏‎ ‎‏له فیهما فی الاُمور التکوینیة‏ ‏، ما تکون له کیفیة ومزاج‏ ‏، وفی العبادات والمعاملات ما‏‎ ‎‏تکون له أجزاء وشروط‏ .

نعم ‏، لا یبعد أن یکون إطلاقهما فی العبادات والمعاملات علی ما یکون له‏‎ ‎‏أجزاء وشروط‏ ‏، بنحو من العنایة وعلی سبیل المجاز‏ ‏، فاستعملتا فیه کثیراً إلی أن بلغا‏‎ ‎‏حدّ الحقیقة‏ .

وکیف کان :‏ فدعوی مساوقة الصحّة والفساد للتمام والنقص‏ ‏، غیر وجیه إلاّ فی‏‎ ‎‏خصوص العبادات والمعاملات‏ ‏. فعلی هذا یکون الصحّة فی الماهیات المخترعة‏ ‏، صفةً‏‎ ‎‏لمصداق جامع لکافّة الأجزاء والشروط‏ ‏، فاقدٍ للموانع‏ ‏، مطابق للمخترع والمجعول‏ ‏،‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 147
‏والفساد مقابلها‏ ‏، فینقلب التقابل بینهما من التضادّ إلی تقابل العدم والملکة‏ ‏؛ لأجل تغیّر‏‎ ‎‏معناهما فی العبادات والمعاملات‏ .

ولکن‏ لیس کما زعموا من کون الملکة عبارة عن الصحّة‏ ‏، والعدم عبارة عن‏‎ ‎‏الفساد‏ ‏، نظیر ما قالوه فی الطهارة والنجاسة من «أنّ الطهارة أمر وجودی‏ ‏، والنجاسة‏‎ ‎‏عدمها عمّا من شأنه أن یکون طاهراً» وذلک لعدم تمامیة ما ذکروه فی الموردین :‏

أمّا‏ باب النجاسة والطهارة‏ ‏، فلیس الأمر کما زعموه‏ ‏، بل الأمر بالعکس‏ ‏؛ لأنّ‏‎ ‎‏النجاسة أمر وجودی‏ ‏، والطهارة أمر عدمی‏ ‏؛ وذلک لأنّ الشیء بخلقته الإلهیة لا یکون‏‎ ‎‏قذراً‏ ‏، بل إن لاقته إحدی الأعیان النجسة یصیر قذراً ونجساً‏ ‏، فإن زالت القذارة عنه‏‎ ‎‏رجع إلی أصل خلقته‏ ‏، ویصیر طاهراً غیر قذر‏ ‏، ولم یأتِ الشارع الأقدس فی باب‏‎ ‎‏الطهارة والنجاسة بشیء من قِبل نفسه علی خلاف ما علیه العقلاء‏ ‏، بل أبقی وأنفذ ما‏‎ ‎‏هم علیه‏ ‏، ومن المعلوم أنّ الثوب الطاهر مثلاً عندهم هو ما لم یصبه شیء قذر‏ ‏، وإن‏‎ ‎‏أصابه قذر فیطلقون علیه «أنّه نجس» فإن اُزیلت منه القذارة رجع الثوب إلی أصله‏ ‏؛‏‎ ‎‏وهو عدم القذارة‏ ‏، فلیست الطهارة أمراً عارضاً علی الثوب‏ ‏، بل القذارة هی التی‏‎ ‎‏تعرض علیه‏ ‏، فالنجاسة أمر وجودی‏ ‏، والطهارة عدمها‏ .

وأمّا‏ فی المقام فکذلک‏ ‏؛ فإنّ الصحّة تکون أمراً عدمیاً‏ ‏، والفساد یکون أمراً‏‎ ‎‏وجودیاً‏ ‏؛ لأنّ الصحّة فی الاُمور التکوینیة‏ ‏، هی عبارة عن کون الشیء علی خلقته‏‎ ‎‏الأصلیة وبحسب طبعه الأصلی‏ ‏، فلیست الصحّة أمراً عارضاً علی الشیء‏ ‏، نعم إن‏‎ ‎‏عرضه شیء یفسده صار فاسداً‏ ‏، فالصحّة خلوّ الشیء من المفسد‏ ‏، والفساد طروّ‏‎ ‎‏المفسد علی الشیء‏ ‏، مثلاً البطّیخة الصحیحة لا یکون فیها ـ مضافاً إلی أصل طبیعة‏‎ ‎‏البطّیخة ـ أمر آخر طارئ علیها‏ ‏، بل بمجرّد خلوّها من المفسدات یطلق علیها‏‎ ‎‏«الصحیحة» وإن طرأ علیها مفسد یطلق علیها «الفاسدة»‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 148
‏فتحصّل : أنّ النسبة بین الصحّة والفساد وکذا بین الطهارة والنجاسة‏ ‏، عدم‏‎ ‎‏وملکة‏ ‏، لکن علی عکس مسلک القوم‏ .

وأمّا قولهم: «إنّ الصحّة والفساد أمران إضافیان»‏ فلا یخفی عدم تمامیته فی‏‎ ‎‏الاُمور التکوینیة‏ ‏؛ لأنّ معنی کون الصحّة والفساد فی التکوینیات إضافیین‏ ‏، هو أنّ‏‎ ‎‏بطّیخة واحدة بالإضافة إلی شیء صحیحة‏ ‏، وبالإضافة إلی شیء آخر فاسدة‏ ‏، مع أنّ‏‎ ‎‏الشیء إذا کان صحیحاً لا یکون فاسداً‏ ‏، وهو واضح‏ .

نعم ‏، یمکن اعتبار الإضافة إذا کانا بمعنی التمام والنقص‏ ‏؛ لأنّه یمکن اعتبار التمام‏‎ ‎‏فی شیء من حیث الأجزاء فقط‏ ‏، واعتباره ناقصاً بالنسبة إلی الشروط‏ ‏، فیقال :‏‎ ‎‏«الصلاة صحیحة من حیث الأجزاء‏ ‏، وفاسدة من حیث الشروط» فإذا اُطلقت‏‎ ‎‏«الصحّة» و«الفساد» واُرید منهما التمام والنقص‏ ‏، فیمکن لحاظ أمر فی معناهما‏ ‏، فیصحّ‏‎ ‎‏إطلاق «الصحّة» و«الفساد» بالإضافة إلی حالات المکلّفین وأصنافهم‏ ‏؛ فإنّ الصلاة‏‎ ‎‏مثلاً مع الطهارة الترابیة‏ ‏، صحیحة بالنسبة إلی مکلّف‏ ‏، وفاسدة بالنسبة إلی مکلّف‏‎ ‎‏آخر‏ ‏، أو صحیحة فی حالة دون اُخری‏ .

‏فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ استعمال «التامّ» و«الناقص» فی العرف واللغة‏ ‏، إنّما‏‎ ‎‏یکون غالباً فی المرکّب ذی الأجزاء‏ ‏، والتقابل بینهما تقابل العدم والملکة‏ ‏، وأنّ‏‎ ‎‏غالب استعمال «الصحّة» و«الفساد» ـ بحسب العرف واللغة ـ وإن کان فی صورة‏‎ ‎‏وجود مزاج‏ ‏، والتقابل بینهما تقابل التضادّ‏ ‏، ولیسا إضافیین‏ ‏، إلاّ أنّهما فی باب‏‎ ‎‏العبادات والمعاملات‏ ‏، یستعملان فی معنی التمام والنقص‏ ‏، ویکون التقابل بینهما‏‎ ‎‏علی هذا‏ ‏، تقابل العدم والملکة‏ ‏، لکن علی عکس مزعمة القوم‏ ‏، حیث ذهبوا إلی‏‎ ‎‏أنّ الصحّة عبارة عن الملکة‏ ‏، والفساد عدمها‏ ‏، لما عرفت من أنّ الصحّة أمر عدمی‏ ‏،‏‎ ‎‏والفساد أمر وجودی حسبما فصّلناه‏ ‏، وعلی هذا الاستعمال تکون الصحّة والفساد‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 149
‏أمرین إضافیین بالنسبة إلی الأجزاء والشروط‏ .

‏ولا یخفی : أنّ اختلاف الأنظار فی صحّة عبادة أو معاملة وعدمها‏ ‏، لا یوجب‏‎ ‎‏إضافیتهما‏ ‏؛ لأنّ الأنظار طریق إلی تشخیص الواقع‏ ‏، فکلّ یخطّئ الآخر‏ ‏، فما فی مقال‏‎ ‎‏المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ من إثبات إضافیتهما بذلک‏‎[3]‎ ‏، غیر وجیه‏ .

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 150

  • )) کفایة الاُصول : 220 .
  • )) تقدّم فی الجزء الأوّل : 266 .
  • )) کفایة الاُصول : 220 .