حول مقال المحقّق النائینی
ثمّ إنّ المحقّق النائینی قدس سره اختار ما ذهب إلیه شیخنا الأعظم الأنصاری قدس سره وقد أطال فی بیانه ، وحاصل ما أفاده : هو أنّ مبنی سائر الأقوال فی المسألة ، هو توهّم کون المقام من صغریات قاعدة «الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار» فمنهم من رأی منافاته للاختیار خطاباً وملاکاً ، وبعضهم یری أنّه غیر منافٍ له لا ملاکاً ولا خطاباً ، وذهب ثالث إلی منافاته له خطاباً لا ملاکاً . . . إلی غیر ذلک من الأقوال .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 131
والحقّ فساد هذا التوهّم ، وعدم اندراج المقام تحت تلک القاعدة ؛ لأنّ المدّعی :
إمّا هو کون الخروج ممتنعاً بالاختیار .
أو کون مقدار من الکون الغصبی ممتنعاً .
أمّا علی الأوّل ، فلأنّه یشترط فی مجری القاعدة اُمور :
الأوّل : أن یکون الخروج ممتنعاً ، وهذا غیر حاصل فی الفرض ؛ للتمکّن من ترکه ، لأنّ الذی امتنع علیه هو مقدار من الکون المغصوب الذی یحصل تارة بالخروج ، واُخری بالترک ، ومجرّد الاضطرار إلی الجامع لا یوجب الاضطرار إلی ما یحصل به ، فلا یوجب امتناع الخروج .
الثانی : أنّ مورد القاعدة ما إذا کان التکلیف بالممتنع بالنسبة إلی المقدّمة الإعدادیة ـ التی یحصل الامتناع بترکها مطلقاً ـ غیر مشروط بها خطاباً ولا ملاکاً ، کالسیر بالنسبة إلی الحجّ ؛ لأنّ الحجّ غیر مشروط بالسیر لا خطاباً ولا ملاکاً ، فترکه حینئذٍ یوجب امتناع الحجّ علیه فی یوم عرفة ، ویکون من الامتناع بالاختیار . وأمّا إذا کان الخطاب بالنسبة إلی تلک المقدّمة الإعدادیة ، مشروطاً خطاباً وملاکاً ـ کالسیر بالنسبة إلی الحجّ لو فرض کون السیر مقدّمة وجوبیة للحجّ ؛ بحیث لو کان الشخص فی الحرم واتفق منه وقوع السیر ، یجب علیه الحجّ ـ فترک هذه المقدّمة وإن کان یوجب امتناع الواجب ، إلاّ أنّه لیس من صغریات تلک القاعدة ، ولذا لا یوجب ترک السیر ـ علی الفرض ـ عقاباً علی الحجّ .
وما نحن فیه من قبیل الثانی ؛ لأنّ الدخول فی الدار الغصبیة ، من المقدّمات التی یتوقّف علیها أصل الخطاب بالخروج ؛ إذ لا یعقل الخروج إلاّ بالدخول ، لأنّه موضوع للخروج ، ولا موضوع للخروج بدون دخول ، فکیف یعقل النهی عنه قبل الدخول؟!
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 132
والثالث : أنّه یعتبر فی مورد القاعدة أن یکون الفعل الممتنع علیه بالاختیار حال امتناعه ، غیر محکوم بحکم یضادّ حکمه السابق علی الامتناع ، بل لابدّ وأن لا یکون محکوماً بحکم ، ولو کان محکوماً بحکم لکان هو الحکم السابق علی الامتناع ؛ فإنّ الحجّ مثلاً حال امتناعه علـی الشخص بترک السیر ، إمّا غیـر محکوم بحکم أصلاً ، أو محکوم بحکم الوجوب ، فإذا فرض کون الفعل حال امتناعه محکوماً بحکم یضادّ حکمه السابق علی الامتناع ـ کما فی المقام ، حیث إنّ الخروج من الدار الغصبیة ممّا یحکم بلزومه العقل إمّا لکونه أقلّ المحذورین ، أو من باب وجوب ردّ المغصوب ـ فلا یکون من صغریات تلک القاعدة . هذا کلّه علی تقدیر کون الخروج ممتنعاً .
وأمّا علی الثانی ـ أی أنّ مقداراً من الکون الغصبی ممتنع ـ فهو حقّ ؛ لأنّه لا محیص من مقدار من الکون الغصبی ، سواء مکث فی الدار ، أو خرج منها ، إلاّ أنّ الکون الغصبی المتحقّق فی ضمن الخروج ، لا یکون منهیاً عنه بوجهٍ من الوجوه ، ولا فی زمان من الأزمنة ، بل واجباً فی جمیع الحالات ؛ لوجوب ردّ المغصوب إلی صاحبه بالضرورة من الدین ، انتهی حاصل کلامه زید فی علوّ مقامه .
أقول : حاصل ما أتعب نفسه الزکیة فیه ، بناؤه علی عدم دخول المسألة فی کبری قاعدة «الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار» واستدلّ علیه باُمور غیر خالیة من الإشکال ؛ لأنّا نمنع اشتراط حرمة الخروج من الدار المغصوبة شرعاً بالدخول فیها ، بل هو حرام مطلقاً وبلا شرط ، غایة الأمر یکون الخروج بلا دخول ، سالبة بانتفاء الموضوع .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 133
مضافاً إلی أنّ ما ذکره ـ من تخصیص مورد القاعدة بما إذا کان الفعل الممتنع علیه بالاختیار ، غیر محکوم بحکم یضادّ حکمه السابق ـ ممّا لم یدلّ علیه دلیل ؛ إذ لا مانع من کون الخروج واجباً وحراماً بعنوانین ؛ لو قلنا بأنّ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار خطاباً وملاکاً ، أو یکون فیه ملاک الحرمة فقط ؛ لو قلنا بأنّه لا ینافیه ملاکاً فقط .
وقد أشرنا آنفاً إلی عدم وجاهة ما ادّعاه من أنّ ردّ المغصوب إلی صاحبه واجب بالضرورة من الدین ؛ لما عرفت من عدم الدلیل علی ذلک ؛ وأنّ الثابت من الدین هو حرمة التصرّف فی مال الغیر بغیر إذنه ورضاه ، نعم یعتبر عند ذلک ردّ المغصوب إلی صاحبه ، کما یعتبر وجوب التخلّص من الغصب ، وکذا ترک التصرّف فی مال الغیر . . . إلی غیر ذلک من العناوین .
والذی یسهّل الخطب : أنّ القاعدة أجنبیة عمّا نحن فیه ، فلا معنی لجعل المسألة من مصادیق القاعدة وعدمه ؛ وذلک لأنّ الحکماء إنّما ذکروا القاعدة ردّاً علی مذهب الأشاعرة القائلین بالجبر ، حیث استدلّوا علی مقالهم : «بأنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد ، وما لم یمتنع لم ینعدم» فزعموا أنّ الإیجاد والإعدام لیسا باختیاریین ؛ حتّی الأفعال الصادرة منه تعالی ، فهـو تعالی مجبـور فـی أفعالـه ، فیکون فاعلاً موجَبـاً ـ بالفتح ـ تعالی الله عمّا یقول الظالمون علوّاً کبیراً ، فتصدّی الحکماء لدفع مزعمتهم الفاسدة : «بأنّ الإیجاب بالاختیار لا ینافی الاختیار ، کما أنّ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار» ضرورة أنّ الشیء وإن کان ما دام لم یجب لم یوجد ، ما لم یمتنع
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 134
لم ینعدم ، ولکنّ هذا الإیجاب أو الامتناع السابقین إنّما هما بالاختیار ، وواضح أنّ الإیجاب والامتناع الاختیاریین لا ینافیان الاختیار ، بل یؤکّدانه .
وبالجملة : الإیجاب السابق علی فعله تعالی باختیاره ، لا ینافی اختیاره تعالی ؛ وأنّه تعالی فاعل موجِب ـ بالکسر ـ والإیجاب بالاختیار کالامتناع بالاختیار ـ أی جعل الشیء ممتنعاً بالاختیار ـ لا ینافی الاختیار ، بل یؤکّده .
وما نحن فیه غیر مربوط بهذه القاعدة ؛ لأنّ الامتناع بترک المقدّمة ـ کترک المسیر إلی الحجّ إلی وقت یمتنع إدراکه ـ ینافی الاختیار بالضرورة ، فمن ترک المسیر إلی الحجّ اختیاراً ، یخرج إتیان الحجّ فی الموسم عن اختیاره ، ویمتنع تحقّقه منه ، فهذا الامتناع ینافی الاختیار مع کونه بالاختیار .
والظاهر وقوع الخلط بین هذه القاعدة العقلیة وبین قاعدة اُخری عقلائیة یدخل المقام تحتها ؛ وهی أنّ الاضطرار إلی فعل الحرام أو ترک الواجب إذا کان بسوء الاختیار ، هل هو عذر عند العقلاء ولدی العقل ؛ بحیث لا یصحّ العقاب علیه ، أو لیس بعذر ویصحّ العقاب علیه؟
والأقوی هو الثانی ، فمن ترک المسیر إلی الحجّ بسوء اختیاره حتّی عجز عن إتیان المناسک فی الوقت المقرّر لها ، یصحّ عقابه وإن کان ینافی الاختیار ، وکذا من جعل نفسه مضطرّاً إلی التصرّف فی مال الغیر بلا إذنه ـ کالتصرّف الخروجی المضطرّ إلیه بحکم العقل ـ لا یکون معذوراً عقلاً ، کمن سلب قدرته عمداً علـی إنقاذ الغریق .
هذا کلّه فی المورد الأوّل ؛ وهو الحکم التکلیفی لخروج من توسّط الأرض الغصبیة بسوء اختیاره .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 135