المطلب الأوّل : فی شمول الخطاب للممتنع والکفّار والعصاة
أمّا مطلبه الأوّل : فهو أنّه بعد أن نفی کون المقام من صغریات قاعدة «الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار» قال : «أقوی الأقوال قول الشیخ قدس سره» .
ثمّ قال : لو فرضنـا کون المقام مـن صغریات تلک القاعدة ، فالحقّ ما علیـه المحقّق الخراسانی قدس سره من أنّ الخروج من الدار الغصبیة لیس بمأمور به شرعاً ، ولا منهیاً عنه ، مع کونه یعاقب علیه ؛ لأنّ الامتناع بالاختیار إنّما لا ینافی الاختیار عقاباً لا خطاباً ؛ لاستحالة الخطاب بالممتنع وإن کان امتناعه بسوء الاختیار ، بداهة أنّ الخطاب إنّما هو للداعویة والباعثیة ، ومن المعلوم أنّه إنّما یصلح ذلک إذا أمکن الانبعاث ، والمفروض أنّه ممتنع فعلاً ، فقیاس ما نحن فیه بالخطابات المتوجّهة إلی العصاة والکفّار فی غیر محلّه ؛ لتحقّق ما هو شرط صحّة الخطاب من الحکیم بالنسبة
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 121
إلیهم ، وهو إمکان داعویة الخطاب ومحرکیته وإن لم یکن محرّکاً فعلیاً .
وتوهّم : أنّ الخطاب فی مثل هذا یکون تخیّلیاً لیس فیه بعث حقیقی ، مدفوع بعدم معقولیة ذلک بالنسبة إلی المولی الحکیم ، انتهی محرّراً .
وفیه : أنّه قد تقدّم غیر مرّة حال جعل الأحکام القانونیة وشمولها للعصاة ، والکفّار ، ومن لم یقدر علی امتثالها، ؛ سواء کان عدم قدرته بسوء اختیاره ، أم لا .
وحاصله : أنّ الأحکام المتعلّقة بالعناوین ـ نحو« یَا أیُّهَا النَّاسُ » أو «یَا أیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا » ـ فعلیة علی عناوینها من غیر لحاظ حالات کلّ واحد من آحاد المکلّفین ، وأنّ صحّة الخطاب العمومی لا تتوقّف علی صحّة الباعثیة بالنسبة إلی جمیع الأفراد ، وأنّ الخطابات غیر مقیّدة بالقادر العالم الملتفت ، فالحکم بعدم جواز التصرّف فی مال الغیر مثلاً ، فعلی علی عنوانه غیر مقیّد بحال من الأحوال ، ولکنّ العقل یحکم بمعذوریة العاجز إذا طرأ علیه العجز لا بسوء اختیاره ، وأمّا معه فلا یراه معذوراً فی المخالفة .
فعلی هذا لا فرق بین العصاة والکفّار ومن لم یقدر علی الامتثال ـ ولو کان ذلک بسوء اختیاره ـ فی فعلیة الأحکام فی حقّهم، وغایة ما فی الباب حدیث المعذّریة وعدمها.
ولو أغمضنا عمّا هو الحقّ عندنا من صحّة توجّه الخطابات إلی العصاة والکفّار ، وقلنا بمقالتهم ، فلابدّ لنا من القول بصحّة الخطاب بالممتنع أیضاً ، والفرق بینهما من حیث إمکان داعویة الخطاب ومحرّکیته بالنسبة إلی العصاة والکفّار واستحالة الخطاب بالممتنع ، غیر فارق ؛ وذلک لأنّ للبعث الجدّی مبادئ ، منها احتمال
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 122
انبعاث المخاطب ببعثه ، وإلاّ فلو علم بعدم انبعاثه ـ إمّا لعدم قدرته ، أو لتمرّده ـ فلا یکاد یعقل من المولی الحکیم صحّة البعث جدّاً بداعی الانبعاث ، ألا تری أنّه لو أشرف عزیز علیک علی الغرق ، وکان لک هناک عبدان : أحدهما : عاجز لا یقدر علی إنقاذه ، والآخر : قادر علی ذلک ، لکنّک تعلم بأنّه لا یعبأ ببعثک ، فهل تری من نفسک ـ إن کنت حکیماً بصیراً ـ أن تأمرهما جدّاً نحو إنقاذ عزیزک؟! وهل تحصل لک مبادئ الإرادة الجدّیة بالنسبة إلی من تعلم بتمرّده دون العاجز معتذراً بأنّه قادر علیه؟! حاشاک ، ما هکذا الظنّ بالخبیر البصیر .
وبالجملة : إذا انحلّ الخطاب القانونی بعدد رؤوس آحاد المکلّفین ـ کما یقولون ـ فلازمه توجّه خطابات شخصیة : خطاب شخصی بالنسبة إلی هذا الشخص ، وخطاب شخصی آخر بالنسبة إلی ذاک الشخص . . . وهکذا ، فلکلّ خطاب مبادئ تخصّه ، ومن الواضح بدیهة لغویة خطاب المولی الحکیم بداعی انبعاث العاصی والکافر ؛ لعدم ترتّب فائدة علیه ، فلا ینقدح إرادة جدّیة منه إلی البعث عند ذلک ، فمن یمتنع علیه إتیان العمل ومن لا یعتنی بأمر المولی ، سیّان فی ذلک .
إن قلت : فما تقول فی قوله تعالی لموسی وهارون :« فَقُولاَ لَهُ » أی لفرعون « قَوْلاًَ لَیِّناً لَعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشَی » ، مع علمه تعالی بعدم قبول فرعون قولهما؟
قلت : تذییل خطابه تعالی بقوله :« لَعَلَّهُ یَتَذَکَّرُ أَوْ یَخْشَی » لأجل إحداث احتمال انبعاث فرعون ببعث موسی وهارون فی ذهنهما لمصالح ، وهما داعیان إلی الله سبحانه وتعالی .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 123
مضافاً إلی احتمال عدم کون المدعوّ حقیقة نفس فرعون ، بل حواریه ومن یکون عنـده ، ولم یکـد یمکن دعوتهم إلاّ بعـرض الدعوة صـورةً علـی فرعون ، وقد اُمرا به .
وبالجملة : العقل یحکم بعدم إمکان صدور البعث الجدّی من المولی الحکیم الملتفت بالنسبة إلی العصاة والکفّار ، کما لا یمکن فی صورة عجزهم وعدم تمکّنهم ، فإذا أمکن البعث الجدّی بالنسبة إلیهما ، فلا یکاد یصحّ کون البعث لإتمام الحجّة ، لأنّ الخطاب وسیلة للانبعاث والتوصّل إلی المقصد .
نعم ، إن کان لنفس التلفّظ بالخطاب فی نفسه مصلحة ، فیصحّ منه ذلک . ولکن عند ذلک لا یفترق الحال بین العاصی والکافر والممتنع ، فإذن لابدّ وأن لا یکون العصاة والکفّار ـ بل النائم والساهی ، بل مطلق ذوی الأعذار ـ مکلّفین ، وهو کما تری.
والذی یسهّل الخطب ـ کما أشرنا إلیه آنفاً فی صحّة تکلیف العصاة والکفّار ، بل مطلق ذوی الأعذار ـ هو أنّ للخطاب القانونی مبادئ تخصّه لا تکون فی غیره ؛ لأنّ المعتبر فی صحّة الخطاب القانونی ، هو احتمال انبعاث عدّة معتنی بها ممّن تسعهم نطاق دائرة المقنّن فی الأعصار والأمصار ؛ من دون انحلال الخطاب الواحد بعدد آحاد المکلّفین ، بل هو خطاب واحد فعلی علی عنوانه ، فإن کانت هناک عدّة مختلفة الحالات ـ ممّن تسعهم نطاق سلطنته ـ تنبعث بذلک الخطاب الواحد ، فالخطاب الواحد یکفی فی جعل الحکم الفعلی علی عنوانه العامّ بلا استثناء فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 124