عدم کون الخروج من الأرض المغصوبة واجباً
أمّا الدعوی الاُولی : وهی عدم کون الخروج من الأرض المغصوبة واجباً ؛ فلأنّه یمکن هنا اعتبار عناوین متعدّدة ، کعنوان وجوب التخلّص من الغصب ، ووجوب الخروج منه ، وترک الغصب ، وترک التصرّف فی مال الغیر ، وردّ المال إلی صاحبه ، ولا ریب فی أنّ وجوب إحدی هذه العناوین شرعاً ، لابدّ وأن یکون بدلالة الدلیل ، وإلاّ فلا یکاد یمکن إثباتها بعناوینها بمجرّد حرمة التصرّف فی مال الغیر بغیر رضاه ، أو حرمة الغصب .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 115
ولا یخفی : أنّ من لاحظ الکتاب والسنّة وتأمّل فیهما ، یری بالعیان أنّ الثابت فی الدین هو حرمة عنوان «الغصب» وحرمة التصرّف فی مال الغیر بغیر إذنه ، وأمّا غیرهما من العناوین المومأ إلیها ، فلم یرد من الشرع ما یدلّ علی وجوبها بعناوینها ؛ بحیث یکون عنوان التخلّص من الغصب بعنوانه مثلاً ـ وکذا غیره من العناوین ـ واجباً شرعیاً .
وأمّا ما ورد : من أنّ «المغصوب کلّه مردود» فهو إرشاد إلی حرمة التصرّف فی مال الغیر بغیر إذنه ، ولیس بصدد إفادة وجوب عنوان ردّ المغصوب بعنوانه ، بل لمّا کان الغصب والتصرّف فی مال الغیر بغیر إذنه حراماً ، یردّ المغصوب إلی صاحبه تخلّصاً من الحرام عقلاً ، فهو إرشاد إلیه .
ولا یمکن استفادة وجوب ذاک العنوان من قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «علی الید ما أخذت حتّی تؤدّی» ؛ لأنّ الکلام فی الحکم الشرعی التکلیفی ، وظاهر الحدیث ـ کما قرّر فی محلّه ـ هو دلالته علی الضمان الذی هو حکم وضعی ؛ وهو أنّ من استولی بیده علی مال الغیر عدواناً ، یکون ضامناً حتّی یؤدّیه ، ولا ملازمة بین ثبوت الضمان ووجوب الردّ حتّی یکون علی من غصب مالاً تکلیفان وسؤالان : أحدهما : لمَ غصبت؟ والآخر : لمَ لم تردّ المال المغصوب إلی صاحبه ؟ والتفصیل یطلب من محلّه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 116
وبالجملة : لم یثبت من الشرع وجوب أحد هذه العناوین ، فلا یتصف بالوجوب خروج من توسّط أرضاً مغصوبة .
نعم ، ربما یتوهّم وجوبه الغیری التبعی ؛ بتقریب أنّه کما قالوا : «إنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه» فکذلک نقول : إنّ النهی عن الشیء یقتضی وجوب ضدّه ، وهو هنا ترک التصرّف ، فیجب عنوان «ترک التصرّف» فلو انضمّ إلیه وجوب مقدّمة الواجب ، یکون الخروج من الأرض الغصبیة ـ الذی هو مقدّمة لترک التصرّف ـ واجباً .
وبالجملة : إذا کان التصرّف فی مال الغیر حراماً ، یکون ترک التصرّف واجباً ، والخروج من الأرض المغصوبة مقدّمة لترکه ، فیکون واجباً .
ولکن فیه أوّلاً : أنّ الأمر فی المقیس علیه ممنوع ؛ لما ذکرنا فی محلّه ـ لعلّه بما لا مزید علیه ـ من أنّ الأمر بالشیء لا یدلّ علی النهی عن ضدّه العامّ ، فضلاً عن ضدّه الخاصّ، فما ظنّک فی المقیس!! کما قلنا فی محلّه : إنّ مقدّمة الواجب لیست بواجبة .
وثانیاً : لو سلّم ذلک وقلنا : إنّ ترک التصرّف فی مال الغیر واجب ، ولکن لا یکون التصرّف الخروجی مقدّمة له ، بل غایته أنّ الخروج مقدّمة للکون فی خارج الدار ، نعم بعد الخروج من الدار وکونه خارج الدار ، ینتزع منه ترک التصرّف فیها ، فتدبّر .
وثالثاً : أنّ مدّعی وجوب ترک التصرّف ، یری أنّ وجوبه شرعی یستحقّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 117
تارکه العقاب ، وواضح أنّ وجوب المقدّمة لا یکون بتلک المثابة ؛ لأنّه للغیر ، ولا یستحقّ تارک المقدّمة عقاباً من أجل ترکها .
ورابعاً : لو سلّم أنّ مقدّمة الواجب واجبة شرعاً ، ولکن لا یصحّ أن تکون مقدّمة الحرام حراماً .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ الخروج من الدار المغصوبة ، لا یکون مأموراً به بالأمر النفسی الاستقلالی ، ولا بالأمر الغیری التبعی .
هذا کلّه بالنسبة إلی الدعوی الاُولی ؛ وهی عدم وجوب الخروج من الأرض المغصوبة .
وأمّا الدعوی الثانیة : وهی کون الخروج حراماً فعلاً مطلقاً ؛ أی : سواء کان الدخول فیها بسوء اختیاره ، أم لا فأمر سهل بعد المراجعة إلی وضع القوانین فی الاُمم المتمدّنة ، ناهیک عن القوانین المجعولة فی البرلمان الإیرانی ، وهو بمرأی منک ومسمع ، فتراهم یضعون قانوناً لمنع استعمال الموادّ المخدّرة مثلاً ؛ وأنّ من ارتکبها فعلیه کذا وکذا ، وربما لا یستثنون ذوی الأعذار من تحته ، بل ینشئون الحکم علی کلّ من استعمل الموادّ المخدّرة کائناً من کان ، وبعد یسیر القانون مجراه الطبیعی إلی أن یصیر حکماً فعلیاً لازم الإجراء ، فیکون حکماً فعلیاً لعامّة أفراد المملکة ، فمن ارتکب بعد ذلک المادّة المخدّرة ـ کائناً من کان ـ فقد ارتکب أمراً ممنوعاً ، ولکنّه مع ذلک کلّه یفرّقون بین من ارتکبها لا لعذر ، وبین من ارتکبها لعذر من نسیان ، أو غفلة ، أو خوف موت فی ترکها ، ولا یرون عقاباً لمن ارتکبها لعذر ، ویعدّونه معذوراً ، بخلاف من ارتکبها لا لعذر فیعاقبونه .
والسرّ فی ذلک ما تکرّر منّا من أنّ الخطابات القانونیة تفارق الخطابات الشخصیة خطاباً وملاکاً ؛ لأنّ الخطاب القانونی خطاب واحد متعلّق بعنوان واحد ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 118
ولا ینحلّ إلی خطابات عدیدة بعدد الأفراد ؛ حتّی یلزم ملاحظة حالات کلّ واحد منهم ، کما یکون الأمر کذلک فی الخطابات الشخصیة ، ولا یعتبر إمکان انبعاث جمیع الأفراد فی صحّة مخاطبتهم ، بل یکفی انبعاث عدّة منهم فی الأعصار والأمصار ، بخلاف الخطاب الشخصی . هذا حال القوانین الموضوعة عند العرف والعقلاء ، ولعلّه واضح لا یحتاج إلی مزید بیان .
والقوانین المجعولة شرعاً کذلک ، إذ لم یتخطّ الشارع عمّا هم علیه إلاّ فی بعض الموارد ، وهو مرهون بدلالة الدلیل ، کما فی «رفع . . . ما لا یعلمون» ، فنقول : حرم فی الشریعة الغرّاء المحمّدیة أکل المیتة وشرب الخمر مثلاً ، فأکل المیتة وشرب الخمر ممنوعان شرعاً ، ویکون حکم الحرمة علیهما فعلیاً ، ولازم الإجراء ، فکلّ من ارتکبهما فقد ارتکب الممنوع والمحرّم شرعاً ، فإن ارتکبهما لا لعذر یکون المرتکب مستحقّاً للعقاب ؛ لمخالفتـه الحکم الفعلی ، وأمّا لو ارتکبهما لعـذر یکون معذوراً عند العقل .
ففیما نحن فیه حرّم علیه السلام التصرّف فی مال الغیر بغیر إذنه بقوله علیه السلام : «لا یحلّ لأحدٍ أن یتصرّف فی مال غیره بغیر إذنه» من غیر لحاظ حالات کلّ واحد من المکلّفین ، وصحّة الخطاب القانونی ، لا تتوقّف علی صحّة الباعثیة بالنسبة إلی جمیع الأفراد ؛ لأنّ الخطاب القانونی لم یقیّد بالقادر العالم الملتفت ؛ لا من ناحیة الحکم الشرعی ، ولا من ناحیة العقل ، نعم العقل یحکم بمعذوریة المکلّف فی بعض الأحیان ، فالحکم بعدم جواز التصرّف فی مال الغیر ، حکم فعلی تعلّق بعنوانه غیر مقیّد بحال
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 119
من الأحوال ، ولکنّ العقل یحکم بمعذوریة العاجز إذا طرأ علیه العجز لا بسوء اختیاره ، وأمّا معه فلا یراه معذوراً فی المخالفة .
وإن شئت مزید توضیح فنقول : إنّ المقام داخل فی باب الأعذار العقلیة ، لا باب رفع الأحکام عند الأعذار ، ولتوضیح الفکرة نمثّل لک بمثال ؛ فافترض أنّ ابناً عزیزاً علی المولی أشرف علی الغرق ، فمن الواضح أنّه یضطرب المولی اضطراباً شدیداً ویتوسّل بأیّة وسیلة ممکنة لإنجائه وإنقاذه من الغرق، ولنفترض أنّه کان له عبدان ؛ أحدهما عاجز دون الآخر ، فحینئذٍ یری المولی أنّ العبد العاجز معذور دون القادر ؛ رغم اشتیاقه وإرادته لإنقاذ ولده .
والأمر فی الأحکام الکلّیة أیضاً کذلک ؛ لأنّ حرمة التصرّف فی مال الغیر بغیر إذنه مثلاً ، حکم فعلی لازم الإجراء ، فإن تصرّف فیه بسوء اختیاره یعاقب علیه ؛ لأنّه خالف الحکم الفعلی بلا عذر ، ولکن إذا کان لا بسوء اختیاره فلا یعاقب علیه ؛ لأنّه معذور عقلاً .
هذا مقتضی القاعدة الکلّیة فی وضع القوانین الشرعیة بالنسبة إلی الأعذار العقلیة ، إلاّ أن یرد دلیل فی بعض الموارد یقتضی رفع التکلیف عند العذر ، کحدیث : «رفع . . . ما لا یعلمون» وهذا کلام آخر ، کما عرفت .
فظهر أنّ حال المتوسّط فی الأرض المغصوبة ، حال من جعل نفسه مضطرّاً إلی أکل المیتة أو شرب الخمر بسوء اختیاره ، فکما أنّه إذا سافر شخص إلی مکان لم یکن فیه ما یسدّ به رمقه ویرفع به عطشه ؛ إلاّ أکل المیتة وشرب الخمر ، أو أحدث فی نفسه حدثاً اضطرّ معه إلی التداوی بشرب الخمر ، فهو فی هذا الحال وإن کان ملزماً من ناحیة عقله بأکل المیتة وشرب الخمر بمقدار یسدّ به رمقه ، ویدفع به جوعه وعطشه ، إلاّ أنّه مع ذلک لا یکون أکلها وشربها واجباً علیه شرعاً ، بل
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 120
حراماً علیه ؛ لقوله تعالی :« حُرِّمَتْ عَلَیْکُمُ الْمَیْتَةُ » وقوله عزّ من قائل :« إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَیْسِرُ وَالْأنْصَابُ وَالْأزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّیْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ » ، والحاصل : أنّ العقل کما لا یراه معذوراً فی ترکه ومخالفته الخطاب العقلی ، فکذلک من دخل داراً بغیر إذن صاحبها بسوء اختیاره ، فهو وإن کان ملزماً عقلاً بالخروج ، إلاّ أنّه غیر واجب علیه ، بل یکون تصرّفه الخروجی حراماً ومعاقباً علیه ؛ لأنّه ارتکب الحرام بلا عذر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 121