عدم تضادّ الأحکام الخمسة
فنقول : المشهور بین المتأخّرین أنّ النسبة بین الأحکام الخمسة التکلیفیة ـ کلّ منها مع الآخر ـ التضادّ ، وقد صرّح بذلک المحقّق الخراسانی قدس سره فی المقدّمة الاُولی ، حیث قال : «لا ریب فی أنّ الأحکام الخمسة متضادّة فی مقام فعلیتها وبلوغها إلی مرتبة البعث والزجر ؛ ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامّة بین البعث نحو واحد فی زمان والزجر عنه فی ذاک الزمان . . . » .
وقد خالفهم فی ذلک المحقّق الأصفهانی قدس سره فصرّح : «بأنّ تضادّ الأحکام التکلیفیة وإن کان مشهوراً ، إلاّ أنّه ممّا لا أصل له» .
والحقّ عدم ثبوت التضادّ بینها بأیّ معنی فسّر الحکم به ؛ وذلک لأنّه عرّف الضدّان عند الأکابر : «بأنّهما أمران وجودیان لا یتوقّف تعقّل أحدهما علی الآخر ، یتعاقبان علی موضوع واحد ، بینهما خلاف» أو «غایة الخلاف» علی اختلاف فی تعبیراتهم وقالوا : «إنّ من شرط المتضادّین أن تکون الأنواع الأخیرة التی توصف به ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 95
داخلة تحت جنس واحد قریب ، فلا یکون بین الأجناس ولا بین صنفین من نوع واحد ولا شخصین منه ، تضادّ» .
ولا ینطبق التعریف المذکور علی الأحکام الخمسة :
أمّا علی القول بأنّ الحکم عبارة عن أمر انتزاعی عقلائی أو اعتباری کذلک کما هو المختار ، فواضح ؛ لأنّه یکون الحکم من الاُمور الانتزاعیة أو الاعتباریة عند البعث والزجر المنشأین بالآلات والأدوات ، کما تنتزع أو تعتبر الزوجیة أو الملکیة عند ذلک ، فیکون البعث أو الزجر بالهیئة الدالّة علیه بالمواضعة والاعتبار ، فلا تکون الأحکام الخمسة من الاُمور الخارجیة المتأصّلة الحالّة فی موضوعاتها الخارجیة .
وبالجملة : علی تقدیر کون الحکم من الاُمور الانتزاعیة أو الاعتباریة ، فلا یکون من الأعیان الخارجیة ، فیکون خارجاً عن المقسم ، وهو واضح .
وإن قلنا بأنّ الحکم عبارة عن الإرادة أو الإرادة المظهرة ـ کما یراه المحقّق العراقی قدس سره وقد تقدّم ذکره وضعفه ـ فکذلک أیضاً ؛ وذلک لما أشرنا من أنّه یشترط فی التضادّ أن یکون الأمران الوجودیان ، داخلین تحت جنس قریب ، ومن الواضح أنّ إرادة البعث وإرادة الزجر ، فردان من نوع واحد ، لا نوعان من جنس قریب ، فلا یکون بینهما خلاف ، فضلاً عن کونهما فی غایة الخلاف .
نعم ، إن کان مبدء النهی کراهة الفعل ، ومبدء الأمر إرادة الفعل ، فمن المعلوم أنّ الإرادة والکراهة لیستا من نوع واحد ، فیصدق علیهما تعریف التضادّ .
ولکنّ الذی یسهّل الخطب ، هو أنّ الکراهة وتنفّر الطبع ، ربما تصیر مبدءً
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 96
لإرادة الزجر التشریعی عن العمد ، ومقابل الکراهة الاشتیاق ، وهما من مبادئ الإرادة التشریعیة أحیاناً ، فلا تکون إرادة الفعل مقابلة للکراهة ، بل التی تقابلها إرادة الزجر ، ومن المعلوم أنّ الإرادتین من نوع واحد ، لا من نوعین من جنس واحد ، فلا ینطبق علیهما تعریف التضادّ .
وبالجملة : تقابل الإرادة والکراهة وجعل الکراهة مبدءً للنهی والإرادة مبدءً للأمر ـ کما اشتهر بینهم ـ لیس علی ما ینبغی ؛ لأنّ کراهة صدور الفعل من المکلّف لیست فی مقابل إرادة البعث ، بل مقابلة للاشتیاق إلی صدوره منه ، فکما أنّ استحسان عمل والاشتیاق إلی صدوره من المکلّف ، صارا مبدءً لإرادة بعثه نحو الفعل ، فکذا استقباح عمل وکراهة صدوره منه ، صارا مبدءً لإرادة الزجر التشریعی والنهی عنه ، فنفس الکراهة لیست بمبدء قریب للنهی ؛ ضرورة مبدئیة الإرادة لصدور جمیع الأفعال ، فالمبدء القریب هو إرادة الزجر ، لا الکراهة .
وإن شئت قلت : إنّ الإرادات لیست أنواعاً مختلفة واقعة تحت جنس قریب ، بل أصناف نوع واحد :
أمّا بالنسبة إلی الواجب والمستحبّ فواضح ؛ لأنّ الإرادة الوجوبیة والإرادة الاستحبابیة ، مشترکتان فی حقیقة الإرادة ، ومتمیّزتان بالشدّة والضعف ؛ لأنّه إن اُدرکت المصلحة الملزمة فتتعلّق به الإرادة الشدیدة ، وینتزع منه الوجوب ، وإن اُدرکت المصلحة غیر الملزمة فتتعلّق به الإرادة غیر الملزمة ، فینتزع منه الاستحباب .
وأمّا بالنسبة إلی الحرام والمکروه ، فإنّ المبدأ القریب للنهی ـ تحریمیاً کان أو تنزیهیاً ـ إنّما هو الإرادة ؛ لأنّه إن أدرک فی الفعل مفسدة یتوسّل لسدّ بابها بزجر العبد تشریعاً ، فیرید الزجر التشریعی فیزجره .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 97
وعلیه فإرادة الزجر المظهرة إذا کانت إلزامیة ، ینتزع منها الحرمة ، وإن کانت غیر إلزامیة ینتزع منها الکراهة .
فظهر أنّه علی القول بانتزاع الأحکام الشرعیة من الإرادات المظهرة ، یکون المبدأ القریب فی کلّ الأحکام هو الإرادة ؛ من غیر تفاوت بین الوجوب والحرمة وغیرهما ، ولا تکون الأحکام أنواعاً مختلفة مندرجة تحت جنس قریب ، فلا ینطبق علیه أیضاً ما هو المناط فی الضدّین .
أضف إلی ذلک : أنّه لو اعتبرنا فی تحقّق التضادّ أن یکون بین الأمرین غایة الخلاف ، لا یتحقّق التضادّ فی جمیع الأحکام ؛ لأنّ الوجوب والاستحباب لیس بینهما غایة الخلاف ، کما لا یخفی ، وقس علیهما الحرمة والکراهة .
ولک أن تقول بخروج الأحکام الخمسة عن تقابل التضادّ ؛ لقولهم : «یتعاقبان علی موضوع واحد» بداهة أنّ مرادهم بـ «الموضوع» هو الموضوع الشخصی ، لا الماهیة النوعیة ، وقد أشرنا إلی أنّ متعلّقات الأحکام إنّما هی العناوین ، لا المصادیق الخارجیة ، فلا معنی للتعاقب وعدم الاجتماع فیه .
فغایة ما یقتضیه الاعتبار ، تخالف الأحکام بعضها مع بعض ، ولا یمکن اجتماعها فـی موضـوع واحـد . ومجرّد عـدم الاجتماع لا یوجب اندراجهـا تحت تقابل التضادّ .
أمّا علی القول بکون الأحکام اُموراً انتزاعیة أو اعتباریة ، فسِرّ عدم اجتماع الوجوب والحرمة هو لغویة الجعلین ، بل امتناع جعلهما لغرض الانبعاث ؛ لأنّ المکلّف لا یقدر علی امتثالهما .
وأمّا علی القول بکونها إرادات مظهرة ، فلامتناع تعلّق الإرادة بالبعث إلی عمل من شخص والزجر عنه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 98
فظهر ممّا ذکرنا بطوله : أنّه لا ینطبق تعریف التضادّ علی الأحکام الخمسة بأیّ معنی فسّر به الحکم ، نعم بینها تخالف ، فالأحکام الخمسة بعضها مع بعض متخالفات ، لا متضادّات ، فما هو المشهور بینهم من أنّ النسبة بین الأحکام الخمسة نسبة التضادّ ، لیس علی ما ینبغی ، فتدبّر وکن من الشاکرین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 99