المقصد الثانی فی النواهی

عدم تضادّ الأحکام الخمسة

عدم تضادّ الأحکام الخمسة

فنقول :‏ المشهور بین المتأخّرین أنّ النسبة بین الأحکام الخمسة التکلیفیة ـ کلّ‏‎ ‎‏منها مع الآخر ـ التضادّ‏‎[1]‎ ‏، وقد صرّح بذلک المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ فی المقدّمة الاُولی‏ ‏،‏‎ ‎‏حیث قال : «لا ریب فی أنّ الأحکام الخمسة متضادّة فی مقام فعلیتها وبلوغها إلی‏‎ ‎‏مرتبة البعث والزجر‏ ‏؛ ضرورة ثبوت المنافاة والمعاندة التامّة بین البعث نحو واحد فی‏‎ ‎‏زمان والزجر عنه فی ذاک الزمان‏ . . . »‎[2]‎‏ .‏

‏وقد خالفهم فی ذلک المحقّق الأصفهانی ‏‏قدس سره‏‏ فصرّح : «بأنّ تضادّ الأحکام‏‎ ‎‏التکلیفیة وإن کان مشهوراً‏ ‏، إلاّ أنّه ممّا لا أصل له»‏‎[3]‎ .

والحقّ عدم ثبوت التضادّ بینها‏ بأیّ معنی فسّر الحکم به‏ ‏؛ وذلک لأنّه عرّف‏‎ ‎‏الضدّان عند الأکابر : «بأنّهما أمران وجودیان لا یتوقّف تعقّل أحدهما علی الآخر‏ ‏،‏‎ ‎‏یتعاقبان علی موضوع واحد‏ ‏، بینهما خلاف» أو «غایة الخلاف» علی اختلاف فی‏‎ ‎‏تعبیراتهم وقالوا : «إنّ من شرط المتضادّین أن تکون الأنواع الأخیرة التی توصف به‏ ‏،‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 95
‏داخلة تحت جنس واحد قریب‏ ‏، فلا یکون بین الأجناس ولا بین صنفین من نوع‏‎ ‎‏واحد ولا شخصین منه‏ ‏، تضادّ»‏‎[4]‎ .

‏ولا ینطبق التعریف المذکور علی الأحکام الخمسة :‏

أمّا علی القول‏ بأنّ الحکم عبارة عن أمر انتزاعی عقلائی أو اعتباری کذلک کما‏‎ ‎‏هو المختار‏ ‏، فواضح‏ ‏؛ لأنّه یکون الحکم من الاُمور الانتزاعیة أو الاعتباریة عند‏‎ ‎‏البعث والزجر المنشأین بالآلات والأدوات‏ ‏، کما تنتزع أو تعتبر الزوجیة أو الملکیة‏‎ ‎‏عند ذلک‏ ‏، فیکون البعث أو الزجر بالهیئة الدالّة علیه بالمواضعة والاعتبار‏ ‏، فلا تکون‏‎ ‎‏الأحکام الخمسة من الاُمور الخارجیة المتأصّلة الحالّة فی موضوعاتها الخارجیة‏ .

‏وبالجملة : علی تقدیر کون الحکم من الاُمور الانتزاعیة أو الاعتباریة‏ ‏،‏‎ ‎‏فلا یکون من الأعیان الخارجیة‏ ‏، فیکون خارجاً عن المقسم‏ ‏، وهو واضح‏ .

وإن قلنا‏ بأنّ الحکم عبارة عن الإرادة أو الإرادة المظهرة ـ کما یراه المحقّق‏‎ ‎‏العراقی ‏‏قدس سره‏‏ وقد تقدّم ذکره وضعفه‏‎[5]‎‏ ـ فکذلک أیضاً‏ ‏؛ وذلک لما أشرنا من أنّه یشترط‏‎ ‎‏فی التضادّ أن یکون الأمران الوجودیان‏ ‏، داخلین تحت جنس قریب‏ ‏، ومن الواضح‏‎ ‎‏أنّ إرادة البعث وإرادة الزجر‏ ‏، فردان من نوع واحد‏ ‏، لا نوعان من جنس قریب‏ ‏،‏‎ ‎‏فلا یکون بینهما خلاف‏ ‏، فضلاً عن کونهما فی غایة الخلاف‏ .

‏نعم‏ ‏، إن کان مبدء النهی کراهة الفعل‏ ‏، ومبدء الأمر إرادة الفعل‏ ‏، فمن المعلوم أنّ‏‎ ‎‏الإرادة والکراهة لیستا من نوع واحد‏ ‏، فیصدق علیهما تعریف التضادّ‏ .

ولکنّ‏ الذی یسهّل الخطب‏ ‏، هو أنّ الکراهة وتنفّر الطبع‏ ‏، ربما تصیر مبدءً‏‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 96
‏لإرادة الزجر التشریعی عن العمد‏ ‏، ومقابل الکراهة الاشتیاق‏ ‏، وهما من مبادئ‏‎ ‎‏الإرادة التشریعیة أحیاناً‏ ‏، فلا تکون إرادة الفعل مقابلة للکراهة‏ ‏، بل التی تقابلها إرادة‏‎ ‎‏الزجر‏ ‏، ومن المعلوم أنّ الإرادتین من نوع واحد‏ ‏، لا من نوعین من جنس واحد‏ ‏،‏‎ ‎‏فلا ینطبق علیهما تعریف التضادّ‏ .

‏وبالجملة : تقابل الإرادة والکراهة وجعل الکراهة مبدءً للنهی والإرادة مبدءً‏‎ ‎‏للأمر ـ کما اشتهر بینهم ـ لیس علی ما ینبغی‏ ‏؛ لأنّ کراهة صدور الفعل من المکلّف‏‎ ‎‏لیست فی مقابل إرادة البعث‏ ‏، بل مقابلة للاشتیاق إلی صدوره منه‏ ‏، فکما أنّ‏‎ ‎‏استحسان عمل والاشتیاق إلی صدوره من المکلّف‏ ‏، صارا مبدءً لإرادة بعثه نحو‏‎ ‎‏الفعل‏ ‏، فکذا استقباح عمل وکراهة صدوره منه‏ ‏، صارا مبدءً لإرادة الزجر التشریعی‏‎ ‎‏والنهی عنه‏ ‏، فنفس الکراهة لیست بمبدء قریب للنهی‏ ‏؛ ضرورة مبدئیة الإرادة‏‎ ‎‏لصدور جمیع الأفعال‏ ‏، فالمبدء القریب هو إرادة الزجر‏ ‏، لا الکراهة‏ .

‏وإن شئت قلت : إنّ الإرادات لیست أنواعاً مختلفة واقعة تحت جنس قریب‏ ‏،‏‎ ‎‏بل أصناف نوع واحد :‏

أمّا‏ بالنسبة إلی الواجب والمستحبّ فواضح‏ ‏؛ لأنّ الإرادة الوجوبیة والإرادة‏‎ ‎‏الاستحبابیة‏ ‏، مشترکتان فی حقیقة الإرادة‏ ‏، ومتمیّزتان بالشدّة والضعف‏ ‏؛ لأنّه إن‏‎ ‎‏اُدرکت المصلحة الملزمة فتتعلّق به الإرادة الشدیدة‏ ‏، وینتزع منه الوجوب‏ ‏، وإن‏‎ ‎‏اُدرکت المصلحة غیر الملزمة فتتعلّق به الإرادة غیر الملزمة‏ ‏، فینتزع منه الاستحباب‏ .

وأمّا‏ بالنسبة إلی الحرام والمکروه‏ ‏، فإنّ المبدأ القریب للنهی ـ تحریمیاً کان أو‏‎ ‎‏تنزیهیاً ـ إنّما هو الإرادة‏ ‏؛ لأنّه إن أدرک فی الفعل مفسدة یتوسّل لسدّ بابها بزجر العبد‏‎ ‎‏تشریعاً‏ ‏، فیرید الزجر التشریعی فیزجره‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 97
‏وعلیه فإرادة الزجر المظهرة إذا کانت إلزامیة‏ ‏، ینتزع منها الحرمة‏ ‏، وإن کانت‏‎ ‎‏غیر إلزامیة ینتزع منها الکراهة‏ .

‏فظهر أنّه علی القول بانتزاع الأحکام الشرعیة من الإرادات المظهرة‏ ‏، یکون‏‎ ‎‏المبدأ القریب فی کلّ الأحکام هو الإرادة‏ ‏؛ من غیر تفاوت بین الوجوب والحرمة‏‎ ‎‏وغیرهما‏ ‏، ولا تکون الأحکام أنواعاً مختلفة مندرجة تحت جنس قریب‏ ‏، فلا ینطبق‏‎ ‎‏علیه أیضاً ما هو المناط فی الضدّین‏ .

‏أضف إلی ذلک : أنّه لو اعتبرنا فی تحقّق التضادّ أن یکون بین الأمرین غایة‏‎ ‎‏الخلاف‏ ‏، لا یتحقّق التضادّ فی جمیع الأحکام‏ ‏؛ لأنّ الوجوب والاستحباب لیس بینهما‏‎ ‎‏غایة الخلاف‏ ‏، کما لا یخفی‏ ‏، وقس علیهما الحرمة والکراهة‏ .

‏ولک أن تقول بخروج الأحکام الخمسة عن تقابل التضادّ‏ ‏؛ لقولهم : «یتعاقبان‏‎ ‎‏علی موضوع واحد» بداهة أنّ مرادهم بـ‏ ‏«الموضوع» هو الموضوع الشخصی‏ ‏، لا‏‎ ‎‏الماهیة النوعیة‏ ‏، وقد أشرنا إلی أنّ متعلّقات الأحکام إنّما هی العناوین‏ ‏، لا المصادیق‏‎ ‎‏الخارجیة‏ ‏، فلا معنی للتعاقب وعدم الاجتماع فیه‏ .

‏فغایة ما یقتضیه الاعتبار‏ ‏، تخالف الأحکام بعضها مع بعض‏ ‏، ولا یمکن‏‎ ‎‏اجتماعها فـی موضـوع واحـد‏ ‏. ومجرّد عـدم الاجتماع لا یوجب اندراجهـا تحت‏‎ ‎‏تقابل التضادّ‏ .

أمّا‏ علی القول بکون الأحکام اُموراً انتزاعیة أو اعتباریة‏ ‏، فسِرّ عدم اجتماع‏‎ ‎‏الوجوب والحرمة هو لغویة الجعلین‏ ‏، بل امتناع جعلهما لغرض الانبعاث‏ ‏؛ لأنّ المکلّف‏‎ ‎‏لا یقدر علی امتثالهما‏ .

وأمّا‏ علی القول بکونها إرادات مظهرة‏ ‏، فلامتناع تعلّق الإرادة بالبعث إلی‏‎ ‎‏عمل من شخص والزجر عنه‏ .


کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 98
‏فظهر ممّا ذکرنا بطوله : أنّه لا ینطبق تعریف التضادّ علی الأحکام الخمسة بأیّ‏‎ ‎‏معنی فسّر به الحکم‏ ‏، نعم بینها تخالف‏ ‏، فالأحکام الخمسة بعضها مع بعض‏‎ ‎‏متخالفات‏ ‏، لا متضادّات‏ ‏، فما هو المشهور بینهم من أنّ النسبة بین الأحکام الخمسة‏‎ ‎‏نسبة التضادّ‏ ‏، لیس علی ما ینبغی‏ ‏، فتدبّر وکن من الشاکرین‏ .

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 99

  • )) قوانین الاُصول 1 : 142 / السطر 14 ، مطارح الأنظار : 132 / السطر 33 ، فوائد الاُصول 1 : 396 .
  • )) کفایة الاُصول : 193 .
  • )) نهایة الدرایة 2 : 308 .
  • )) التحصیل : 37، الحکمة المتعالیة 2 : 113، شرح المنظومة، قسم الحکمة : 41.
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 111 ـ 113.