الأمر الرابع فی عدم اعتبار وجود المندوحة
اختلفوا فی اعتبار قید المندوحة فی محطّ البحث وعدمه ، والمراد بـ «المندوحة» تمکّن المکلّف من إتیان المأمور به فی غیر المجمع ؛ بأن یمکنه إتیان الصلاة مثلاً فی مقام الامتثال فی غیر المکان المغصوب .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 38
ربما یظهر من بعضهم اعتبارها فی محطّ البحث بتوهّم : أنّه لابدّ وأن یتمکّن من إتیان الصلاة فی غیر المکان المغصوب ، وإلاّ فلو لم تکن هناک مندوحة یلزم التکلیف بالمحال ؛ لعدم قدرة المکلّف علی امتثال الأمر ، فلابدّ من القول بالامتناع .
ولکن الذی یقتضیه النظر عدم اعتبارها فی محطّ البحث ؛ سواء کان النزاع صغرویاً ، أی فی أنّه هل یوجب تعدّد العنوان رفع غائلة اجتماع الضدّین ، أم لا؟ أو کبرویاً ؛ أی فی أنّه هل یجوز اجتماع الأمر والنهی علی عنوانین متصادقین علی أمر واحد ، وکان البحث أعمّ من لزوم اجتماع الضدّین الذی هو تکلیف بالمحال ، أو التکلیف المحال :
أمّا علی کون النزاع صغرویاً ؛ فلأنّ محطّ البحث علی هذا فی أنّ تعدّد العنوان ، هل یرفع غائلة اجتماع الضدّین ، أم لا؟ فالأمر یدور مدار تعدّد العنوان ، فإن کفی ذلک لرفع غائلة الاجتماع ، فوجود المندوحة وعدمها سیّان ، وإن لم یکفِ ذلک لرفعها ، لما کان لوجود المندوحة وعدمها فائدة أصلاً .
وبالجملة : ـ کما فی «الکفایة» ـ وجود المندوحة وعدمها لا یرتبط فیما هو المهمّ فی محطّ النزاع ؛ من إمکان اجتماع الحکمین واستحالته .
وأمّا علی کبرویة النزاع کما هو المختار ، وکون النزاع أعمّ من التکلیف بالمحال ، أو التکلیف المحال ، فتوهّم اعتبار المندوحة إنّما نشأ من خلط الأحکام والخطابات الکلّیة القانونیة ؛ بالأحکام والخطابات الجزئیة والشخصیة ، مع أنّه قد أشرنا غیر مرّة إلی أنّ لکلّ منهما ملاکاً وضابطةً تخصّه ؛ بداهة اعتبار احتمال الانبعاث فی الخطاب
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 39
الشخصی بالنسبة إلی المخاطب ، وعدم اعتبار ذلک فی الخطاب القانونی ، وغایة ما یعتبر فیه هو إمکان انبعاث طائفة منهم .
فعلی هذا نقول : العنوانان اللّذان تعلّق بأحدهما الأمر وبالآخر النهی ، إمّا غیر مرتبطین ویفترق کلّ منهما عن الآخر بحسب نوع حالات المکلّفین فی الأعصار والأمصار ، کعنوانی الصلاة والغصب ، حیث إنّ عامّة الناس فی الأعصار والأمصار ، یتمکّنون غالباً من إتیان الصلاة فی غیر الدار المغصوبة ، نعم ربما یتّفق لبعضهم ویتضیّق علیه الأمر نادراً ؛ بحیث لا یتمکّن إلاّ من الصلاة فی الدار المغصوبة ، وإمّا أن یکونا متلازمین وغیر منفکّین بحسب التحقّق الخارجی .
وقد أشرنا إلی أنّ فعلیة الأحکام القانونیة ، لا تکون مرهونة بملاحظة حالات آحاد الأفراد ؛ حتّی یکون الحکم بالنسبة إلی واحد منهم إنشائیاً بلحاظ عدم تحقّق شرط التکلیف فیه ، وفعلیاً بالنسبة إلی واجد الشرط ، بل حتّی یکون الحکم فعلیاً وإنشائیاً بالنسبة إلی حالات شخص واحد ؛ بأن یکون الحکم بالنسبة إلی النائم والساهی إنشائیاً ، ویصیر فعلیاً إذا استیقظ وتذکّر ، بل الحکم فعلی بالنسبة إلی جمیع آحاد المکلّفین وحالاتهم ، بل بالنسبة إلی حالات شخص واحد . وغایة ما یقتضیه العقل هی معذوریة ذوی الأعذار عن القیام بامتثال الحکم الفعلی .
فعلی هذا فالحکم الإنشائی هو الحکم الذی یری المقنّن صلاحاً فی إنشائه وجعله علی موضوع کلّی ، فإن لم یکن عن إجرائه مانع فیجعله ویصیر الحکم فعلیاً ، وإن کان عن إجرائه مانع فلن یصل إلی مرتبة الفعلیة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 40
وبالجملة : المعتبر فی جعل الأحکام القانونیة ، هو انبعاث أو انزجار طائفة منهم فی الأعصار والأمصار ، ولا یعتبر فیها ملاحظة حالات کلّ واحد من الأفراد مع ما هم علیه من الاختلاف ؛ فبعضهم عاجز ، وبعضهم جاهل . . . إلی غیر ذلک من الأعذار ، وغایة ما یقتضیه العقل عند طروّ الجهل أو العجز أو غیرهما ، هی معذوریة المتلبّس بها ، لا تقیید الحکم بعدمها ، فإذا تعلّق الحکم بعنوان وابتلی الشخص بأعذار ـ منها ابتلاؤه بعدم القدرة علیه بلحاظ انطباق عنوان حکم آخر علیه ـ لا یصیر الحکم إنشائیاً ، بل فعلیاً ، وغایة ما یقتضیه حکم العقل هی معذوریة الشخص عن القیام بامتثال الحکم الفعلی .
والسرّ فی ذلک ـ کما أشرنا إلیه ـ هو عدم انحلال التکلیف الواحد بعدد رؤوس آحاد المکلّفین ؛ حتّی یکون کلّ فرد مخصوصاً بخطاب یخصّه ، حتّی یستهجن خطابه بالبعث نحو الصلاة مثلاً ، وبالزجر عن الغصب ، حتّی یصیر المقام من التکلیف بالمحال ، أو التکلیف المحال من المولی الحکیم ، بل تکلیف واحد بإرادة واحدة ؛ وهی إرادة التشریع وجعل الحکم علی العنوان لیصیر حجّة علی کلّ من أحرز دخوله تحت العنوان .
فإذا تمهّد لک ما ذکرنا فنقول : إنّ العنوانین إمّا أن یکونا من قبیل القسم الأوّل؛ أی غیر مرتبط أحدهما بالآخر فی الوجود الخارجی غالباً ، وإنّما یتصادقان أحیاناً ، فإن لم یکن محذور فی تعلّق الحکمین بالعنوانین الکذائیین ـ کما هو کذلک ـ أو کان محذور ، فوجود المندوحة وعدمها سیّان فی ذلک . هذا عین سابقه إذ ما هو الفرق بین
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 41
أن یکون وجود المندوحة کعدمها وبین أن لا یکون لها أثر أصلاً .
وإمّا أن یکونا من قبیل القسم الثانی ـ أی متلازمین وجوداً ـ فلا یحتاج إلی التقیید بالمندوحة أیضاً ؛ لاستحالة صدور الحکمین الکذائیین من المولی الحکیم المقنّن ، لأنّ الإرادة الجدّیة من المولی الحکیم ، إنّما تتمشّی فی مورد یقدر المکلّف علی امتثاله ، وفی صورة تلازم العنوانین فی الوجود ، لا یکاد تصدر إرادة البعث لأحدهما ، وإرادة الزجر عن الآخر ، فالتکلیف محال من المولی الحکیم ؛ لأجل التکلیف المحال ، فضلاً عن التکلیف بالمحال ، فعند ذلک لابدّ وأن یقیّد أحد الحکمین بعدم الآخر ؛ إمّا بتقیید جانب الأمر بعدم النهی لو کانت له مزیّة ، أو بالعکس إذا کان للنهی مزیّة ، وإذا لم یکن لأحدهما مزیّة علی الآخر فالتخییر .
فتحصّل ممّا ذکرنا بطوله : أنّ اعتبار قید المندوحة غیر محتاج إلیه ؛ لا علی کون النزاع صغرویاً ، ولا علی کونه کبرویاً ، فافهم .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 42