المبحث الثانی فی سرّ الفرق بین مقتضی الأمر والنهی
عرفت : أنّ متعلّقی البعث والزجر نفس الطبیعة ، ولکن اختلف مقتضاهما لدی العرف والعقلاء ؛ لأنّه لا إشکال ولاخلاف عندهم فی أنّه إذا تعلّق الأمر بطبیعة ، یسقط بإیجاد مصداق منها فی الخارج ؛ لحصول الغرض بذلک ، ویکتفون به ، ولا یرون إیجادها ثانیاً وثالثاً إلاّ إذا کانت هناک قرینة علی ذلک ، وأمّا إذا نهی عنها فیرون ترک جمیع المصادیق فی الخارج .
وبالجملة : یتمیّز الأمر عن النهی لدی العرف فی أنّ غایة ما یقتضیه البعث إلی طبیعة ، إیجاد نفس الطبیعة ، وهی تحصل بإیجادها مرّة من غیر أن یکون للأمر دلالة علی المرّة ، بل لحصول الغرض بمجرّد ذلک ، وأمّا مقتضی الزجر عن طبیعة فهو بخلاف ذلک فی ذینک الأمرین ؛ فإنّه یستفاد من الزجر عن طبیعة ، ترک جمیع الأفراد فی عَرْض واحد ؛ وأنّه لو خالف وأتی بمصداق منها فی برهة من الزمان ، یحرم علیه إتیانها ثانیاً وثالثاً وهکذا ، فهم یرون أنّ للنهی اقتضاءً لترک المتعلّق فی الأزمنة المتتالیة ، بخلاف الأمر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 12
فتحصّل : أنّه لاریب ولا إشکال فی وجود الفرق بین مقتضی الأمر والنهی مع أنّ متعلّقهما نفس الطبیعة .
نعم ، وقع الکلام فی سرّ ذلک وما هو السبب فیه ، فهل ذلک من ناحیة حکم العقل ولو لأجل مقدّمات الحکمة ، أو من ناحیة اللغة ، أو الفهم العرفی؟ وجوه :
ذهب المحقّق الخراسانی قدس سره إلی أنّ ذلک بحکم العقل ؛ حیث إنّه یحکم بأنّ الطبیعی یوجد بوجود فرد منه ، وینعدم بعدم جمیع الأفراد .
کما یظهر ذلک أیضاً من المحقّق العراقی قدس سره لکنّه بعبارة اُخری ، حیث قال : «والتحقیق أن یقال : إنّ مرجع الإطلاق الذی هو نتیجة مقدّمات الحکمة ، لیس إلاّ جعل الطبیعة المهملة المحفوظة فی ضمن جمیع صور الماهیة ـ من المقیّدة ، والعاریة عن القید ، وغیرهما ـ تمام الموضوع للماهیّة مثلاً ، ومن المعلوم أنّ طبع تمامیته للموضوع تحقّق تمامه بأوّل وجوده ، ولازمه سقوط الأمر المقصود منه الوجود بذلک ؛ إذ لا قصور فی تمامیّته لموضوع أمره ، وأمّا فی النهی حیث کان المقصود الأصلی إعدامه ، فطبع إطلاق الماهیة المهملة یقتضی عدم صدق الإعدام علیها إلاّ بإعدام جمیع أفرادها حتّی المتعاقبة منها ؛ إذ بوجودها ـ ولو بعد وجوده ـ یصدق أیضاً وجود الطبیعة المهملة ، فلا مجال لإعدامها إلاّ بترک ذلک أیضاً . وهذه الجهة من الفرق بین الأمر والنهی إنّما جاءت من ناحیة اختلافهما فی المقتضی ـ بالفتح ـ لا من ناحیة طبع إطلاق المادّة» .
ولا یخفی ما فی کلامهما من النظر ؛ وذلک لأنّه إذا کان متعلّق النهی عین متعلّق الأمر ، وأنّ المتعلّق فیهما نفس الطبیعـة القابلـة للصـدق علـی الکثیرین ، غایة الأمر
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 13
فی جانب الأمر بعث إلیها ، وفی جانب النهی زجر عنها ، فمن الواضح أنّه بوجود أوّل فرد من الطبیعة یتحقّق تمام الموضوع ، کما یتحقّق بوجود الفرد الثانی والثالث . . . وهکذا ؛ قضاءً لحقّ الطبیعة اللابشرط ، حیث إنّها تتکثّر بتکثّر الأفراد ، فتکون لها وجودات کثیرة ، ولکلّ وجود منها عدم یخصّه ، فللطبیعة أعدام کثیرة بعدد الوجودات ، فکما أنّ الطبیعة اللابشرط توجد بوجود فرد ما تَنْعدم بانعدام فرد أیضاً ، فالتفرقه بینهما بحکم العقل لا محصّل له .
نعم ، إن کان المتعلّق الطبیعة الساریة ، فهی وإن کانت لا تنعدم بعدم فرد ما ، إلاّ أنّها لا توجد أیضاً إلاّ بوجود جمیع مصادیقها ، فلا یقضی العقل ـ ولو بجریان مقدّمات الحکمة ـ فرقاً بینهما . ومنشأ الاشتباه خلط الماهیة اللابشرط بالطبیعة الساریـة ، فاُخـذت الماهیـة اللابشرط فـی جانب الأمر ، والطبیعـة الساریـة فی جانب النهی .
وبالجملة : إن کان المراد بالطبیعة الماهیة المهملة والماهیة اللابشرط ، فهی کما توجد بفرد ما تنعدم بانعدام فرد ما أیضاً ، وإن اُرید بها الطبیعة الساریة فی مصادیقها ـ حسبما یراه القوم ـ فهی لا توجد إلاّ بوجود جمیع الأفراد ، کما تنعدم بانعدام جمیع الأفراد ، فحکم العقل بالتفرقة بینهما فی جانبی الأمر والنهی ، ممّا لا یرجع إلی محصّل ، فتدبّر .
وقد یقال بأنّ سِرّ الفرق بینهما من جهة دلالة النهی علی ما ذکر لغة وبالوضع .
و لکن فیه أیضاً : أنّه لو کان بالوضع فلابدّ وأن یکون إمّا من ناحیة مادّة النهی ، أو من ناحیة هیئته ، ولا ثالث لهما ؛ لما تقدّم من أنّه لیس للمجموع ـ من حیث المجموع ـ وضع علی حدة ، ومن الواضح أنّ المادّة موضوعة للطبیعة المجرّدة ، والهیئة موضوعة للزجر عنها ، فما الدالّ علی ما ذکر؟!
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 14
وبالجملة : متعلّق هیئة النهی بعینه هو متعلّق الأمر بلا زیادة ونقیصة ، وحیث إنّه نفس الطبیعة اللابشرط ، فواضح أنّها توجد بوجود فرد ما وتنعدم بعدم فرد ما .
وقال المحقّق النائینی قدس سره فی ذلک ما حاصله : أنّ مقتضی مقابلة النهی للأمر وإن دلّ علی أنّ مفاد النهی السلب الکلّی علی نحو العامّ المجموعی ؛ بحیث یتحقّق عصیانه بأوّل وجود الطبیعة ، ویسقط النهی حینه رأساً ؛ لأنّ المطلوب فی باب الأوامر هو صِرْف وجود الطبیعة وخروجها عن کتم العدم إلی عرصة الوجود ، وذلک یتحقّق بأوّل وجود للطبیعة ، إلاّ أن تقوم قرینة علی إرادة مطلق الوجود ، والإیجاب الجزئی إنّما یقابل السلب الکلّی ؛ لأنّ نقیض الموجبة الجزئیة هو السالبة الکلّیـة ، إلاّ أنّ الظاهـر مـن النهی أن یکون النهی لأجل مبغوضیة متعلّقه بقیام مفسدة فیه ، لا أنّ المطلوب خلوّ صفحة الوجود عنه ، وحیث إنّ مبغوضیة الطبیعة تسـری إلـی جمیع أفـرادها فینحلّ النهـی حسب تعـدّد الأفراد ، ویکون لکلّ فـرد معصیة تخصّه .
وبالجملة : لا ینبغی التأمّل فی أنّ الظاهر فی باب النواهی ، هو أن یکون المطلوب فیها هوترک کلّ فرد فرد علی نحو العامّ الاستغراقی .
وفیه أوّلاً : أنّ المبغوضیة والمحبوبیة من وادٍ واحد ، فإن کانت المبغوضیة تسری إلی الأفراد بالبیان الذی أفاده ، فینبغی أن تکون المحبوبیة أیضاً کذلک ، مع أنّها لا تکون کذلک ، فالمبغوضیة والمحبوبیة ترتضعان من ثَدْی واحد ؛ فإن کانت المبغوضیة تسری إلی الأفراد فلتکن المحبوبیة کذلک ، مع أنّها لیست کذلک .
وثانیاً : تقدّم أنّه علی مسلک العدلیة ، تکون الأحکام تابعة للمصالح والمفاسد فی المتعلّقات ، وواضح أنّه لا طریق لنا ـ فی الغالب ـ لفهم المحبوبیة أو المبغوضیة إلاّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 15
بالأمر أو النهی ، فکلّ ما تعلّق به الأمر یستکشف منه المحبوبیة ، کما أنّه إن تعلّق به النهی یستکشف منه المبغوضیة ، ومن الواضح أنّه کما یمکن أن یکون المبغوض فی جانب النهی صرف الوجود ـ کما هو الشأن فی جانب الأمر فکذلک یمکن أن یکون المبغوض الطبیعة الساریة فی أفرادها ، فبمجرّد النهی عن طبیعة ومبغوضیتها ، لا طریق لنا إلی استکشاف سرایة المبغوضیة إلی الأفراد .
وثالثاً : أنّ ما ذکره غیر مختصّ بباب الأوامر والنواهی والإنشاءات ، بل یجری فی الإخبارات أیضاً ؛ لأنّه إذا قیل : «رأیت إنساناً» فإن کان قد رأی فرداً منه یصحّ منه ذلک ، ویکون قوله ذلک صادقاً ، ولا یصدق قوله : «ما رأیت إنساناً» إلاّ إذا لم یَر أحداً من الناس ، فلم یکن سرّ ذلک ما ذکره من مبغوضیة الطبیعة بأفرادها المستظهرة من تعلّق النهی بها .
فظهر أنّ الفرق بین الأمر والنهی لم یکن بحکم العقل ولو بمقدّمات الحکمة ، ولا من اللغة ، ولا من ناحیة مبغوضیة النهی الساریة فی جمیع الأفراد .
والذی یمکن أن یقال فی ذلک : هو أنّ ذلک بحکم فهم العرف والعقلاء من المادّة الواقعة تِلو السلب ؛ سواء کانت إنشاءً ، أو إخباراً ، فإن کانت نهیاً فلابدّ وأن لا یوجد فرد منه ، وإن کانت إخباراً فإنّما یصدق إذا لم یتحقّق منه فرد فی الخارج ، فالمسألة عقلائیة لا عقلیة . ولو عدّت عقلیة فلابدّ وأن تعدّ عقلیة مسامحیة لا دقّیة . وإن کان فی خاطرک فیما ذکرنا ریب وشبهة ، فانتظر هُنَیئة إلی أن نشیر إلی ما فی مقال المحقّق الأصفهانی قدس سره وما ذکره بعض الأعاظم دام ظلّه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 16