المبحث الأوّل فـی حقیقـة النهی
یظهر من العلمین المحقّقین الخراسانی والنائینی أنّه لا فرق بین الأوامر والنواهی فی أنّ متعلّقهما الطبائع الکلّیة ، والفرق بینهما إنّما هو فی متعلّق الطلب ؛ حیث إنّه فی باب الأوامر وجود الطبیعة ، وفی باب النواهی الترک وعدمها ، فمعنی «لا تشرب الخمر» مثلاً : أطلب منک عدم شرب الخمر .
ولا یخفی ما فی کلامهما من النظر :
فأوّلاً : أنّ الوجدان أصدق شاهد وحاکم ، علی أنّ لکلّ من الأمر أو النهی مبادئ ، فکما یتصوّر المولی الطبیعة التی یرید الأمر بها ، ویصدّق بفائدتها ، فیشتاق إلیها أحیانـاً ، فیریـدها ، فیبعث نحـوها لیحقّقها فـی الخارج ؛ لما یری مـن أنّ المصلحة تترتّب علی وجودها الخارجی ، فکذلک یتصوّر الطبیعة التی یرید النهی عنها ، ویصدّق بأنّ لوجودها فی الخارج مفسدةً ، فربّما یکرهها فیزجر عنها ؛ لئلاّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 9
تتحقّق فی الخارج ، مثلاً یتصوّر طبیعة شرب الخمر ، فیری أنّ فی شربها مفسدةً أکیدة ، فیزجر عنه ، ویمنع عن تحقّقه فی الخارج بقوله : «لا تشرب الخمر» ویؤکّده بالتوعید بأنواع العذاب .
فالمتصوّر فی متعلّق الأوامر والنواهی وإن کان نفس الماهیة والطبیعة ، إلاّ أنّه حیث یری فی متعلّق الأمر صلاحاً یبعث نحوه ، ویرید تحقّقه فی الخارج ، وأمّا فی النهی فحیث یری أنّ فی وجود متعلّقه فی الخارج مفسدةً ، فیکره وجوده ، فیزجر عنه ، فالنهی هو الکراهة والزجر عن الشیء فی الخارج ، کما أنّ الأمر حَثّ وبعث إلی تحقّقه فیه .
وبالجملة : الوجدان أصدق حاکم علی أنّه إذا کانت طبیعة مشتملة علی المفسدة ، فالمولی یزجر عنها ، لا أنّه یطلب ترکها ویبعث إلی استمرار العدم الأزلی وبقائه ؛ حتّی یقال بإمکان أخذه فی متعلّق النهی ؛ لأنّ هذا أشبه شیء بالأکل من القفا ، کما لا یخفی .
ویشهد لما ذکرنا ما هو المعروف بین العدلیة ؛ من أنّ الأوامر والنواهی تابعة للمصالح والمفاسد فی متعلّقاتهما ، فلو کان مفاد النهی طلب الترک ، فلابدّ وأن یکون فی الطلب الکذائی مصلحة ، فکان لهم أن یقولوا بأنّ جمیع الأحکام ـ واجباتها ومحرّماتها ـ تابعة للمصالح فقط کما لا یخفی ، فتدبّر .
و ثانیاً : أنّ العدم باطل الذات ونفی محض ، ولا یکاد یتصوّر إلاّ بالحمل الأوّلی ، ومن المعلوم أنّ باطل الذات والعدم الصرف لا یتصف بالمحبوبیة والمبغوضیة ؛ لأنّهما تابعتان للأغراض والمصالح المترتّبة علی الاُمور الوجودیة ، فالعدم لا یکاد تکون له مصلحة ولا مفسدة ، فلا یکون متعلّقاً للطلب والبعث .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 10
وبالجملة : العدم ـ حتّی العدم المضاف وعدم الملکة ـ باطل الذات والهویّة ، وما اشتهر بین القوم «من أنّ لأعدام المضافة حظّاً من الوجود» ، لا أصل له ؛ إذ الوجـود لملکاتها ، لا لأعـدامها ، فلا یکاد یترتّب علی العـدم أثر ، فلا یکون مورداً للتصـدیق بالفائـدة ، فلا تکون لـه مصلحـة یشتاق إلیها أصلاً ، فلا یکون متعلّقاً للإرادة .
نعم ، فی المحاورات العرفیة ربّما یسند الحبّ والطلب إلی العدم ، مثلاً یقال : «اُحبّ أن لا أری الشخص الفلانی» أو «اُحبّ أن لا ینزل علیّ ذلک الشخص» ، ولکنّه فی الحقیقة تعبیر مسامحی ، وإلاّ ففی الحقیقة هو یبغض ملاقاة الشخص المذکور أو نزوله علیه ، کما لا یخفی .
وثالثاً : أنّ ما ذکرنا هو الظاهر من النهی ؛ وذلک لأنّ لکلّ من الأمر والنهی هیئـة ومادّة ؛ والمادّة التـی تکون تِلو الزجر هـی التی تکون تِلو البعث ، وهیئـة النهی تدلّ علی الزجر عنها ، کما أنّ هیئة الأمر تدلّ علی البعث نحوها ، فأین الدالّ علی العدم؟!
ویؤیّد ما ذکرنا ـ بل لعلّه یدلّ علیه ـ ملاحظة مرادفات الأمر والنهی فی سائر اللغات ، فإنّ مرادف قولنا : «إضرب» فی الفارسیة «بزن» کما أنّ مرادف قولنا : «لا تضرب» فیها «نزن» . ومن المعلوم ـ بدیهة ـ أنّ المتبادر من لفظة «بزن» و«نزن» هو الذی ذکرناه ؛ وهو البعث إلی الضرب فی الأوّل ، والزجر عنه فی الثانی .
فظهر ممّا ذکرنا کلّه : أنّه لا وجه لنزاع القدماء فی أنّ متعلّق الطلب فی النهی هل هو الکَفّ أو نفس أن لا تفعل؟ لما عرفت من أنّ متعلّق النهی هو الماهیة ، وأنّ النهی زجر لا طلب .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 11