المطلب الأوّل فی الأوامر وفیه فصول

المقام الثالث : إجزاء الظاهری عن الواقع

المقام الثالث : إجزاء الظاهری عن الواقع

‏هل الإتیان بالمأمور به الظاهری مُجزٍ عن الواقعی فیسقط، أو لا کالعمل‏‎ ‎‏بالاُصول والقواعد المجعولة للشاکّ؟‏

‏وَلْیُعلمْ أنّ محطّ البحث هو ما إذا کان هناک أمرٌ متعلّق بمرکّب ذی أجزاء‏‎ ‎‏وشرائط، وأمرٌ أیضاً بتصدیق خبر زرارة، وفُرض أنّ زرارة ـ مثلاً ـ أخبر بأنّ السورة‏‎ ‎‏ـ مثلاً ـ لیست واجبة، فصلّی بدونها، فانکشف الخلاف فی الشبهة الحکمیّة، أو أخبرت‏‎ ‎‏البیِّنة: بأنّ القبلة هی هذه الجهة، فصلّی إلیها، فانکشف الخلاف فی الشبهة الموضوعیّة.‏

فنقول: ‏أمّا الأمارات فحجّیّتها: إمّا علی نحو السببیّة والموضوعیّة، أو الطریقیّة،‏‎ ‎‏والکشفُ عن الواقع: إمّا لأجل بناء العقلاء علی ذلک وعدم ردع الشارع عنه، وإمّا‏‎ ‎‏للتعبّد به من الشارع تأسیساً.‏

فهنا وجوه ثلاثة:

‏أمّا الأوّل: ‏‏ـ أی السببیّة ـ فهو فاسد، کما بُیِّن فی محلّه، ولا ینبغی التعرّض له.‏

وأمّا الثانی: ‏وهو الطریقیّة لأجل بناء العقلاء مثل حجّیّة الظواهر، فلابدّ من‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 298
‏تغییر عنوان البحث بأن یقال: إنّ الإتیان بما أمضاه الشارع ـ الذی استقرّ بناء العقلاء‏‎ ‎‏علیه ـ هل هو مُجزٍ عن الواقع عند انکشاف الخلاف، فلا یجب إعادته، أو لا؟ فلابدّ من‏‎ ‎‏ملاحظة بناء العقلاء فی الإجزاء ـ أیضاً ـ وعدمه، ولا ریب فی أنّه لیس بناء العقلاء‏‎ ‎‏علی الإجزاء فیه عند انکشاف الخلاف، بل یستأنفون العمل من رأسه.‏

وأمّا علی الثالث: ‏فلا إشکال ـ أیضاً ـ فی عدم الإجزاء فیه؛ لأنّ مرجع البحث‏‎ ‎‏عن الإجزاء فیه، إلی البحث فی أنّ الأوامر الظاهریة هل هی حاکمة علی الأدلّة‏‎ ‎‏الأوّلیّة، أو لا؟ کما لو جعل الشارع الطهارة من الخبث شرطاً فی لباس المصلّی، وکذلک‏‎ ‎‏الاستقبال، وقامت الأمارة أو البیّنة علی طهارته من الخبث، وأنّ القبلة هی هذه‏‎ ‎‏الجهة، فهو توسعة من الشارع للطهارة والقبلة، وأنّهما أعمّان من الواقعیّة والظاهریّة،‏‎ ‎‏لکن القول بالحکومة هنا فاسد؛ لأنّها مبنیّة علی القول بالسببیّة وملازمة لها فی‏‎ ‎‏الأمارات، والفرض أنّها من باب الطریقیّة، وبین طریقیّتها إلی الواقع وبین حکومتها‏‎ ‎‏علی الأدلّة الأوّلیّة تنافٍ ظاهر، فمع انکشاف الخلاف یجب الإتیان بالتکلیف الواقعی،‏‎ ‎‏ولا یُجزی فعل المأمور به بالأمر الظاهری.‏

‏وأمّا الاُصول والقواعد الشرعیّة فهی لیس علی وتیرة واحدة حتّی یُبحث عنها‏‎ ‎‏إجمالاً، بل لابدّ من التعرّض لکلّ واحد منها علی حِدة، فنقول:‏

أمّا أصالة الطهارة وأصالة الحلّیّة: ‏فلسانهما واحد، سواء کانتا فی الشبهة‏‎ ‎‏الحکمیّة، کما إذا لم یعلم حکم المائع الفلانی، وأنّه نجس أو لا، أو أنّ الحیوان الفلانی ممّا‏‎ ‎‏یُؤکل لحمه أو لا، فیحکم بمقتضاهما بالطهارة والحلّیّة، أم فی الشبهة الموضوعیّة، کما لو‏‎ ‎‏تردّد مائع بین الماء والبول، أو وُجد لحمٌ، لم یُعلم أنّه ممّا یُؤکل لحمه أو غیره، فإنّ‏‎ ‎‏أصالتی الطهارة والحلّیّة جاریتان فیهما.‏

‏ثمّ إنّه لیس مفادهما جعل الطهارة والحلّیّة الواقعیّتین؛ لاستلزامه التصویب،‏‎ ‎‏ولیس حجّیّتهما جعل الطریقیة إلی الواقع؛ فإنّ الشکّ غیر قابل للطریقیّة إلی الواقع،‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 299
‏بل مفادهما جعل حکم ظاهری وظیفةً للشاکّ فیهما.‏

إذا عرفت ذلک فنقول: ‏ذهب البعض إلی أنّه لو أمر المولی بالصلاة ـ مثلاً ـ‏‎ ‎‏وقال: إنّه یُشترط فیها الطهارة من الخبث، أو یُشترط فی لباس المصلّی أن لا یکون من‏‎ ‎‏أجزاء ما لا یُؤکل لحمه، وشُکّ فی طهارة ثوب ونجاسته، أو أنّه ممّا یُؤکل لحمه أو لا،‏‎ ‎‏شُبهةً حکمیّةً أو موضوعیّةً، فبنی المکلّف علی طهارته، وأنّه ممّا یُؤکل لحمه بمقتضی‏‎ ‎‏القاعدتین، فصلّی به، ثمّ بانَ أنّه کان نجساً، أو ممّا لا یُؤکل، فلسانهما فی نظر العرف‏‎ ‎‏لسان الحکومة، وأنّ القاعدتین ناظرتان إلی دلیل شرطیّة الطهارة ـ مثلاً ـ وأنّ قوله:‏‎ ‎(کلّ شیء طاهر)‏ ـ مثلاً ـ توسعة للشرط، وأنّه أعمّ من الطهارة الواقعیّة والظاهریّة،‏‎ ‎‏وحینئذٍ فلا یجب الإعادة ولا القضاء عند انکشاف الخلاف، ولا إشکال فیه‏‎[1]‎‏.‏

لکن أورد علیه بوجوه:

‏أحدها: ‏‏أنّ ما ذکر إنّما یصحّ ما دام کونه شاکّاً، وأمّا إذا ارتفع الشکّ، وقطع بأنّه‏‎ ‎‏کان نجساً ـ مثلاً ـ فلا‏‎[2]‎‏.‏

وفیه: ‏أنّه لیس المراد أنّ الشکَّ عذرٌ والشاکَّ معذورٌ مادام الشکّ موجوداً؛ کی‏‎ ‎‏یقال: بأنّه إذا ارتفع العذر ارتفع المبنی علیه، بل المراد أنّ الشارع حَکَمَ بترتیب آثار‏‎ ‎‏الطهارة والحلّیّة علی المشکوک، ومن آثارها جواز الشروع فی الصلاة معه وصحّتها،‏‎ ‎‏فلیس هنا کشفٌ وتبیّنُ خلاف.‏

وثانیها: ‏أنّه لا معنی للحکومة هنا؛ لعدم إمکان الحکم بالطهارة الظاهریّة‏‎ ‎‏والحکومة معاً دفعةً واحدة‏‎[3]‎‏ بقوله ‏‏علیه السلام‏‏: ‏(کلّ شیء طاهر حتّی تعلم أنّه قذر)‎[4]‎‏.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 300
وفیه: ‏أنّ الحکومة لیست من المجعولات الشرعیّة، بل هی منوطة بنظر العرف،‏‎ ‎‏فإن لم یکن بین دلیلین تنافٍ عرفاً فی نظر العقلاء، وأنّ أحدَهما ـ فی نظرهم ـ ناظر إلی‏‎ ‎‏موضوع الآخر بتصرفٍ فیه توسعةً أو تضییقاً لدائرته، فهو معنی الحکومة، سواء کانا‏‎ ‎‏عامّین من وجه، أو أعمّ وأخصّ مطلقاً، أو ظاهراً وأظهر.‏

وثالثها: ‏وهو العمدة ـ کما عن النائینی ‏‏قدس سره‏‏ ـ وهو أنّه لابدّ فی الحکومة أن یکون‏‎ ‎‏الدلیلان ـ الحاکم والمحکوم ـ فی عرض واحد، لا ما إذا کان أحدهما فی طول الآخر،‏‎ ‎‏کما فیما نحن فیه، فإنّ الحکم الظاهری فی طول الحکم الواقعی؛ لأنّه اُخذ فی موضوعه‏‎ ‎‏الشکّ فی الحکم الواقعی، فحینئذٍ لا یمکن حکومة دلیله علی دلیل الحکم الواقعی‏‎[5]‎‏.‏

الرابع: ‏وهو العمدة أیضاً کما عن المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏: أنّه یلزم من حکومة قاعدة‏‎ ‎‏الطهارة والحلّیّة علی الأدلّة والأوّلیّة الواقعیّة فقه، جدید، فإنّه لو فرض ملاقاة شیء‏‎ ‎‏آخر لهذا المشکوک الذی هو نجس واقعاً، فمقتضی القاعدة ترتیب آثار الطهارة علیه‏‎ ‎‏ـ أیضاً ـ علی الحکومة ولو مع تبیّن الخلاف، وهکذا یلزم المحذور المذکور‏‎[6]‎‏.‏

والجواب عن هذین الوجهین: ‏هو أنّ المراد بالحکومة هنا حکومة الدلیل‏‎ ‎‏الظاهری علی أدلّة شرطیّة الطهارة من الخبث فی الصلاة ـ مثلاً ـ وهما فی عرض‏‎ ‎‏واحد، لا علی أدلّة أحکام النجاسات الواقعیّة، والإشکالان ناشئان عن الغفلة عن‏‎ ‎‏هذا؛ بتوهّم أنّ المراد هو الثانی، وحینئذٍ فهما فی غیر محلّهما.‏

‏ویمکن عدم الالتزام بالإجزاء فی بعض الموارد فی الفقه، کما إذا توضّأ بماء‏‎ ‎‏مشکوک الطهارة بمقتضی القاعدة، فبان کونه نجساً، فلابدّ من إعادة الوضوء والصلاة،‏‎ ‎‏ولکنّه بدلیل خاصّ فلا یضرّ بما ذکرنا.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 301
وأمّا حدیث الرفع‎[7]‎‏: ـ أی البراءة ـ فهی أیضاً کقاعدة الطهارة فی الإجزاء.‏

توضیحه: ‏أنّه لو فرض أنّ الشارع أمر بالصلاة التی لها أجزاء وشرائط، وشکّ‏‎ ‎‏فی جزئیّة شیء أو شرطیّته لها، فحکَمَ بعدمهما بحدیث الرفع فی الشبهة الحکمیّة‏‎ ‎‏والموضوعیّة؛ بناءً علی شمول حدیث الرفع لهما، فإن کان المراد من حدیث الرفع، نفی‏‎ ‎‏جزئیّته أو شرطیّته واقعاً، فهو تصویب محال، أو مجمع علی بطلانه.‏

‏أو أنّه طریق إلی الواقع فهو أیضاً خلاف سیاق الحدیث، فهو فی مقام بیان‏‎ ‎‏وظیفة الشاکّ، فمفهومه: أنّ الشاکّ فی جزئیّة السورة ـ مثلاً ـ یجوز له الصلاة بلا سورة،‏‎ ‎‏فهو حاکم علی الأدلّة المتکفّلة لبیان الأجزاء والشرائط، فإذا انکشف وجوبها بعد‏‎ ‎‏الصلاة لا یجب إعادتها لا أداءً ولا قضاءً.‏

وأمّا الاستصحاب: ‏فحجّیّته إمّا لبناء العقلاء علیه، وأنّ ما ثبت یدوم، وإمّا‏‎ ‎‏لجعل الشارع إیّاه طریقاً إلی الواقع، وحکمه بإدامة الیقین السابق فی ظرف الشکّ، وإمّا‏‎ ‎‏لحکمه بترتیب آثار الیقین السابق فی ظرف الشکّ تعبُّداً.‏

فعلی الأوّلین: ‏فمقتضی القاعدة عدم الإجزاء نظیر الأمارات والطرق.‏

وعلی الثالث: ‏فهو نظیر قاعدة الطهارة فی حکومته علی الأدلّة.‏

‏والظاهر هو الأخیر؛ لأنّه لم یُحرز بناء العقلاء علیه، وأنّ ما یتوهّم فی بعض‏‎ ‎‏الموارد من بنائهم علیه، فهو لأجل وثوقهم ببقاء ما کان سابقاً عادةً ودوامه‏‎ ‎‏ـ لولا المانع ـ إلی ظرف الشکّ، ویدلّ علی ذلک صحیحة زرارة، فإنّه قد حکم‏‎ ‎‏الإمام ‏‏علیه السلام‏‏ فی فرض الخفقة والخفقتین بالاستصحاب‏‎[8]‎‏ مع أنّهم لا یحکمون بالبقاء‏‎ ‎‏فیه وفی الموارد التی قامت الأمارة علی عدم البقاء، وکذا مع الظنّ بالخلاف فی قوله:‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 302
(فإنّی ظننتٌ أنّه أصابه)‎[9]‎‏، وکذا حکمه بوجوب التطهیر وعدم وجوب الإعادة، ولذا‏‎ ‎‏قال زرارة: ‏(ولِمَ ذلک)‏؟ یعنی سأله عن علّته؛ حیث إنّه کان علی خلاف بنائهم.‏

وأمّا الثانی: ‏ـ وهو جعله طریقاً إلی الواقع ـ فلأنّ الیقین طریق تامّ إلی متعلّقه،‏‎ ‎‏ولا معنی لطریقیّة الاستصحاب إلی متعلّقه، کما هو مقتضی الوجه الثانی.‏

‏فثبت أنّ الحقّ هو الوجه الثالث، وأنّ الأخبار الواردة فی هذا الباب فی مقام‏‎ ‎‏بیان جعل وظیفة الشاکّ المسبوق شکّه بالیقین، وقضیّته الإجزاء؛ لحکومة‏‎ ‎‏الاستصحاب علی دلیل الشرطیّة، فإذا قال الشارع: «یشترط فی الصلاة الطهارة من‏‎ ‎‏الحدث أو الخبث»، فشکّ المکلّف فیها مع الیقین بها سابقاً، فصلّی باستصحاب‏‎ ‎‏الطهارة، ثمّ انکشف بعد الصلاة عدم طهارته، فمقتضی القاعدة الإجزاء وعدم وجوب‏‎ ‎‏التدارک؛ لا إعادةً ولا قضاءً.‏

وأمّا قاعدتا التجاوز والفراغ: ‏فهما فی الحقیقة قاعدة واحدة، فحجّیّتهما: إمّا لبناء‏‎ ‎‏العقلاء علیهما، وإمّا لجعل الشارع لهما تعبّداً وتأسیساً:‏

وعلی الأوّل: ‏فإمّا هی أمارة وطریق إلی الواقع عندهم، أو أنّها أصل عملی‏‎ ‎‏استقرّ بناؤهم علیه، مع عدم الطریقیّة لها إلی الواقع.‏

وعلی الثانی: ‏فإمّا هی حکم تأسیسی من الشارع، وجعل الطریقیّة لها إلی‏‎ ‎‏الواقع من الشارع، والأماریّة لها علی الواقع تعبّداً، أو أنّها أصل تعبّدی عملی،‏‎ ‎‏لا أماریّة لها أصلاً.‏

وعلی الأخیر: ‏إمّا هیأصل مُحرز مطلقاً، حتّی بالنسبة إلی الفعل الذی یأتی به‏‎ ‎‏بعد ذلک، أو حکم حیثی بالنسبة إلی الفعل المأتی به، أو أنّها لیس أصلاً محرِزاً أصلاً.‏

‏فلابدّ من بیان مقتضی القاعدة بناءً علی کلّ واحدة من هذه الصور، ثمّ بیان‏‎ ‎‏المختار منها، فنقول:‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 303
‏مقتضی حجیّتها لبناء العقلاء ـ سواء کان طریقاً أو أصلاً عملیّاً منهم ـ هو عدم‏‎ ‎‏الإجزاء، کالأمارات والاستصحاب ـ فی وجهٍ ـ وکذا لو کانت تأسیساً من الشارع‏‎ ‎‏طریقاً؛ لأنّ الواقع فی الجمیع محفوظ لا یتغیّر عمّا هو علیه، فیجب موافقته.‏

‏وأمّا لو قلنا بأنّها أصل عملی من الشارع تعبّداً، لا أماریّة فیها أصلاً، فقضیّته‏‎ ‎‏الإجزاء مثل الاستصحاب علی المختار.‏

وأمّا المختار من هذه الوجوه: ‏فنقول أمّا بناءُ العقلاء علیها لطریقیّتها وأماریّتها‏‎ ‎‏إلی الواقع؛ لأجل أنّ المکلّف إذا کان بصدد امتثال فعل مرکّب من أجزاء وشرائط،‏‎ ‎‏فیظنّ أنّه أتی به جامعاً لجمیع الأجزاء والشرائط غالباً، والظنّ یلحق الشیء بالأعمّ‏‎ ‎‏الأغلب، فلو شکّ بعد التجاوز عن محلّ جزء أو شرط فیه، أو بعد الفراغ من العمل،‏‎ ‎‏فالظنّ النوعی حاصل بأنّه قد أتی بجمیع الأجزاء والشرائط، فهو فاسد؛ لأنّ وجودَ‏‎ ‎‏هذا البناء لهم واستقرار دأبهم علیه؛ بحیث یحتاج إلی الردع عنه، غیرُ ثابت، بل معلوم‏‎ ‎‏العدم، ولیس مثل بنائهم علی العمل بخبر الواحد؛ حیث إنّه طریق إلی الواقع عندهم،‏‎ ‎‏فلو فُرض عدم صدور الأخبار ـ فی تلک القاعدة ـ عنهم ‏‏علیهم السلام‏‏ أتری فی نفسک عدم‏‎ ‎‏الاعتناء بالشکّ لوصلّیت وشککتَ بعد الصلاة فی أنّک کنت متطهّراً أو لا؟ حاشا‏‎ ‎‏وکلاّ.‏

‏وکذلک احتمال بناء العقلاء علیها لا لأجل الطریقیّة، بل لأجل أنّها أصل عملی‏‎ ‎‏عندهم استقرّ بناؤهم علیها، فهذه الاحتمالات کلّها مردودة.‏

وحینئذٍ: ‏فلابدّ من ملاحظة الأخبار الواردة فی هذه القاعدة فنقول: التعبیرات‏‎ ‎‏فی أخبارها مختلفة:‏

ففی بعضها: ‏عبّر بقوله ‏‏علیه السلام‏‏: ‏(فأمضه)‎[10]‎‏ بعد فرض الشکّ فی الإتیان بجزء‏‎ ‎‏أو شرط بعد التجاوز عن محلّه.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 304
وفی بعضها الآخر: (فشکُّک لیس بشیء وإنّما الشکُّ فی شیء لم تُجْزهُ)‎[11]‎‏.‏

‏وعُبِّر فی بعضها بکلتا العبارتین، وفی بعضها قوله: ‏(قد رکعت)‎[12]‎‏ أو ‏(قد‎ ‎رکع)‎[13]‎‏ بعد فرض الشکّ فی الرکوع بعد التجاوز عن محلّه، وفی بعضهـا قوله: ‏(هو‎ ‎حین یتوضّأ أذکر منه حین یشکّ)‎[14]‎‏، وفی بعضها: ‏(هو حین الانصراف أقرب إلی‎ ‎الحقّ حین یشک)‎[15]‎‏، کما فی صحیحة حمّاد عند فرض الشکّ فی الرکعات بعد‏‎ ‎‏الانصراف عن الصلاة.‏

‏هذه هی عمدة التعبیرات فی أخبارها، فنقول: أمّا التعبیر بقوله: ‏(فشکّک‎ ‎لیس‏ ‏بشیء)‏، وکذلک قوله ‏‏علیه السلام‏‏: ‏(قد رکعت) ‏أو ‏(قد رکع)‏، فهو ظاهر فی التعبّدیّة،‏‎ ‎‏لا الطریقیة؛ لمنافاة هذا التعبیر للطریقیّة، ومعناه عدم الشک تعبّداً لا واقعاً، وکذلک‏‎ ‎‏قوله ‏‏علیه السلام‏‏: ‏(فأمضه)‏، فإنّ معناه البناء علی الوجود والإتیان به تعبّداً، وکذلک قوله ‏‏علیه السلام‏‏:‏‎ ‎(قد رکعت)‏ أو ‏(قد رکع)‏ فیفهم منه أن القاعدة أصل محرز وأمّا قوله ‏‏علیه السلام‏‏ فی الموثّقة:‏‎ ‎(هو حین یتوضأ أذکر)‏، فقد یقال: إنّه ظاهر فی الطریقیّة.‏

وفیه: ‏ـ مضافاً إلی أنّه لابدّ حینئذٍ من حمل هذا التعبیر علی الکنایة عن‏‎ ‎‏الجواب؛ لعدم ذکر الجواب فیها، وأنّه من باب إقامة العلّة مقام المعلول ـ أنّ غایة ما‏‎ ‎‏یمکن أن یقال: إنّ فیها إشعاراً إلی الطریقیّة، ولیس أخبار القاعدة منحصرة فیها؛ لما‏‎ ‎‏عرفت من التعبیرات المختلفة فیها، الظاهرة فی أنّ القاعدة أصل عملی مُحرِز حیثی، کما‏‎ ‎‏هو مفاد قوله ‏‏علیه السلام‏‏: ‏(فأمضه)‏ وغیره، فإنّ المراد منه هو البناء علی الوجود تعبّداً لا‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 305
‏واقعاً، والتفصیل موکول إلی محلّه، فلا یمکن رفع الید عن هذه التعبیرات والأخذ‏‎ ‎‏بظاهر الموثّقة بل إشعارها فقط.‏

فتحصّل: ‏أنّ مُقتضی القاعدة الإجزاء لو صلّی وشکّ بعد الفراغ أو بعد التجاوز‏‎ ‎‏عن محلّ جزء أو شرط فیها، وبنی علی الإتیان بهما بمقتضی القاعدة ثمّ انکشف‏‎ ‎‏الإخلال بهما فی الوقت أو خارجه فلا یجب الإعادة أو القضاء.‏

‏ ‏

‏ ‏

تم الجزء الأوّل من هذا الکتاب

‏وصلّی اللّٰه علی محمّد وآله‏

‏الطیبین الطاهرین‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 306

  • )) اُنظر کفایة الاُصول : 110.
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات العراقی) 1 : 301.
  • )) اُنظر فوائد الاُصول 1 : 249.
  • )) تهذیب الأحکام 1 : 285 / 119 باب 12 فی تطهیر الثیاب لکن فیه (کلّ شیء نظیف) .
  • )) فوائد الاُصول 1 : 250.
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات العراقی) 1 : 301.
  • )) وسائل الشیعة 11 : 295 ، کتاب الجهاد ، أبواب جهاد النّفس وما یناسبه ، الباب 56 ، الحدیث 1 .
  • )) نفس المصدر 1 : 174 ، کتاب الطهارة ، أبواب نواقض الوضوء ، الباب 1 ، الحدیث 1 .
  • )) نفس المصدر 2 : 1061 ، کتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 41 ، الحدیث 1 .
  • )) وسائل الشیعة 5 : 336 ، کتاب الصلاة ، أبواب الخلل ، الباب 23 ، الحدیث 3 .
  • )) نفس المصدر ، کتاب الصلاة ، أبواب الخلل ، الباب 23 ، الحدیث 1 .
  • )) نفس المصدر 4 : 936 ، کتاب الصلاة ، أبواب الرکوع ، الباب 13 ، الحدیث 2 .
  • )) نفس المصدر 4 : 937 ، کتاب الصلاة ، أبواب الرکوع ، الباب 13 ، الحدیث 6 .
  • )) نفس المصدر 1 : 331 ، کتاب الصلاة ، أبواب الوضوء ، الباب 42 ، الحدیث 7 .
  • )) اُنظر نفس المصدر 5 : 343 ، کتاب الصلاة ، أبواب الخلل ، الباب 27 ، الحدیث 3 .