المطلب الأوّل فی الأوامر وفیه فصول

المقام الأوّل : إجزاء الاضطراری والظاهری عن نفسه

المقام الأوّل : إجزاء الاضطراری والظاهری عن نفسه

‏أنّ الإتیان بکلّ واحد من المأمور به بالأمر الاضطراری أو المأمور به بالأمر‏‎ ‎‏الظاهریعلی وجهه هل هو مجزی ء عن أمر نفسه، ولا یجب التعبّد به ثانیاً أو لا؟‏‎ ‎‏وتوهّم عدم الإجزاء فی هذه الصورة إنّما یُفرض فیما إذا لم یحصل غرض المولی بالأوّل،‏‎ ‎‏کما إذا أمر بإتیان الماء؛ لیشرب ویرتفع عطشه، فاُریق الماء، ولم یشرب منه، فیُتوهّم‏‎ ‎‏عدم سقوط التکلیف ووجوب تحصیل الماء ثانیاً.‏

لکنّه فاسد: ‏لأنّ تحصیل غرض المولی غیر واجب علی المکلّف، والمفروض أنّه‏‎ ‎‏امتثل أمره بإتیان المأمور به. وأوضح من ذلک صورة حصول غرضه، فالعقل یحکم‏‎ ‎‏مستقلاًّ بالإجزاء وعدم وجوب الإتیان به ثانیاً، ولا فرق فی ذلک بین المبنی الذی‏‎ ‎‏ذکرنا وبین ما اختاره فی «الکفایة»‏‎[1]‎‏، ولا إشکال فی ذلک.‏

‏وإنّما الإشکال فی أنّه هل یصحّ الامتثال بعد الامتثال ـ أی تبدیله بامتثال‏‎ ‎‏آخر ـ أو لا؟‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 290
فأقول: ‏فی هذا المقام ثلاث صور:‏

إحداها: ‏أن یکون الامتثال علّة تامّة لحصول الغرض، کماإذا أمر المولی عبده‏‎ ‎‏بالقیام عند قدومه تعظیماً له، فقام عنده، فإنّ الغرض قد حصل به.‏

وثانیتها: ‏ما لم یحصل الغرض، کما إذا أمر بإتیان الماء ولم یشرب بعد، فلیس‏‎ ‎‏الامتثال فیه علّة تامّة لحصول الغرض.‏

وثالثتها: ‏ما لم یعلم أنّه علّة تامّة له أو لا. قال فی «الکفایة»: لا یبعد أن یقال‏‎ ‎‏بأنّه للعبد تبدیل الامتثال والتعبّد به ثانیاً بدلاً عن التعبّد به أوّلاً، وذلک فیما لو علم أنّ‏‎ ‎‏مجرّد امتثاله لیس علّة تامّة لحصول الغرض وإن کان وافیاً به، کما إذا أتی بالماء‏‎ ‎‏ولم یشربه بعدُ... إلی أن قال: ضرورة بقاء طلبه ما لم یحصل غرضه الداعی إلیه،‏‎ ‎‏وإلاّ لما وجب حدوثه... إلی أن قال: نعم إذا کان الإتیان علّة لحصول الغرض، فلا یبقی‏‎ ‎‏موقع للتبدیل، کما إذا أمر بإهراق الماء فی فمه لرفع عطشه، فأهرقه، بل لو لم یعلم أنّه‏‎ ‎‏من أیّ القبیل فله التبدیل باحتمال أن لا یکون، فله إلیه سبیل.‏

‏ویؤیّد ذلک ـ بل یدلّ علیه ـ ما ورد فیه الروایات: من إعادة من صلّی فرادی‏‎ ‎‏جماعةً، وأنّ الله یختار أحبّهما إلیه‏‎[2]‎‎[3]‎‏ انتهی.‏

أقول: ‏إذا علم العبد بأنّ للمولی غرضاً لو اطّلع علیه أمره بتحصیله، کما لو غرق‏‎ ‎‏ولده فی البحر، فإنّه یعلم بأنّ غرض المولی تعلّق بانقاذه، لکنّه غیر مطّلع علی ذلک،‏‎ ‎‏فلا ریب فی أنّ العقل یستقلّ بلزوم تحصیل هذا الغرض وإن لم یأمره به؛ من جهة عدم‏‎ ‎‏اطّلاعه علیه، وإذا فرض أنّه أمر بشیء لیس هو علّة تامّة لحصول غرضه، کما لو أمر‏‎ ‎‏بإحضار الماء، فأحضره، واُریق ولم یشربه، ففی هذه الصورة حصل الامتثال، ولایصحّ‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 291
‏عقابه لفعله المأمور به، فیسقط الأمر والإرادة، ولیس أمرٌ بعده حتّی یجب امتثاله، لکن‏‎ ‎‏یمکن عقابه؛ لأجل أنّه یعلم بوجود غرض للمولی، ولم یحصُل بعدُ.‏

وحیئنذٍ: ‏فوجوب تحصیل الغرض غیر وجوب الامتثال وتحقّقه، والامتثال‏‎ ‎‏لا یکون إلاّ واحداً، فلو أتی بالمأمور به ثانیاً؛ لعدم حصول الغرض بامتثاله أوّلاً، أو‏‎ ‎‏لأنّه أحسن، فلیس هو امتثالاً کی یقال بأنّه تبدیل امتثال بامتثال آخر، بل هو تبدیل‏‎ ‎‏الامتثال بتحصیل الغرض، فإنّ الامتثال تحقّق بالأوّل، وسقط الأمر به، وإن فُرض‏‎ ‎‏بقاء الغرض فما ذکره فی «الکفایة»‏‎[4]‎‏ خلط بین المقامین.‏

‏وأمّا ما ورد فی الأخبار من إعادة الصلاة جماعة لو صلّی فرادی، کما فی روایة‏‎ ‎‏الحلبی‏‎[5]‎‏ وغیرها، فهو من قبیل ما ذکرنا، وإلاّ فالأمر بالصلاة قد سقط بالإتیان بها‏‎ ‎‏أوّلاً فرادی، لکن یستحبّ فعلها جماعة لو اتّفقت؛ لأنّها أفضل، وإنّ الله یختار أحبّهما،‏‎ ‎‏کما فی الخبر‏‎[6]‎‏.‏

‏وقال المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ فی مقام بیان امتناع تبدیل الامتثال بامتثال آخر‏‎ ‎‏ما ملخّصه: أنّ الفعل المتعلَّق لأمر المولی قد یشتمل بنفسه علی الغرض الداعی له إلی‏‎ ‎‏الأمر به، وقد لا یکون کذلک، بل هو مقدّمة لتحصیل غرضه الأصلی الداعی له إلی‏‎ ‎‏الأمر به، وهو علی نحوین:‏

أحدهما: ‏أن یکون فعل المکلّف مقدّمة للفعل المشتمل علی الغرض الأصلی،‏‎ ‎‏مثل الوضوء وستر العورة للصلاة.‏

وثانیهما: ‏ما هو مقدّمة لفعل المولی الذی أمره به، وفعل المولی: إمّا جوارحی،‏‎ ‎‏کشرب الماء فیما لو أمره بإحضار الماء لیشربه، أو جوانحی، کما فی اختیاره لإحدی‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 292
‏الصلاتین فی المُعادة جماعةً.‏

وحینئذٍ: ‏فإن قلنا بوجوب المقدّمة الموصلة، کان المتّصف بالوجوب من فعل‏‎ ‎‏المکلّف هو الفعل الذی یُوصل المولی إلی غرضه النفسی الأصلی، والفعل الآخر‏‎ ‎‏ـ الذیأتی به ثانیاً ـ امتثال لا یتّصف بالوجوب، وإن قلنا بوجوب مطلق المقدّمة، فعدم‏‎ ‎‏اتّصاف ما فعله ثانیاً بالوجوب أوضح؛ لصدق الامتثال بالأوّل‏‎[7]‎‏ انتهی.‏

وفیه: ‏أنّ وجوب مطلق المقدّمة أو المقدّمة الموصلة لا ارتباط له بالمقام؛ لأنّ‏‎ ‎‏الأمر المتعلّق بالطبیعة نفسی لا غیری، ومقتضی ما ذکره هو أنّ جمیع الأوامر المتعلِّقة‏‎ ‎‏بالطبائع غیریّة، وفساده واضح.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 293

  • )) کفایة الاُصول : 108.
  • )) الکافی 3 : 379 / 1 و 2 ، الفقیه 1 : 251 / 41 ـ 42، وسائل الشیعة 5 : 455 ، کتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجماعة ، الباب 54 .
  • )) کفایة الاُصول : 107 ـ 108.
  • )) تقدّم تخریجه.
  • )) وسائل الشیعة 5 : 456 ، کتاب الصلاة ، أبواب صلاة الجمعة ، الباب 54 ، الحدیث 8 .
  • )) نفس المصدر.
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات العراقی) 1 : 263 ـ 264.