المطلب الأوّل فی الأوامر وفیه فصول

الفصل التاسع فی المرّة والتکرار

الفصل التاسع فی المرّة والتکرار

‏هل تدلّ صیغة الأمر علی المرّة أو التکرار أو لا تدلّ علی شیءٍ منهما؟‏

‏إعلم أنّ هذا النزاع مختصّ بالأمر والنهی، ولم یقع فی سائر المشتقّات مثل‏‎ ‎‏الماضی والمضارع، والظاهر أنّ منشأ النزاع أ نّهم لمّا رأوا أ نّه قد ورد الأمر فی‏‎ ‎‏القرآن المجید واُرید به المرّة تارة، مثل: ‏‏«‏ِلله ِ عَلَی النّاسِ حِجّ الْبَیْتِ‏»‏‎[1]‎‏، والتکرار‏‎ ‎‏اُخری، مثل: ‏‏«‏أقِیمُوا الصَّلاة‏»‏‎[2]‎‏، فوقع البحث فی أ نّه حقیقة فی المرّة ومجاز فی‏‎ ‎‏التکرار، أو بالعکس.‏

‏ثمّ إنّه یمکن تصویر النزاع بوجوه:‏

الأوّل: ‏أنّ مجموع الأمر بمادّته وهیئته هل یدلّ علی المرّة أو التکرار؟‏

الثانی: ‏أنّ هیئته هل تدلّ علی کذا أو کذا؟‏

الثالث: ‏أنّ مادّته فقط هل تدلّ علی ذا أو ذاک؟‏

‏والبحث فی الصورة الاُولی إنّما یُعقل لو قلنا بأنّ العلل الشرعیّة والأوامر‏‎ ‎‏التشریعیّة کالعلل التکوینیّة فی أنّ العلّة الواحدة لا تؤثّر إلاّ فی معلول واحد، وإلاّ‏‎ ‎‏فلا معنی لهذا النزاع، کما سیجیء توضیحه إن شاء الله .‏

‏ونقل صاحب «الفصول» عن السکّاکی حکایة الإجماع علی أنّ المصدر المجرّد‏‎ ‎‏عن الألف واللاّم والتنوین لا یدلّ إلاّ علی الماهیّة المطلقة‏‎[3]‎‏، ولذا حرّرنا النزاع فی‏‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 274
‏الهیئة والأکثرون أیضاً حرّروا النزاع فی الصیغة، وهی ظاهرة بل صریحة فی الهیئة.‏

وأورد علیه صاحب «الکفایة» بما حاصله : ‏أنّ مجرّد الاتّفاق علی ذلک‏‎ ‎‏لا یوجب کون النزاع فی الهیئة، وإنّما یوجب ذلک لو قلنا بأنّ الأصل فی المشتقّات‏‎ ‎‏هو المصدر، وأمّا إذا قلنا بأنّ المصدر أیضاً صیغة مباینة لسائر المشتقّات، ولیس أصلاً‏‎ ‎‏لها فلا، وحینئذٍ فیمکن أن یجعل محطّ البحث فی المقام هو مادة الأمر وإنّها‏‎ ‎‏موضوعة لکذا وکذا‏‎[4]‎‏.‏

واستشکلوا علیه : ‏بأ نّه وإن قلنا بأنّ المصدر لیس أصلاً لها، لکن الموادّ واحدة،‏‎ ‎‏فمادّة المصدر عین مادّة الأمر، فإذا کان مادّة المصدر موضوعة للطبیعة المطلقة الغیر‏‎ ‎‏القابلة للوحدة والکثرة، صحّ ما ذکره صاحب «الفصول»‏‎[5]‎‏.‏

والجواب الصحیح عن مقالة صاحب «الفصول» : ‏هو أ نّه لو انضمّ إلی الإجماع‏‎ ‎‏المذکور إجماع آخر علی أنّ موادّ المشتقّات والمصدر واحدة، صحّ ما أفاده، لکن‏‎ ‎‏الإجماع الثانی مفقود فی المقام؛ للاختلاف فی ذلک، فذهب بعضهم إلی أنّ مادّة المصدر‏‎ ‎‏مباینة لمادّة سائر المشتقّات وأ نّها موضوعة بوضع علی حدة غیر وضع موادّ‏‎ ‎‏المشتقّات‏‎[6]‎‏ وحینئذٍ فمجرّد الاتّفاق علی أنّ المصدر المجرّد موضوع للطبیعة لا یُجدی‏‎ ‎‏فی حصر النزاع فی الهیئة، لکن وقوع النزاع فی الهیئة أیضاً إنّما یُعقل إذا صحّ ما ذکره‏‎ ‎‏صاحب الدّرر ‏‏قدس سره‏‏: من أنّ الأوامر الشرعیّة کالعلل التکوینیّة، وقد مرّ فساده؛ لما‏‎ ‎‏عرفت من أنّ المعلول فی التکوینیّات لیس له تحقّق ووجود مستقلّ، وفی الحقیقة‏‎ ‎‏وجود المعلول عین وجود العلّة التامّة، بخلاف المعلول فی التشریعیّات، فإنّ الآمر‏‎ ‎‏یلاحظ الطبیعة أوّلاً، ویشتاق إلیها، فیریدها فیأمر بها، ومن الواضح استحالة إرادة‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 275
‏الطبیعة المطلقة والاشتیاق إلیها مرّتین أو أزید إلاّ تأکیداً، اللهم إلاّ مع تقییدها بقید أو‏‎ ‎‏خصوصیّةٍ، فإذا أرادها واشتاق إلیها ثانیاً مع عدم التقیید بخصوصیّةٍ، فهو عین الأوّل،‏‎ ‎‏فلا یوجب تعدّد الأمر تعدّد المعلول، وحینئذٍ فالنزاع فی الهیئة غیر معقول، هذا إذا‏‎ ‎‏قلنا بأنّ الهیئة موضوعة للإغراء والبعث.‏

وأمّا لو قلنا: ‏بأ نّها موضوعة للإیجاد فالإشکال المذکور وإن کان غیر وارد،‏‎ ‎‏لکن یرد علیه إشکال آخر: وهو أ نّه لو فرض أنّ المدّعی للتکرار یذهب إلی أنّ الهیئة‏‎ ‎‏موضوعة للإیجادات مع أ نّها معانٍ حرفیّة بتصوّرها ثانیاً بمعنیً اسمی، لکن یرد علی‏‎ ‎‏هذا المبنی: أ نّه کیف یمکن حینئذٍ استعمالها مع أ نّها معانٍ حرفیّة، والمعنی الحرفی غیر‏‎ ‎‏قابل للتقیید بالمرّة أو التکرار إلاّ بلحاظه بالمعنی الاسمی، مضافاً إلی أ نّه خلاف‏‎ ‎‏الوجدان والمرتکز فی الأذهان، وعلی أی تقدیر فالبحث فی الهیئة غیر معقول.‏

‏وأمّا النزاع فی مجموع الهیئة والمادّة أو فی المادّة فقط فهو معقول، لکنّه‏‎ ‎‏غیر صحیح؛ لأنّ التحقیق فی المقام: أنّ مادّة الأمر موضوعة بالوضع النوعی‏‎ ‎‏للطبیعة المطلقة، وهیئته موضوعة لمجرّد البعث والإغراء، وشیء منهما لا یدلّ‏‎ ‎‏علی المرّة والتکرار.‏

والحاصل: ‏أنّ صیغة الأمر لا تدلّ إلاّ علی طلب الماهیّة والمرّة والتکرار‏‎ ‎‏خارجان عن مدلولها.‏

نعم: ‏إذا أمر المولی بشیء، وکان فی مقام البیان وأطلق، یتحقّق الامتثال بإیجاده‏‎ ‎‏مرّة، ولا یصحّ عقابه؛ لا لأجل أنّ الصیغة تدلّ علی المرّة، بل من حیث تحقّق الامتثال‏‎ ‎‏بالمرّة وإیجاد فرد واحد منها.‏

‏هذا إذا کان المتکلّم فی مقام البیان، لکن الغالب فی الأوامر الواردة فی الکتاب‏‎ ‎‏عدم کونها فی مقام البیان، وحینئذٍ فالمرجع هو الاُصول والقواعد.‏

‏ثمّ إنّ المراد بالمرّة والتکرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد؟‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 276
‏والفرق بینهما واضح، فإنّ الدفعة هو تحقّق الشیء أو الأشیاء بحرکة واحدة،‏‎ ‎‏فهی أعمّ من وجود فردٍ واحد أو أکثر، فیمکن تحقّق أفراد وإیجادها بحرکةٍ واحدة،‏‎ ‎‏فإکرام زید وعمرو بإکرامٍ واحد دفعة واحدة، لکنّه إیجاد فردین من الإکرام.‏

إذا عرفت هذا نقول: ‏ذهب بعض إلی أنّ المراد هو الدفعة والدفعات‏‎[7]‎‏.‏

ویشهد لذلک: ‏أ نّه لو کان المراد بهما الفرد والأفراد لکان الأنسب وقوع هذا‏‎ ‎‏البحث فی ذیل البحث فی أنّ الأوامر هل هی متعلّقة بالطبائع أو بالأفراد؟‏

فإن قلنا: ‏إنّها متعلّقة بالطبائع فلا وجه لهذا البحث حینئذٍ.‏

وإن قلنا: ‏بتعلّقها بالأفراد فیقال: هل هی للفرد أو الأفراد؟ والحاصل: أ نّه‏‎ ‎‏لو کان المراد هو الفرد والأفراد فلا وقع لهذا البحث لو قلنا بتعلّق الأوامر بالطبائع‏‎ ‎‏بخلاف ما لو قلنا: إنّ المراد هی الدفعة والدفعات، فإنّ النزاع حینئذٍ صحیح علی کلا‏‎ ‎‏القولین، سواءً قلنا بتعلّق الأوامر بالطبائع أو الأفراد.‏

وأجاب عنه فی «الکفایة»: ‏بأ نّه لا ارتباط بین البحثین لو اُرید بهما الفرد‏‎ ‎‏والأفراد أیضاً فإنّ الطلب علی القول بتعلّقه بالطبیعة، إنّما یتعلّق بها باعتبار وجودها‏‎ ‎‏فی الخارج؛ ضرورة أنّ الطبیعة من حیث هی لیست إلاّ هی؛ لا مطلوبة ولا غیرها،‏‎ ‎‏وبهذا الاعتبار کانت مردّدة بین المرّة والتکرار بکلا المعنیین، فصحّ النزاع فی دلالة‏‎ ‎‏الصیغة علی المرّة أو التکرار بالمعنیین وعدمها‏‎[8]‎‏.‏

وحاصل مراده ‏قدس سره‏‏: ‏‏أنّ ما ذکره صاحب الفصول ـ من أ نّه یستکشف من عدم‏‎ ‎‏تفریعهم هذا البحث علی المبحث المذکور أنّ المراد هو الدفعة والتکرار لا الفرد‏‎ ‎‏والأفراد ـ غیرُ وجیه؛ لأنّه لا ارتباط بین المبحثین سواء قلنا: إنّ المراد هو الدفعة‏‎ ‎‏والدفعات أو الفرد والأفراد، وسواء قلنا بتعلّق الأوامر بالطبائع أو الأفراد.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 277
لکن التحقیق فی المقام: ‏هو أنّ صاحب الفصول صرّح بأنّ بحث تعلّق الأوامر‏‎ ‎‏بالطبائع أو الأفراد بحث لفظی‏‎[9]‎‏، وحینئذٍ فإن قلنا: إنّ الهیئة موضوعة لطلب وجود‏‎ ‎‏الماهیّة وإیجادها، أمکن نزاع المرّة والتکرار؛ بأن یقال: إنّ المادّة موضوعة لأیّهما، سواء‏‎ ‎‏قلنا بأنّ المراد هو الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد.‏

وإن قلنا: ‏إنّ هیئة الأمر موضوعة لطلب الماهیة، فهی متعلّقة بنفس الماهیة،‏‎ ‎‏وحینئذٍ فلا وجه للنزاع فی المرّة والتکرار مطلقاً؛ لانحصار النزاع ـ حینئذٍ ـ فی الهیئة،‏‎ ‎‏وقد عرفت أ نّه ـ علی أی تقدیر ـ غیر معقول.‏

‏ثمّ إنّه لو فرض أنّ الأوامر متعلّقة بالأفراد، وأوجد العبد فردین من الطبیعة‏‎ ‎‏دفعة واحدة، فهل هو امتثال واحد أو امتثالان؟‏

‏لا إشکال فی أ نّه طاعتان وامتثالان، فیترتّب علیه مثوبتان.‏

وإن قلنا: ‏إنّها متعلّقة بالطبائع، وأوجد فردین منها دفعةً واحدة، فهل هو امتثال‏‎ ‎‏واحد وطاعة واحدة، أو امتثالان وطاعتان؟ وجهان:‏

وجه الأوّل: ‏أ نّه لم یوجِد إلاّ الطبیعة المأمور بها وإن کان فی ضمن فردین،‏‎ ‎‏فهو إطاعة واحدة.‏

ووجه الثانی: ‏أنّ الطبیعة توجد بوجود کلّ واحد من الأفراد، فقد أوجد‏‎ ‎‏الطبیعة مرّتین فی کلّ واحد منهما تمام الطبیعة.‏

‏وقاسه بعض الأعاظم بالوجوب الکفائی؛ حیث إنّ الأمر فیه متعلّق بالطبیعة،‏‎ ‎‏والمسلمون کافّة مأمورون بإیجادها، لکن لو أتی بها واحد منهم کفی فی الامتثال‏‎ ‎‏وسقط عن الآخرین، ولو ترکها کلّهم فجمیعهم یستحقّون العقاب، ولو أتی بها کلّ‏‎ ‎‏واحد منهم استحقّوا الثواب کذلک، مع أنّ الأمر واحد‏‎[10]‎‏.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 278
‏لکن لا یخفی ما فی هذا القیاس؛ للفرق الواضح بینهما، فإنّ المسلمین فی الواجب‏‎ ‎‏الکفائی کلّهم مأمورون بإیجاد الطبیعة، لکن بنحو الکفایة، ولذا لو أتی بها کلّ واحد‏‎ ‎‏منهم استحقّوا الثواب، ولو ترکوها جمیعاً استحقّوا العقاب؛ لصدق الامتثال بالنسبة‏‎ ‎‏إلی کلّ واحد فی الأوّل، ولصدق المخالفة کذلک فی الثانی، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ‏‎ ‎‏المأمور لو ترک الطبیعة رأساً، ولم یأتِ بفردٍ منها، لم یستحق إلاّ عقوبة واحدة؛ لترکه‏‎ ‎‏الطبیعة المأمور بها، ولو أتی بجمیع أفرادها لم یستحقّ إلاّ مثوبة واحدة؛ للملازمة بین‏‎ ‎‏تعدّد الثواب والعقاب ووحدتهما فی صورتی الموافقة والمخالفة، ولا یصحّ أن یقال: إنّ‏‎ ‎‏العقوبةَ علی فرض ترک الإتیان بجمیع أفراد الطبیعة واحدة، والمثوبةَ علی فرض‏‎ ‎‏الإتیان بجمیع أفرادها متعدّدة، بخلاف الواجب الکفائی، فإنّهما فیه أیضاً متلازمان، فلو‏‎ ‎‏أتی به الجمیع تعدّدت المثوبة، ولو ترکه کلّهم تعدّدت العقوبة؛ لما عرفت من الملازمة،‏‎ ‎‏فالقیاس فی غیر محلّه.‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 279

  • )) آل عمران (3) : 97.
  • )) البقرة (2) : 43 و 83 و 110 وغیرها، النور (24) : 56.
  • )) الفصول الغرویّة : 71 ، مفتاح العلوم : 93.
  • )) کفایة الاُصول : 100 ـ 101.
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات العراقی) 1 : 254.
  • )) أجود التقریرات 1 : 60، بدائع الأفکار (تقریرات العراقی) 1 : 156 ـ 157.
  • )) الفصول الغرویّة : 71.
  • )) کفایة الاُصول : 101 ـ 102.
  • )) اُنظر الفصول الغرویّة : 71 ـ 72.
  • )) نهایة الاُصول 1 : 212.