الفصل التاسع فی المرّة والتکرار
هل تدلّ صیغة الأمر علی المرّة أو التکرار أو لا تدلّ علی شیءٍ منهما؟
إعلم أنّ هذا النزاع مختصّ بالأمر والنهی، ولم یقع فی سائر المشتقّات مثل الماضی والمضارع، والظاهر أنّ منشأ النزاع أ نّهم لمّا رأوا أ نّه قد ورد الأمر فی القرآن المجید واُرید به المرّة تارة، مثل: «ِلله ِ عَلَی النّاسِ حِجّ الْبَیْتِ»، والتکرار اُخری، مثل: «أقِیمُوا الصَّلاة»، فوقع البحث فی أ نّه حقیقة فی المرّة ومجاز فی التکرار، أو بالعکس.
ثمّ إنّه یمکن تصویر النزاع بوجوه:
الأوّل: أنّ مجموع الأمر بمادّته وهیئته هل یدلّ علی المرّة أو التکرار؟
الثانی: أنّ هیئته هل تدلّ علی کذا أو کذا؟
الثالث: أنّ مادّته فقط هل تدلّ علی ذا أو ذاک؟
والبحث فی الصورة الاُولی إنّما یُعقل لو قلنا بأنّ العلل الشرعیّة والأوامر التشریعیّة کالعلل التکوینیّة فی أنّ العلّة الواحدة لا تؤثّر إلاّ فی معلول واحد، وإلاّ فلا معنی لهذا النزاع، کما سیجیء توضیحه إن شاء الله .
ونقل صاحب «الفصول» عن السکّاکی حکایة الإجماع علی أنّ المصدر المجرّد عن الألف واللاّم والتنوین لا یدلّ إلاّ علی الماهیّة المطلقة، ولذا حرّرنا النزاع فی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 274
الهیئة والأکثرون أیضاً حرّروا النزاع فی الصیغة، وهی ظاهرة بل صریحة فی الهیئة.
وأورد علیه صاحب «الکفایة» بما حاصله : أنّ مجرّد الاتّفاق علی ذلک لا یوجب کون النزاع فی الهیئة، وإنّما یوجب ذلک لو قلنا بأنّ الأصل فی المشتقّات هو المصدر، وأمّا إذا قلنا بأنّ المصدر أیضاً صیغة مباینة لسائر المشتقّات، ولیس أصلاً لها فلا، وحینئذٍ فیمکن أن یجعل محطّ البحث فی المقام هو مادة الأمر وإنّها موضوعة لکذا وکذا.
واستشکلوا علیه : بأ نّه وإن قلنا بأنّ المصدر لیس أصلاً لها، لکن الموادّ واحدة، فمادّة المصدر عین مادّة الأمر، فإذا کان مادّة المصدر موضوعة للطبیعة المطلقة الغیر القابلة للوحدة والکثرة، صحّ ما ذکره صاحب «الفصول».
والجواب الصحیح عن مقالة صاحب «الفصول» : هو أ نّه لو انضمّ إلی الإجماع المذکور إجماع آخر علی أنّ موادّ المشتقّات والمصدر واحدة، صحّ ما أفاده، لکن الإجماع الثانی مفقود فی المقام؛ للاختلاف فی ذلک، فذهب بعضهم إلی أنّ مادّة المصدر مباینة لمادّة سائر المشتقّات وأ نّها موضوعة بوضع علی حدة غیر وضع موادّ المشتقّات وحینئذٍ فمجرّد الاتّفاق علی أنّ المصدر المجرّد موضوع للطبیعة لا یُجدی فی حصر النزاع فی الهیئة، لکن وقوع النزاع فی الهیئة أیضاً إنّما یُعقل إذا صحّ ما ذکره صاحب الدّرر قدس سره: من أنّ الأوامر الشرعیّة کالعلل التکوینیّة، وقد مرّ فساده؛ لما عرفت من أنّ المعلول فی التکوینیّات لیس له تحقّق ووجود مستقلّ، وفی الحقیقة وجود المعلول عین وجود العلّة التامّة، بخلاف المعلول فی التشریعیّات، فإنّ الآمر یلاحظ الطبیعة أوّلاً، ویشتاق إلیها، فیریدها فیأمر بها، ومن الواضح استحالة إرادة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 275
الطبیعة المطلقة والاشتیاق إلیها مرّتین أو أزید إلاّ تأکیداً، اللهم إلاّ مع تقییدها بقید أو خصوصیّةٍ، فإذا أرادها واشتاق إلیها ثانیاً مع عدم التقیید بخصوصیّةٍ، فهو عین الأوّل، فلا یوجب تعدّد الأمر تعدّد المعلول، وحینئذٍ فالنزاع فی الهیئة غیر معقول، هذا إذا قلنا بأنّ الهیئة موضوعة للإغراء والبعث.
وأمّا لو قلنا: بأ نّها موضوعة للإیجاد فالإشکال المذکور وإن کان غیر وارد، لکن یرد علیه إشکال آخر: وهو أ نّه لو فرض أنّ المدّعی للتکرار یذهب إلی أنّ الهیئة موضوعة للإیجادات مع أ نّها معانٍ حرفیّة بتصوّرها ثانیاً بمعنیً اسمی، لکن یرد علی هذا المبنی: أ نّه کیف یمکن حینئذٍ استعمالها مع أ نّها معانٍ حرفیّة، والمعنی الحرفی غیر قابل للتقیید بالمرّة أو التکرار إلاّ بلحاظه بالمعنی الاسمی، مضافاً إلی أ نّه خلاف الوجدان والمرتکز فی الأذهان، وعلی أی تقدیر فالبحث فی الهیئة غیر معقول.
وأمّا النزاع فی مجموع الهیئة والمادّة أو فی المادّة فقط فهو معقول، لکنّه غیر صحیح؛ لأنّ التحقیق فی المقام: أنّ مادّة الأمر موضوعة بالوضع النوعی للطبیعة المطلقة، وهیئته موضوعة لمجرّد البعث والإغراء، وشیء منهما لا یدلّ علی المرّة والتکرار.
والحاصل: أنّ صیغة الأمر لا تدلّ إلاّ علی طلب الماهیّة والمرّة والتکرار خارجان عن مدلولها.
نعم: إذا أمر المولی بشیء، وکان فی مقام البیان وأطلق، یتحقّق الامتثال بإیجاده مرّة، ولا یصحّ عقابه؛ لا لأجل أنّ الصیغة تدلّ علی المرّة، بل من حیث تحقّق الامتثال بالمرّة وإیجاد فرد واحد منها.
هذا إذا کان المتکلّم فی مقام البیان، لکن الغالب فی الأوامر الواردة فی الکتاب عدم کونها فی مقام البیان، وحینئذٍ فالمرجع هو الاُصول والقواعد.
ثمّ إنّ المراد بالمرّة والتکرار هل هو الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد؟
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 276
والفرق بینهما واضح، فإنّ الدفعة هو تحقّق الشیء أو الأشیاء بحرکة واحدة، فهی أعمّ من وجود فردٍ واحد أو أکثر، فیمکن تحقّق أفراد وإیجادها بحرکةٍ واحدة، فإکرام زید وعمرو بإکرامٍ واحد دفعة واحدة، لکنّه إیجاد فردین من الإکرام.
إذا عرفت هذا نقول: ذهب بعض إلی أنّ المراد هو الدفعة والدفعات.
ویشهد لذلک: أ نّه لو کان المراد بهما الفرد والأفراد لکان الأنسب وقوع هذا البحث فی ذیل البحث فی أنّ الأوامر هل هی متعلّقة بالطبائع أو بالأفراد؟
فإن قلنا: إنّها متعلّقة بالطبائع فلا وجه لهذا البحث حینئذٍ.
وإن قلنا: بتعلّقها بالأفراد فیقال: هل هی للفرد أو الأفراد؟ والحاصل: أ نّه لو کان المراد هو الفرد والأفراد فلا وقع لهذا البحث لو قلنا بتعلّق الأوامر بالطبائع بخلاف ما لو قلنا: إنّ المراد هی الدفعة والدفعات، فإنّ النزاع حینئذٍ صحیح علی کلا القولین، سواءً قلنا بتعلّق الأوامر بالطبائع أو الأفراد.
وأجاب عنه فی «الکفایة»: بأ نّه لا ارتباط بین البحثین لو اُرید بهما الفرد والأفراد أیضاً فإنّ الطلب علی القول بتعلّقه بالطبیعة، إنّما یتعلّق بها باعتبار وجودها فی الخارج؛ ضرورة أنّ الطبیعة من حیث هی لیست إلاّ هی؛ لا مطلوبة ولا غیرها، وبهذا الاعتبار کانت مردّدة بین المرّة والتکرار بکلا المعنیین، فصحّ النزاع فی دلالة الصیغة علی المرّة أو التکرار بالمعنیین وعدمها.
وحاصل مراده قدس سره: أنّ ما ذکره صاحب الفصول ـ من أ نّه یستکشف من عدم تفریعهم هذا البحث علی المبحث المذکور أنّ المراد هو الدفعة والتکرار لا الفرد والأفراد ـ غیرُ وجیه؛ لأنّه لا ارتباط بین المبحثین سواء قلنا: إنّ المراد هو الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد، وسواء قلنا بتعلّق الأوامر بالطبائع أو الأفراد.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 277
لکن التحقیق فی المقام: هو أنّ صاحب الفصول صرّح بأنّ بحث تعلّق الأوامر بالطبائع أو الأفراد بحث لفظی، وحینئذٍ فإن قلنا: إنّ الهیئة موضوعة لطلب وجود الماهیّة وإیجادها، أمکن نزاع المرّة والتکرار؛ بأن یقال: إنّ المادّة موضوعة لأیّهما، سواء قلنا بأنّ المراد هو الدفعة والدفعات أو الفرد والأفراد.
وإن قلنا: إنّ هیئة الأمر موضوعة لطلب الماهیة، فهی متعلّقة بنفس الماهیة، وحینئذٍ فلا وجه للنزاع فی المرّة والتکرار مطلقاً؛ لانحصار النزاع ـ حینئذٍ ـ فی الهیئة، وقد عرفت أ نّه ـ علی أی تقدیر ـ غیر معقول.
ثمّ إنّه لو فرض أنّ الأوامر متعلّقة بالأفراد، وأوجد العبد فردین من الطبیعة دفعة واحدة، فهل هو امتثال واحد أو امتثالان؟
لا إشکال فی أ نّه طاعتان وامتثالان، فیترتّب علیه مثوبتان.
وإن قلنا: إنّها متعلّقة بالطبائع، وأوجد فردین منها دفعةً واحدة، فهل هو امتثال واحد وطاعة واحدة، أو امتثالان وطاعتان؟ وجهان:
وجه الأوّل: أ نّه لم یوجِد إلاّ الطبیعة المأمور بها وإن کان فی ضمن فردین، فهو إطاعة واحدة.
ووجه الثانی: أنّ الطبیعة توجد بوجود کلّ واحد من الأفراد، فقد أوجد الطبیعة مرّتین فی کلّ واحد منهما تمام الطبیعة.
وقاسه بعض الأعاظم بالوجوب الکفائی؛ حیث إنّ الأمر فیه متعلّق بالطبیعة، والمسلمون کافّة مأمورون بإیجادها، لکن لو أتی بها واحد منهم کفی فی الامتثال وسقط عن الآخرین، ولو ترکها کلّهم فجمیعهم یستحقّون العقاب، ولو أتی بها کلّ واحد منهم استحقّوا الثواب کذلک، مع أنّ الأمر واحد.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 278
لکن لا یخفی ما فی هذا القیاس؛ للفرق الواضح بینهما، فإنّ المسلمین فی الواجب الکفائی کلّهم مأمورون بإیجاد الطبیعة، لکن بنحو الکفایة، ولذا لو أتی بها کلّ واحد منهم استحقّوا الثواب، ولو ترکوها جمیعاً استحقّوا العقاب؛ لصدق الامتثال بالنسبة إلی کلّ واحد فی الأوّل، ولصدق المخالفة کذلک فی الثانی، بخلاف ما نحن فیه، فإنّ المأمور لو ترک الطبیعة رأساً، ولم یأتِ بفردٍ منها، لم یستحق إلاّ عقوبة واحدة؛ لترکه الطبیعة المأمور بها، ولو أتی بجمیع أفرادها لم یستحقّ إلاّ مثوبة واحدة؛ للملازمة بین تعدّد الثواب والعقاب ووحدتهما فی صورتی الموافقة والمخالفة، ولا یصحّ أن یقال: إنّ العقوبةَ علی فرض ترک الإتیان بجمیع أفراد الطبیعة واحدة، والمثوبةَ علی فرض الإتیان بجمیع أفرادها متعدّدة، بخلاف الواجب الکفائی، فإنّهما فیه أیضاً متلازمان، فلو أتی به الجمیع تعدّدت المثوبة، ولو ترکه کلّهم تعدّدت العقوبة؛ لما عرفت من الملازمة، فالقیاس فی غیر محلّه.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 279