الفصل الثامن فی الواجب التوصّلی والتعبّدی
والتعاریف المتداولة فی ألسنة القوم للتوصّلی والتعبّدی مختلفة:
فعن بعضهم: أنّ التوصّلیعبارة عمّا عُلم الغرض من الأمربه، والتعبّدی بخلافه.
وعن الآخر: أنّه ما لا یُعتبر فی الإتیان به وسقوط أمرِهِ قصدُ التقرّب إلی الله ، والتعبّدی خلافه.
وقد یطلق التوصّلی علی ما یکفی مجرّد وقوعه فی الخارج فی سقوط أمره ولو لا عن إرادة واختیار، بل بإتیانه فی ضمن محرّم، کغسل الثوب ونحوه ولو بالماء المغصوب، بخلاف التعبّدی، فإنّه یعتبر فی فعله وسقوط أمره الإتیان به عن إرادة واختیار مع المباشرة وبنحو المباح إلی غیر ذلک من التعاریف.
ولا یخفی أنّ الواجبات الشرعیّة علی أنحاء فبعضها یسقط بمجرّد تحقّقه فی الخارج بأی نحوٍ من الأنحاء کغسل الثوب النجس.
ویحتاج بعضها إلی قصد عنوانه، ولا یتحقّق بدونه، کالتعظیم لو وجب بالنذر ونحوه، وکردّ السلام، والاکتساب لمؤنته ومؤنة عیاله الواجبی النفقة.
بعضها یعتبر فیها ـ مضافاً إلی قصد العنوان ـ قصد التقرّب به إلی الله تعالی کالخمس والزکاة.
وبعضها یحتاج ویشترط فیه ـ مضافاً إلی ذلک کلّه ـ قصد عنوان العبودیّة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 252
والمذلّة والخشوع والخضوع کالصلاة والصوم والحجّ.
ولا شبهة فی إطلاق التعبّدی علی الأخیرین، فالقسم الثالث أیضاً تعبّدی، فتعریفه بما یراد من لفظ «پرستش» فی الفارسیّة ـ کما عن بعض الأعاظم ـ غیر جامع؛ لخروج القسم الثالث ـ مثل الخمس والزکاة ونحوهما من الواجبات القُربیّة ـ عنه مع أنّه تعبّدی أیضاً.
کما أنّ تعریفه بما فی «الکفایة»: من أنّ التوصّلی هو ما یحصل الغرض منه بمجرّد وقوعه وحصوله فی الخارج وسقوط الأمر به یقتضی خروج العناوین القصدیّة ـ کردّ السلام والتعظیم ونحوهما ـ عن التوصّلی ودخوله فی التعبّدی، لکن الأمر فیه سهل؛ لأنّها تعاریف لفظیّة.
وعلی أی تقدیر: التعبّدی: هو ما یشترط فی امتثاله وسقوط الأمر به قصد الامتثال والقربة، به فیشمل القسمین الأخیرین، والتوصّلی بخلافه.
فنقول: اُورد علی الواجب التعبّدی بأمرین:
أحدهما: من جهة أخذ قصد امتثال الأمر فی متعلّقه؛ فإنّه قد یقال: إنّه تکلیف محال ذاتاً لوجوه:
أحدها: أنّه لو اُخذ قصد الامتثال والأمر فی متعلّقه لزم تقدّم ما هو متأخّر ذاتاً بمرتبتین؛ وذلک لأنّ الأحکام الشرعیّة من العوارض الطارئة علی الموضوعات ـ أی متعلّقات الأحکام ـ فالأمر متأخّر رتبة عن متعلّقه تأخّر العارض عن معروضه، وقصد الأمر متأخّر برتبة عن الأمر، فلو اُخذ قصد الأمر فی متعلّقه لزم تقدّم قصد الأمر ـ المتأخّر عن الأمر ـ برتبتین علی الأمر.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 253
الثانی: أنّه مستلزم للدور المحال؛ لأنّ موضوع الأمر هو الصلاة ـ مثلاً ـ مقیّدة بقصد الأمر، فقصد الأمر جزء لموضوع الأمر، فالأمر متوقّف علی موضوعه، المتوقّف جزؤه علی الأمر، فیتوقّف الأمر علی الأمر.
الثالث: ما أفاده بعض الأعاظم ـ علی ما فی تقریرات درسه ـ وهو أنّ الأحکام الشرعیّة مجعولة علی موضوعاتها بنحو القضیّة الحقیقیّة، التی یُفرض الموضوع فیها موجوداً مطابقاً للواقع ونفس الأمر، ثمّ یُنشأ الحکم علی ذلک الموضوع فی ذلک الفرض، ولا ریب أنّ مرتبة فرض وجود الموضوع متقدّمة علی رتبة جعل الحکم علیه، فإذا کان نفس الحکم جزء الموضوع لزم وجوده حال کونه موضوعاً برتبة قبل وجود نفسه فی حال کونه حکماً، وهو محال، فأخذُ الحکم موضوعاً لنفسه أو جزءً من موضوع نفسه محالٌ.
هذا فی مقام جعل الحکم وإنشائه، وهکذا الأمر ـ بل أوضح فساداً ـ حال فعلیّة الحکم وحال الامتثال انتهی.
وهذه الوجوه کلّها مخدوشة:
أمّا الأوّل: فإن اُرید من أنّ الأحکام عوارض للموضوعات الخارجیّة أنّها أعراض ذهنیّة، وهی الإرادة القائمة بالنفس، فهو غیر معقول، والإرادة غیر الحکم.
وإن أراد أنّها أعراض خارجیّة ففیه: أنّ العرض الخارجی عبارة عمّا لا یوجد إلاّ فی موضوع، ولیس فیما نحن فیه إلاّ الوجود اللّفظی؛ أی التلفّظ بالأمر القائم بالأمر وتموّج الهواء، وإلاّ فالإتیان بالمأمور به المتحقّق فی الخارج لیس عرضاً أو حکماً.
وتوهّم: أنّه لابدّ من وجود متعلّق الأمر وتحقّقه فی الخارج أوّلاً، ثمّ تعلّق الأمر به.
مدفوع: بأنّ الخارج ظرف السقوط والامتثال، بل لا معنی للأمر بإیجاد
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 254
الموجود فی الخارج، فالأمر دائماً یتعلّق بما لیس بموجود فیه ولا تحقّق له فیه؛ لیوجده المکلّف، وأنّ متعلّق الأمر هی الطبیعة الملحوظة فی الذهن.
فتحصّل: أنّه لا محذور فی أخذ قصد الأمر فی متعلّقه، وأنّه یمکن أن یتصوّر الآمر الإتیان بالطبیعة بقصد الأمر فی ذهنه، ثمّ الأمر به، ولا یلزم منه محال.
وأمّا الوجه الثانی: ـ أی لزوم الدور ـ فجوابه واضح، فإنّ قصد الأمر فی مقام الامتثال وإن یتوقّف علی الأمر، لکن الأمر لا یتوقّف علی قصده.
وأمّا الوجه الثالث: ففیه أنّا لا نسلّم جعل الأحکام علی موضوعاتها بنحو القضیّة الحقیقیّة، التی تستدعی فرض وجود الموضوع، فإنّه ممنوع، مع أنّ فرض وجود الموضوع غیر وجوده واقعاً، والأوّل قائم بوجود الفارض، ولا یمتنع فرض وجوده قبل وجوده فی الخارج.
الوجه الرابع: أنّه لو اُخذ قصد الأمر فی متعلّقه لزم اجتماع اللحاظین المتنافیین الآلی والاستقلالی فی زمان واحد، وهو محال؛ لأنّ الأمر بشیء یقتضی أن یتصوّره الآمر تصوّراً آلیّاً؛ لأنّ الأمر للبعث، وأخذه فی متعلّقه یستلزم تصوّره وتصوّر متعلّقه کلّ واحدٍ منهما استقلالیّاً؛ لاستلزام تقییده به ذلک، فیلزم اجتماع اللحاظین المذکورین، وهو محال.
وفیه: أنّ اجتماع اللحاظین إنّما یمتنع إذا کانا فی زمان واحد، وما نحن فیه لیس کذلک، بل فیه لحاظات متعدّدة فی آنات متعدّدة، فإنّ الأمر یستدعی لحاظه استقلالاً أوّلاً، ثمّ لحاظ متعلّقه کذلک ثانیاً وفی الآن الثانی، ثمّ تصوّر الأمر آلیّاً ثالثاً؛ لأنّه آلة للبعث، ثمّ لحاظه رابعاً استقلالاً لتقیید متعلّقه بقصده، فهذه اللحاظات والتصوّرات لیست فی آنٍ واحد، بل فی آنات متعدّدة مترتّبة، ولا محذور فیه، بل کثیراً ما یتّفق ذلک فی المحاورات، کما فی قولک: «ضربت زیدا یوم الجمعة أمام الأمیر ضرباً شدیداً»،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 255
فیلاحظ النسبة فیه آلیّة واستقلالیّة فی أزمنة متعددّة.
فتحصّل: أنّه لم یقم دلیل ولا برهان علی امتناع أخذ قصد الأمر فی متعلّقه ذاتاً، وأنّه تکلیف محال.
وقد یقال: إنّه لیس محالاً ذاتاً، لکنّه تکلیف بالمحال؛ لوجوه:
الأوّل: أنّه لا شبهة فی اعتبار قدرة المکلّف علی فعل المأمور به فی صحّة التکلیف ولا یقدر المکلّف حین التکلیف علی فعل المأمور به بقصد الأمر، فلا یصحّ تکلیفه به.
والحاصل: أنّه یشترط قدرة المکلّف قبل التکلیف وحینه، وفی هذا الحال لا یتمکّن المکلّف من الفعل بقصد الأمر؛ لعدم صدور الأمر بعد.
وفیه: أنّا لا نسلّم اعتبار القدرة قبل الأمر وحینه، بل المسلّم اشتراطها حین الامتثال، وهو قادر علیه حین الامتثال؛ لتحقّق الأمر حینه.
الثانی: ما أفاده بعض الأعاظم وحاصله: أنّه لو اُخذ قصد الأمر فی متعلّقه یلزم تقدّم الشیء علی نفسه عند إنشاء الحکم وعند فعلیّته وعند الامتثال.
والأوّل: ـ أی لزوم تقدّم الشیء علی نفسه فی مقام إنشاء الحکم ـ یقتضی استحالة التکلیف ذاتاً، وأنّه تکلیف محال، وقد تقدّم جوابه.
والثانی والثالث: ـ أی لزوم تقدّم الشیء علی نفسه عند فعلیّة الحکم وفی مقام الامتثال ـ یقتضی أنّه تکلیف بالمحال؛ وذلک لأنّ الغرض من تشریع الأحکام هو صیرورتها فعلیّةً، ویلزم من أخذ قصد الأمر فی متعلّقها عدم صیرورتها فعلیّةً؛ لأنّ فعلیّة الأمر والحکم تتوقّف علی فعلیة متعلّقه وموضوعه، وفعلیّة موضوعه تتوقّف علی فعلیّة الأمر، وهذا هو توقّف الشیء علی نفسه.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 256
والجواب: أنّ توقّف فعلیّة التکلیف علی فعلیّة الأمر مسلّم، لکن لا نسلِّم توقّف فعلیّة الأمر علی فعلیّة موضوعه، بل یتوقّف علی فعلیّة تصوّره ولحاظه، واللحاظ لا یفتقر إلی وجود الملحوظ فی الخارج، کما مرّ توضیحه.
الثالث: ما استدلّ به صاحب الکفایة: وهو أنّه لو اُخذ قصد الأمر فی متعلّقه لزم أن یکون الشیء داعیاً إلی داعویّة نفسه أو علّةً لعلّیّة نفسه، وهو باطل؛ وذلک لأنّه لا ریب فی أنّ الأمر یدعو إلی متعلّقه فلو اُخذ قصد الامتثال قیداً لمتعلّق الأمر لزم ذلک، وهو علی حدّ کون الشیء علّة لعلّیّة نفسه، وذلک أوضح فساداً من کون الشیء علّة لنفسه انتهی.
والجواب أوّلاً: أنّ هذا الاشتباه ناشٍ عن تخیّل أنّ العلل الشرعیّة کالعلل التکوینیّة فی استحالة انفکاک معلولاتها عنها، لکن فساده واضح؛ فإنّ الأمر بعث إیقاعی لیس علّة تامّة للانبعاث؛ لیلزم المحذور المذکور.
هذا خلاصة ما أجاب به بعض الأعاظم فی بحثه.
وثانیاً: لو أتی بالصلاة بقصد الأمر فحین الامتثال لیس قصد الأمر مأموراً به؛ لأنّه حاصل، والأمر به أمر بتحصیل الحاصل، وهو محال، ولا یلزم أن یدعو الأمر إلی داعویّة نفسه؛ لیلزم التکلیف بالمحال.
إن قلت: فما الذی یدعوه إلی الصلاة بقصد الامتثال مع إمکان الإتیان بها لا بقصد الامتثال؟! فلیس الداعی إلی ذلک إلاّ تعلّق الأمر به، فیلزم داعویّة الأمر ومحرّکیّته إلی داعویّة نفسه ومحرّکیّته.
قلت: الأمر متعلِّق بطبیعة الصلاة مقیّدة بقصد الأمر، فإذا أتی به لا بقصد
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 257
الامتثال لم یأتِ بالمأمور به؛ لأنّ المأمور به هو المقیّد، لکن لا یلزم الدعوة إلی قصد الأمر بنفسه، فإنّ الأمر به أمر بتحصیل الحاصل، وهو لغو.
مضافاً إلی أنّا نری بالوجدان أنّه یمکن الامتثال مع فرض تعلّق الأمر بشیء مقیّداً بإتیانه بقصد الامتثال، وأدلّ دلیل علی إمکان الشیء وقوعه.
واستدلّ أیضاً بأنّه لو اُخذ قصد الأمر فی متعلّقه لما أمکن الامتثال؛ لأنّ نفس المأتی لم یتعلّق به أمر؛ لأنّ المفروض تعلّقه به مقیّداً.
وأجاب عنه المحقّق العراقی: بأنّ الأمر المذکور ینحلّ إلی أمرین متعلَّق أحدهما موضوع الآخر، فینحلّ فیما نحن فیه إلی الأمر بالصلاة، وإلی الأمر بإتیانها بقصد الامتثال، وحینئذٍ فالصلاة مأمور بها، ولا فرق فیه بین أن یؤخذ قصد الامتثال شرطاً أو شطراً انتهی ملخّصه.
وفیه: أنّ القول بانحلال کلّ واحد من الأوامر والنواهی إلی أوامر متعّددة فاسد؛ فإنَّ الأمر فی جمیع الأوامر واحد، حتّی فی ما لو توجّه إلی جماعة؛ مثل: «یا أیّها الناس أقیموا الصلاة»، فإنّ الأمر فیه واحد، والمأمور متعدّد، نظیر النداء مع تعدّد المنادی، ففیما نحن فیه أمر واحد تعلّق بالمرکّب من الصلاة وقصد الامتثال، لکن أصل الاستدلال غیر صحیح؛ فإنّ الأمر حسب الفرض تعلّق بالصلاة، غایة الأمر هی مقیّدة بقصد الأمر أو معه، فإنّ الأمر بها واقع محقّق، فیمکن الامتثال بقصد الأمر ولا محذور فیه.
واستدلّ أیضاً: بأنّه لو اُخذ قصد الامتثال فی متعلّق الأمر لزم التنافی فی اللحاظ فی التقدّم والتأخّر؛ وذلک لأنّ الموضوع وما یتعلّق به الأمر متقدّم علی الأمر والحکم لحاظاً وتصوّراً، ولحاظ الحکم متقدّم علی ما یأتی من قِبَله، فیلزم تقدّم قصد
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 258
الامتثال فی اللحاظ علی الحکم؛ لأنّه من متعلّقات موضوعه، وتأخّره عن الموضوع برتبتین؛ لأنّه جاء من قِبَل الأمر والحکم، فیلزم أن یکون متقدّماً ومتأخِّراً فی لحاظ واحد، وذلک محال.
ثمّ استشکل بقوله: إن قلت: إنّ دعوة الأمر إلی إیجاد متعلّقه إنّما هی من آثار الأمر وشؤونه بوجوده الذهنی فی نفس المکلف، لا من آثار وجوده الخارجی وشؤونه، والأمرُ الذی وقع النزاع فی إمکان أخذ دعوة الأمر جزءً أو قیداً، هو الأمر بوجوده الخارجی الحقیقی، فلو اُخذ فی متعلّقه جزءً أو قیداً لما استلزم شیئاً من المحاذیر المذکورة کما لا یخفی.
وأجاب عنه بما حاصله: أنّ ذلک إنّما یُجدی لدفع الدور، ولیس هو المدّعی.
والجواب عن هذا الاستدلال: أنّ الاستحالة التی ادّعاها: إمّا ناشئة من نفس اللحاظ فیکون اللحاظ محالاً؛ أی لحاظ شیء واحد متقدّماً ومتأخّراً، فمن المعلوم أنّه لیس کذلک، وإلاّ یلزم استحالة تقیید الصلاة بالطهارة ـ مثلاً ـ أیضاً؛ لعدم الفرق بینهما فی ذلک.
وإمّا ناشئة من ناحیة الملحوظ فلا ریب أنّ الملحوظ ـ وهو تقیید المأمور به بقصد الامتثال ـ أمر ممکن، کما اعترف هو قدس سره به، والأمر الممکن لا یوجب امتناع شیء آخر کما لا یخفی.
فتلخّص من جمیع ما ذکرنا: أنّ أخذ قصد الأمر فی متعلّقه لیس محالاً ذاتاً، ولا تکلیفاً بالمحال.
ثمّ لو فرض عدم إمکانه، فهل یمکن أخذه شرعاً بتعدّد الأمر بأن یتعلّق أحدهما بطبیعة الصلاة، والثانی بها مقیّداً بإتیانها بقصد الامتثال، فیتوسّل الآمر إلی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 259
غرضه بهذه الوسیلة، کما ذهب إلیه الشیخ قدس سره أو لا کما ذهب إلیه بعض آخر ؟ فنقول استشکل علیه بوجوه:
أحدها: ما ذکره صاحب الکفایة من أنّا نقطع بأنّه لیس فی العبادات إلاّ أمر واحد، کغیرها من الواجبات والمستحبّات.
وثانیهما: ما ذکره فی «الکفایة» ـ أیضاً ـ بأنّ الأمر: إمّا أن یسقط بمجرّد موافقته ولو لم یقصد به الامتثال؛ لکونه توصّلیّاً، کما هو قضیّة الأمر الثانی، فلا یبقی مجال لموافقة الأمر الثانی، فلا یتوسّل الآمر إلی غرضه بهذه الوسیلة والحیلة، وإمّا أن لا یسقط بذلک، فلاوجه له إلاّعدم حصول غرضه بذلک، مع حکم العقل استقلالاً ـ حینئذٍ ـ بوجوب موافقته علی نحو یحصل غرضه، ولا یحتاج إلی الأمر الثانی انتهی.
لکنّ الوجهین غیر وجیهین: أمّا الأوّل فلأنَّ دعوی القطع المذکور مجازفة؛ لعدم حصول هذا القطع لنا. وأمّا الثانی فإنّه قدس سره لم یذکر أنّ الامتثال فی صورة الشکّ فی اعتبار قصد الامتثال هل یتحقّق أو لا؟ أی لم یتعرّض لصورة الشکّ والواقع لا یخلو عن أحد الأمرین فذهب بعضهم إلی البراءة فیه لا الاشتغال، وحینئذٍ فیلزم أن یأمر المولی ثانیاً بإتیانه بقصد الامتثال؛ حیث إنّ الامتثال بدونه مشکوک فیه؛ ردعاً عن الحکم بالبراءة، بل یمکن أن یقال: إنّهُ یستکشف من بدیهیّة اعتبار قصد الامتثال فی العبادات وأنّه من المسلّمات وجودُ أمر آخر هنا متعلّق به.
مضافاً إلی أنّه ربّما یمکن أن یقال باعتبار قصد التنجّز فی العبادات مع الإمکان،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 260
ولعلّه المشهور ـ أیضاً ـ ولا یمکن إلاّ مع تنبیه الشارع علی ذلک؛ لأنّ مقتضی الحکم بالاشتغال هو الاحتیاط.
الثالث من وجوه الإشکالات التییصعب الذبّ عنهاهو: أنّ الأمرالأوّل لو تعلّق بنفس طبیعة الصلاة مجرّدة فلا ریب أنّها کذلک لیست مطلوبة ومرادةً، فلا یتعلّق البعث بها حقیقةً؛ لاستحالة البعث الحقیقی إلی ما لیس هو بمطلوب حقیقة، فلا معنی للأمر الثانی بفعلها وإیجادها بقصد الأمر الأوّل؛ لما عرفت من استحالة البعث إلیها مجرّدةً، والأمر الثانی ـ أیضاً ـ قد تعلّق بالقید فرضاً، وقال المحقّق العراقی قدس سره إنّ الأمر الأوّل قد تعلّق بالحصّة المقارنة للقید، لا بالصلاة مجرّدةً ولا بالطبیعة المقیّدة، فکأنّ نظره إلی دفع هذا الإشکال وإن لم یصرّح به.
لکن فیه: أنّ ما ذکره إنّما یمکن تصوّره فی الطبیعة الموجودة فی الخارج، فإنّ طبیعة الإنسان یمکن تصوّرها مقارنة للفسق والعدالة أو غیرهما؛ لوجود الفرد الفاسق والعادل منها فی الخارج، فمع عدم وجودها فی الخارج لا یتمّ ما ذکره؛ فإنّه یستحیل تصوّر المقیّد مقارناً لقیدٍ لا یمکن تقییده به.
نعم: یصحّ ذلک لو وجد فی الخارج؛ بأن یقال: الإنسان بما له من الوجود فی الخارج حکمه کذا.
وغایة ما یمکن أن یقال فی الذبّ عن الإشکال: هو أنّ للمولی نحوین من الأمر ـ إذا کان مطلوبه مرکّباً من الأجزاء العرضیّة، مثل المسجد ـ : أحدهما أن یأمر ببناء المسجد بقوله: «ابن مسجداً»، وثانیهما الأمر بوضع اللبنة والآجر والطین ـ مثلاً ـ بأن یأمر بکلّ واحد منها مستقلاًّ، وحینئذٍ فمطلوبه الذی تعلّق به الإرادة هو مجموع المتعلّقات لأوامره، لا کلّ واحد منها مستقلاًّ، فالبعث الحقیقی والإرادة کذلک تعلّقا
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 261
بالمجموع، لا بکلّ واحد، وإذا کان مطلوبه مرکّباً من الأجزاء الطولیة، کما فیما نحن فیه؛ أی الصلاة المقیّدة بإتیانها بقصد امتثال الأمر، فالنحو الأوّل من الأمر فیه یعنی الأمر بکلّ واحدٍ مستقلاًّ غیر ممکن بالفرض، لکن یمکن بالنحو الثانی، فمجموع المتعلّقین لأمرین هو مطلوبه الحقیقی الذی تعلّق به البعث الحقیقی والإرادة الحقیقیّة.
وبه یمکن أن یذبّ عن إشکال آخر أورده بعض الأعاظم: وهو أنّ طبیعة الصلاة مجرّدة لیست مُقرِّبة حتّی یتعلّق بها الأمر الأوّل.
وتقریب الجواب: أنّ التقرّب المعتبر فی العبادة حاصل فی المجموع، لا فی کلّ واحد من الأجزاء، وهذا کافٍ فیما نحن فیه.
هذا کلّه لو قلنا: إنّ قصد التقرّب المعتبر فی العبادة هو بمعنی قصد امتثال الأمر.
وأمّا إذا قلنا: إنّ معناه الإتیان بالفعل بداعی حسنه، أو أنّه ذو مصلحة، أو أنّه ممّا تعلّق به إرادته تعالی، فقال فی «الکفایة»: إنّ تقیید الصلاة به بمکان من الإمکان، لکنّه غیر معتبر قطعاً.
أقول: الإشکالات الواردة علیه فی فرض کونه بمعنی قصد الامتثال واردة علیه لو فرض أنّه بهذه المعانی أیضاً، بل الأجوبة المذکورة عنه غیر متمشّیة هنا.
أمّا الإشکالات:
فمنها: ما مرّ منه قدس سره من لزوم داعویّة الشیء إلی داعویّة نفسه أو محرّکیّته إلی محرّکیّة نفسه، فإنّه جار فی هذه الصورة أیضاً، فإنّ الصلاةَ المقیّدة بإتیانها بداعی حسنها، أو أنّها ذات مصلحة، داعیةٌ إلی الصلاة کذلک وهذا هو کون الشی داعیاً ومحرِّکاً إلی داعویّة نفسه ومحرّکیّته.
وأمّا عدم جریان بعض الأجوبة فمثل ما أجاب به الشیخ قدس سره: من إمکان
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 262
التوسّل إلی الغرض بأمرین فی الأوّل، فإنّه غیر جارٍ فیما نحن فیه کما لا یخفی.
ومنها: ما ذکره بعض الأعاظم قدس سره من لزوم الدور الصریح؛ لأنّ قصد المصلحة یتوقّف علی وجودها فی الخارج، ووجودها فی الصلاة فیه یتوقّف علی قصد المصلحة:
أمّا الأوّل: فواضح.
وأمّا الثانی: فلأنّ المفروض أنّ طبیعة الصلاة مجرّدة لیست فیها مصلحة، بل المصلحة فیها إنّما هی فیما إذا اُتی بها بقصد المصلحة، وهذا هو توقّف الشیء علی نفسه.
وأجاب عنه بعض: بأنّ هذا نظیر العناوین القصدیّة کالتعظیم والتوهین، فإنّه یمکن تقریر الدور المذکور فیه أیضاً: بأنّ التعظیم یتوقّف علی قصده؛ لأنّ المفروض أنّه من العناوین القصدیّة التی لا توجد إلاّ بالقصد إلی عنوان، وقصده یتوقّف علی کون الفعل تعظیماً.
فیذبّ عنه: بأنّ توقّف التعظیم علی قصده مسلّم، لکن لا نُسلّم توقّف قصد التعظیم علی کون الفعل تعظیماً بالفعل، بل یکفی قابلیّته واستعداده لأن یقع تعظیماً وفیما نحن فیه أیضاً کذلک فإنّ توقّف وجود المصلحة علی قصدها مسلَّم، لکن لا نسلِّم توقّف قصد المصلحة علی وجودها فی الصلاة بالفعل، بل تکفی المصلحة الشأنیّة؛ بأن تکون للصلاة قابلیّة وجود المصلحة فیها وتحقّقها فیها شأناً فیتوقّف قصد المصلحة علی المصلحة الشأنیّة فیها؛ أی صلاحیّتها لأن تصیر ذات مصلحة.
لکن تنظیر ما نحن فیه بالعناوین القصدیّة غیر صحیح؛ لأنّ الداعی إلی قصد التعظیم لیس هو التعظیم، بل الداعی إلیه هو المبادئ الکامنة فی نفسه الناشئة عن کون
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 263
المعظّم له نبیّاً أو عالماً أو غیر ذلک، والداعی فیما نحن فیه المصلحة الصلاتیّة، فلا یصحّ قیاس ما نحن فیه به.
لکن یمکن أن یُذبّ عن أصل الإشکال: بأنّ لطبیعة الصلاة مجرّدة عن القید جزء مصلحة ملزومة للجزء الآخر منها لا تنفکّ عنه عند الإتیان بالصلاة المأمور بها.
وبعبارة اُخری: المصلحة التامّة کامنة فی الصلاة مع قصد المصلحة کلیهما، فجزء المصلحة متحقّق فی الصلاة، وجزؤها الآخر فی القید، لکن لو فرض تجرّد کل منهما عن الآخر وبدونه فلیس فیه مصلحة، فجزء المصلحة ـ الکامن فی الصلاة الملازم لآخر ـ ممّا یتوقّف علیه قصد المصلحة، فقصد المصلحة یتوقف علی هذه المصلحة الجزئیة، لکن هذه المصلحة الجزئیّة لا تتوقّف علی قصد المصلحة؛ لأنّها توجد حین الإتیان بالصلاة بقصد المصلحة الجزئیّة الکامنة فی الصلاة للملازمة بینهما فی الوجود.
وبهذا البیان یمکن دفع الإشکال الأوّل ـ أیضاً ـ فإنّ جزء المصلحة الذی فی الصلاة داعٍ إلی الإتیان بالصلاة بقصد المصلحة الکامنة فی القید، ویوجد جزء مصلحة الصلاة بلا داعٍ له، وهذا کافٍ فی دفع الإشکال.
ومنها: ـ أی الإشکالات ـ ما قرَّره المحقّق النائینی ـ علی ما ذکره بعض مقرّری بحثه ـ: وهو أنّه إذا اُخذ الجامع بین المصلحة والحُسن قیداً وتعلّقت الإرادة بالمأمور به المقیّد به، کالإتیان بالفعل له تعالی، لزم وقوع شیء واحد فی سلسلة العلّة والمعلول کلیهما، وهو محال.
بیانه: أنّ هذا الجامع ـ حینئذٍ ـ علّة لوجود الإرادة للإتیان بالفعل العبادی، والإرادة علّة لوجود المأمور به، فإذا اُخذ هذا الجامع فی المأمور به الذی هو المعلول لزم المحذور المذکور هذا کلّه فی الإرادة التکوینیة والأمر التکوینی وأمّا الإرادة التشریعیّة فهی ـ أیضاً ـ کذلک ؛ لاستحالة الأمر بالمستحیل. انتهی ملخّصه.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 264
لکن هذا الإشکال أیضاً غیر وارد؛ لأنّ المصلحة لیست علّة للإرادة، بل الإرادة معلولة لغرض آخر، کالخوف من العقاب وعذاب المولی، أو رجاء ثوابه ورضوانه، أو غیر ذلک، وحینئذٍ فلا وقع للإشکال المزبور.
فتلخّص: أنّ أخذ قصد الامتثال أو المصلحة أو الحسن أو غیر ذلک فی متعلّق الأمر ممکن، سواء کان بأمر واحد، أم بأمرین، وحینئذٍ فلا إشکال فی التمسّک بالإطلاق والحکم بالتوصّلیّة إذا شکّ فی أمر أنّه تعبّدی أو توصّلی، فإنّ الآمر إذا کان فی مقام بیان تمام المراد، ولم ینصب قرینة علی الخلاف، یحکم بأنّه توصّلی لا یعتبر فیه قصد الامتثال.
نعم اُورد علیه إشکالات:
أحدها: أنّ التمسّک بالإطلاق إنّما یصحّ فیما إذا کان الإطلاق والتقیید کلاهما ممکنین، وفیما نحن فیه لیس کذلک، فإنّ دعوة الأمر إلی متعلّقه هی من شؤون الأمر ولوازمه التی لا تنفکّ عنه، کما هو واضح، ولا عن متعلّقه، فإنّ الداعی إلی الأمر بالشیء هو بعث المکلّف إلی إیجاد ذلک الشیء، فمتعلّق الأمر هی طبیعة الفعل التی دعت المولی إلی بعث العبد إلی إیجاد ذلک الفعل فللطبیعة المأمور بها ضیق ذاتی لا لفظی، ولا یمکن تقیید الطبیعة بذلک القید، فلا إطلاق فی متعلّق الأمر حتّی یتمسّک به فی مورد الشکّ.
وأجاب عنه المحقّق العراقی قدس سره: بما یظهر منه تسلیمه ما ذکره من اللزوم، لکنّه ممنوع؛ فإنّ الأمر کما یتعلّق فی التوصّلیّات بنفس الطبیعة، ویکفی إیجادها بأی نحوٍ کان، فکذلک فی العبادات یتعلّق بنفس الطبیعة، فلو شکّ فی التقیید أو فی أمرٍ ثانٍ فلا مانع من التمسّک بالإطلاق إذا کان الآمر فی مقام البیان مع شرائطه الاُخر.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 265
وذهب فی «الدرر»: إلی أصالة التعبّدیّة فی صورة الشّکّ وعدم صحّة التمسّک بالإطلاق بعد اختیاره أوّلاً أصالة التوصّلیّة، ومهّد لذلک مقدّمات:
الاُولی: أنّ العلل الشرعیّة کالعلل التکوینیّة فی أنّه کما لا یمکن أن یکون لعلّة واحدة معلولات متعدّدة فی التکوینیّات کذلک فی التشریعیّات، وفرّع علیها أنّ الأمر للمرّة لا للتکرار، وأنّه للفور؛ لعدم تخلّف المعلول عن العلّة فی التکوینیّات فکذلک فی التشریعیّات، وأنّه لا یجوز تداخل الأسباب الشرعیّة؛ لاستحالة تأثیر علل متعدّدة تامّة فی معلول واحد.
الثانیة: أنّ الأوامر متعلِّقة بالطبائع المطلقة، لا بصرف الوجود.
الثالثة: أنّ القیود علی قسمین: قسم یمکن أخذه فی متعلّق الأمر، کالطهارة فی الصلاة، والعدالة والإیمان فی الرقبة، وقسم لا یمکن أخذه فیه وتقییده به، کالإیصال فی المقدّمة الموصلة، فإنَّ الإیصال من لوازم ذات المقدّمة الموصلة، ولا تقبل تقیّدها به، فهی لا مطلقة؛ للضیق الذاتی فیها، ولا مقیّدة؛ لعدم تقییدها فی اللّفظ بالإیصال، وکذلک قید قصد الامتثال والتقرّب ونحوهما، فإنّ الأوامر وإن کانت مطلقة فی اللّفظ، ولم تکن مقیّدة بها، لکنّها متقیّدة بها فی نفس الأمر، فلها ضیق ذاتی فی الواقع، فهی لا مطلقة ولا مقیّدة، وحینئذٍ فلا إطلاق حتّی یُتمسّک به فی المقام، فإذا ورد أمر وشکّ فی أنّه تعبّدی أو توصّلی فلا یقع التمسّک بالإطلاق والحکم بالتوصّلیّة، بل الأصل هو التعبّدیّة انتهی.
وفیه: أنّ ما ذکره قدس سره من أنّ الأوامر الشرعیّة کالأوامر التکوینیّة، وقیاسها بها ممنوع جدّاً فإنّه لا اسم ولا رسم ولا أثر للمعلول فی الوجود فی التکوینیات قبل وجود علّته، فوجود المعلول إنّما هو لأجل علّیّة العلّة له، بخلافه فی التشریعیّات.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 266
وأمّا تفریع المسائل المذکورة علیه فلا یخفی ما فیه؛ لأنّ تخلّف المأمور عن امتثال الأوامر فی التشریعیّات أکثر من أن یُحصی، بخلاف التکوینیّات، ولما عرفت من أن الأمر لیس فیه محرّکیّة حقیقة.
وأمّا تفریع عدم تداخل الأسباب فی التشریعیّات فهو علی تقدیر تسلیمه ـ کما سیجیء التحقیق فیه ـ لأجل امتناع الأمر بشیء واحد مرّتین أو أزید إلاّ تأکیداً، کما اعترف هو قدس سره به فی المقدّمة الثانیة من تعلّق الأمر بالطبیعة ـ لا بصِرف الوجود ـ واستحالةِ تعلّق الإرادة به کذلک وکذلک الحبّ والشوق لا لأنّ العلل الشّرعیّة کالعلل التکوینیّة.
وأمّا المقدّمة الثالثة : فهی أیضاً ممنوعة لأنّه إذا فُرض تعلّق الأمر بشیءٍ، کقوله: «صلّ» فعند التحلیل هنا ثلاثة أشیاء: المادّة؛ أی مادّة الصلاة فی المثال، وهی الطبیعة المأمور بها، والهیئة؛ أی هیئة الأمر، ومفادها لیس إلاّ البعث إلی الطبیعة، وتعلّق الهیئة بالمادّة، وشیء منها لا یدلّ علی الضیق الذاتی الواقعی الذی ادّعاه، فإذا أمر المولی بشیء فلیس فیه إلاّ البعث إلی المادّة المطلقة، والتقیید بالقید المذکور یحتاج إلی مؤنة زائدة، بل مقتضی القیاس إلی العلل التکوینیّة أیضاً ذلک فإنّ النار علّة لإحراق الحطب ـ مثلاً ـ فلفظ النار تدلّ علی ذاتها فی قولنا: «النار محرقة»، والإحراق فی مرتبة ذاته لیس فیه قید، فالقید یحتاج إلی بیان زائد وبعد تعلّق الأمر بالمادّة یُنتزع منه مفهوم الأمر والمأمور والمأمور به، فأین الضیق الذاتی الذی ادّعاه قدس سره؟!
فتحصّل من جمیع ما ذکرنا: أنّه لا مانع من التمسّک بالإطلاق عند الشکّ فی التوصّلیّة والتعبّدیّة فی الأوامر الشرعیّة إذا کان الأمر فی مقام البیان، ثمّ علی فرض عدم صحّة التمسّک فی المقام بالإطلاق اللّفظی أمکن التمسّک بالإطلاق المقامی.
ولو فرض عدم صحة التمسّک به أیضاً، فهل هناک أصل عملی یقتضی وجوب الإتیان بالقید أو عدمه؟
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 267
فنقول: هذه المسألة متفرّعة علی مسألة الشکّ فی الأقلّ والأکثر الارتباطیّین: فإن قلنا هناک بجریان أصل البراءة فیها فکذلک هاهنا، کما هو الحقّ، وسیجیء بیانه. وإن قلنا هناک بالاشتغال فکذلک هاهنا.
قال فی «الکفایة»: لا مجال هاهنا إلاّ لأصالة الاشتغال، وإن قلنا بأصالة البراءة فی الأقلّ والأکثر.
وحاصل ما أفاده فی بیانه: هو أنّه لمّا کان للمأمور به مفهوم مبیَّن عندنا وجب الإتیان بکلّ ما یُحتمل دخله فی المأمور به تحقّق الامتثال؛ لیحصل العلم بسقوط الغرض الذی هو علّة للإرادة والإرادة علّة للأمر، فلا یعلم بسقوط التکلیف وحصول الامتثال بدون ذلک، بخلاف مسألة الأقلّ والأکثر، فإنّ متعلّق الأمر فیها مردّد بین الأقلّ والأکثر، فیُؤخذ بالأقلّ، ویُنفی الأکثر بالأصل.
نعم یمکن أن یقال: إنّه کلّما یحتمل دخله بدواً فی تحقّق الامتثال، وکان ممّا تغفل عنه العامّة غالباً، کان علی الآمر بیانه ونصبُ قرینة علی دخله واقعاً، وإلاّ لأخلّ بما هو همّه وغرضه، وإذا لم ینصب علی دخله قرینة کشف عن عدم دخله، وذلک کقصد الوجه والتمییز انتهی.
لکن لا یخفی ما فیه: فإنّ مقتضی ما ذکره عدم جریان البراءة فی مسألة الأقلّ والأکثر الارتباطیّین أیضاً؛ لأنّا نعلم فیها بوجود التکلیف وثبوت غرضٍ للمولی، ولا یحصل العلم بحصول الغرض وسقوط التکلیف بالإتیان بالأقلّ، فعلی ما ذکره لابدّ من الإتیان بالأکثر، ولا فرق فیما ذکره بین ما نحن فیه وبین مسألة الأقلّ والأکثر، بل ما نحن فیه عین مسألة الأقلّ والأکثر.
والتحقیق: جریان البراءة العقلیّة فیهما؛ لأنّه إذا اُمر بالصلاة ـ مثلاً ـ وشُکّ فی أنّ المطلوب هو طبیعة الصلاة، أو هی مع قید آخر، ولم یبیّن الشارع وجوب القید، یحکم
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 268
العقل بأنّ الواجب هو الطبیعة، والعقاب علی الزائد عنها عقاب بلا بیان؛ لعدم قیام الحجّة علیه، فإن اُرید بسقوط الأمر هو عدم وجوب متعلّق الأمر ثانیاً، فما نحن فیه أیضاً کذلک وإن اُرید به معنیً آخر فلابدّ من بیانه حتّی ننظر فیه.
ثمّ إنّه لو فرض عدم جریان البراءة العقلیّة فهل یجری فیه البراءة الشرعیّة أو لا ؟ فهنا مباحث:
الأوّل: إذا فُرض إمکان أخذ قصد الأمر فی متعلّقه فهل تجری البراءة الشرعیّة لو شُکّ فیه أو لا؟
الثانی: لو فرض عدم إمکان أخذه فی الأمر الأوّل، لکن أمکن أخذه بأمرٍ ثانٍ فهل تجری فیه البراءة النقلیّة لو شکّ فیه أو لا؟
الثالث: لو فرض عدم إمکان أخذه فیه لا فی الأمر الأوّل ولا بالأمر الثانی، فهل تجری البراءة لو شکّ فیه أو لا؟
أمّا علی الأوّل: فقد یقال إنّها لا تجری فیه؛ لأنّ ملاک جریان البراءة النقلیّة: هو ما لو کان المشکوک بحیث لو لم ینبِّه علیه المولی لأخلّ بغرضه وکان ناقضاً له، وما نحن فیه لیس کذلک؛ لأنّ القید المذکور علی فرض کونه مُراداً للمولی واقعاً، فعدم تنبیهه علیه لا یوجب الإخلال بفرضه؛ لکفایة حکم العقل بلزوم الإتیان به فی صورة الشکّ، فلا یلزم من عدم البیان نقضه لغرضه، ولیس المُدّعی أنّ حکمَ العقل بلزوم الاحتیاط بیان ینتفی معه موضوع البراءة النقلیّة؛ لیلزم الدَّور، بل المُدّعی قصور دلیل البراءة النقلیّة عن شمول مثل هذا المورد وانصرافه عنه.
والجواب: أنّ مورد البراءة ومجراها هو مثل هذا المقام؛ لأنّ المفروض أنّ الشارع قد حکم بالبراءة فی مورد الشکّ، فإن لم یکن المشکوک واجباً واقعاً فلا کلام، وإن کان واجباً فی الواقع فالحکم بالبراءة توسعة من الشارع، وتسهیل منه للمکلّفین
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 269
عند الشکّ فی وجوب شیء.
بل یمکن أن یُعکس الأمر؛ بأن یقال بجریان البراءة العقلیّة فی المقام، ومعه لا تصل النوبة إلی البراءة الشرعیّة، فإنّها لیست حکماً شرعیّاً، بل إرشاد إلی ما حکم به العقل.
وأمّا علی الثانی: فیمکن أن یقال بعدم جریان البراءة النقلیّة لنفی القید بأمرٍ ثانٍ لو شکّ فیه؛ وذلک لأنّ البراءة الشرعیّة فیه لا تُثبت أنّ متعلّق الأمر الأوّل هو تمام المطلوب والمأمور به إلاّ علی القول بالأصل المثبت؛ ضرورة أنّ نفیَ الوجوب المستفاد من متمّم الجعل، وإثباتَ أنّ الباقی وافٍ بالغرض المطلوب بأصالة البراءة، من أظهر مصادیق الاُصول المثبتة، بخلاف ما لو قلنا بإمکان أخذ القید فی الأمر الأوّل، فإنّه علیه یرجع الشکّ إلی الشکّ فی انبساط الأمر علی الجزء أو القید المشکوک دخلُهُ فی التکلیف، فمع جریان البراءة فیه والحکم بعدم انبساط الأمر علیه یُحکم بعدم وجوبه، ویُفهم منه عرفاً أنّ الباقی هو تمام المطلوب والمأمور به ولیس ذلک من المثبت لخفاء الواسطة وعدم توجّه العرف الیها.
وفیه أوّلاً: أنّا لا نحتاج إلی إثبات أنّ الباقی هو تمام المأمور به الذی هو متعلّق الأمر الأوّل، بل نقول: إنّا نعلم أنّ الأمر الأوّل تعلّق بهذه الأجزاء العشرة ـ مثلاً ـ ونشکّ فی أنّ هنا أمراً آخر یدلّ علی تقیید متعلّق الأمر الأوّل بقید أو لا، فالشکّ إنّما هو فی شرطیّة الجزء الحادی عشر أو شطریته، فیؤخذ بالمعلوم الذی تعلّق الأمر به، وهو الأجزاء العَشَرة، ویُنفی الزائد بالأصل، ویکفی فی الامتثال وسقوط الأمر وحصول الغرض، الإتیانُ بمتعلّق الأمر الأوّل ولا نحتاج إلی إثبات أنّه تمام المطلوب.
وثانیاً: لا فرق فیما ذکر بین ما إذا شکّ فی ثبوت القید بالأمر الأوّل أو بأمرٍ ثانٍ، ولا وجه للتفصیل الذی ذکره فإن کانت البراءة جاریة فی الأوّل لخفاء الواسطة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 270
فکذلک فی الثانی لذلک فإنّ الأمر الثانی أیضاً ناظر إلی الأمر الأوّل، ولیس جعلاً مستقلاًّ، بل متمّم للجعل، وإن لم تکن جاریة ففی کلتا الصورتین کذلک.
وأمّا علی الثالث: فقد یقال فی وجه عدم جریانها علیه أیضاً: إنّه إذا فرض عدم إمکان أخذ القید المذکور بأحد النحوین، فلیس دخله شرعیّاً حینئذٍ بل عقلی، ولابدّ فی جریان البراءة الشرعیّة قابلیّة المرفوع للوضع والرفع شرعاً؛ لیمکن تناول ید الجعل والرفع الشرعیّین من الشارع بما هو شارع له، فإنّ الشارع بما هو شارع لا یتصرّف فی الاُمور العقلیّة والتکوینیّة، والفرض أنّ ما نحن فیه کذلک، وأمّا رفع الشرطیّة والجزئیّة فهو وإن کان بمکان من الإمکان، لکن لا تجری البراءة النقلیّة فیهما فیما نحن فیه أیضاً للعلم فیه بثبوت الأمر العقلی.
وفیه: أنّه لو فوّضنا عدم إمکان أخذ القید شرعاً فی متعلّق الأمر؛ لا بالأمر الأوّل، ولا بالأمر الثانی تبعاً، لکن للشارع أن یجعله بجعل مستقلّ، وهذا ممّا لا إشکال فیه، فمع الشکّ فیه یرفع بدلیل الرفع والتوسعة.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 271