المطلب الأوّل فی الأوامر وفیه فصول

الفصل السابع فی أنّ صیغة الأمر هل هی موضوعة للوجوب، أو الاستحباب، أو لمطلق الطلب؟

الفصل السابع فی أنّ صیغة الأمر هل هی موضوعة للوجوب، أو الاستحباب، أو لمطلق الطلب؟

أقوال‏: ولابدّ أوّلاً من التعرّض لبیان معنی الوجوب والاستحباب، ثمّ تحقیق‏‎ ‎‏ما هو الحقّ فی المقام، فنقول: الأفعال مختلفة من حیث اختلافها فی الاشتمال علی‏‎ ‎‏المصالح المختلفة؛ لأنّ المصلحة الکامنة فی الفعل: إمّا ملزمة أو غیر ملزمة، ومراتب‏‎ ‎‏الملزمة أیضاً مختلفة قد تبلغ إلی النهایة، فتُحرِّک العضلات بنحو الفور والسرعة نحو‏‎ ‎‏الفعل؛ بحیث ربما یوقع ویجعل نفسه فی معرض المهالک؛ لإیجاد ذلک الفعل کإنقاذ ولده‏‎ ‎‏الشفیق علیه من الحرْق والغَرَق ونحو ذلک.‏

هذا فی الإیجاد التکوینی.

‏وأمّا الإیجاد التشریعی: ‏‏یعنی إرادة إیجاد الغیر له فی الخارج لترتّب مصلحة‏‎ ‎‏علیه، فیأمره بإیجاده، وهذا الأمر والبعث أیضاً کسائر الأفعال الصادرة من الإنسان‏‎ ‎‏مسبوق بمبادئ الإرادة من التصوّر والتصدیق بالفائدة وغیرهما، فتتحرّک عضلة‏‎ ‎‏اللسان نحو الأمر والبعث، ولکن هذا البعث لا یوجب انبعاثه، بل یوجب خطور‏‎ ‎‏المأمور به فی ذهن المکلّف المأمور وتصوّره المصلحة والإرادة، فتتحرّک عضلاته نحو‏‎ ‎‏الإتیان بالمأمور به فالانبعاث مسبَّب عن مقدّمات الفعل الاختیاری، لا عن البعث‏‎ ‎‏والأمر، ومراتب الانبعاث أیضاً مختلفة بحسب اختلاف مراتب المصلحة الملزمة، أو‏‎ ‎‏بحسب مراتب الخوف فی العبید، والمرتبة العلیا من الانبعاث هی الناشئة عن الخوف‏‎ ‎‏من العقاب، مثل یحیی ‏‏علیه السلام‏‏.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 242
‏ویُعرف تأکّد الطلب وعدمه من لفظ الآمر وتعبیره فی الأمر؛ باقترانه بأدوات‏‎ ‎‏التأکید، أو بیان ما یترتّب علیه من المصالح ونحوه، وتظهر فائدة معرفة ذلک فی‏‎ ‎‏باب التزاحم.‏

وبالجملة: ‏لا فرق بین الأمر وبین سائر الأفعال الصادرة من الإنسان فی أنّه‏‎ ‎‏مسبوق بالإرادة ومبادئها. وللإرادة أیضاً مراتب مختلفة قوّة وضعفاً بالوجدان بحسب‏‎ ‎‏اختلاف المصالح المترتّبة علی المراد، کما فی أمر الولد بترک ما یوجب هلاکه، فإنّ‏‎ ‎‏الإرادة فیه آکد من الأمر بفعل یترتّب علیه نفع لا یعتدّ به.‏

وانقدح بذلک: ‏ما فی کلام المیرزا النائینی ‏‏قدس سره‏‏: من أنّ الشوق إذا بلغ حدّ‏‎ ‎‏الکمال فهو عین الإرادة، لا یختلف شدّة وضعفاً، وإذا لم یبلغ حدّاً یکون مبدأ الفعل‏‎ ‎‏فهو غیر الإرادة.‏

فإنّ فیه أوّلاً: ‏أنّه خلاف ما یشهد به الوجدان؛ إذ ربّما یرید الإنسان فعلاً‏‎ ‎‏لا اشتیاق له فیه أصلاً.‏

وثانیاً: ‏أنّک قد عرفت سابقاً أنّ الاشتیاق وإن بلغ حدّ الکمال فهو غیر الإرادة،‏‎ ‎‏بل هو من مبادئها، بل قد لا یتحقّق شوق فی بعض الأفعال الاختیاریة.‏

وثالثاً: ‏علی فرض الإغماض عن ذلک لا نُسلّم عدم اختلاف مراتبه إذا بلغ حدّ‏‎ ‎‏الکمال؛ لأنّ المفروض عنده أنّه عین الإرادة، وهی مختلفة قوّة وضعفاً.‏

وانقدح أیضاً: ‏ما فی کلام المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏: من أنّ اختلاف الإرادة قوّة وضعفاً‏‎ ‎‏إنّما یصح فی الإرادة التشریعیة لا فی التکوینیة.‏

إذا عرفت هذا فنقول: ‏لابدّ من البحث فی أنّه هل للأمر ظهور لفظی فی‏‎ ‎‏الوجوب ـ أی البعث المسبوق بالإرادة الأکیدة ظهوراً مسبَّباً عن الوضع أو‏‎ ‎‏الانصراف ـ أو أنّه لیس له ظهور فیه أصلاً؛ لا وضعاً، ولا انصرافاً؟ وعلی الثانی: هل‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 243
‏یجب حمله علی الوجوب لأجل مقدّمات الحکمة أو لا؟ وعلی الثانی هل هو کاشف‏‎ ‎‏ـ عند العرف والعقلاء ـ عن إرادة حتمیّة أکیدة أو لا؟ وعلی الثانی هل هو محمول عند‏‎ ‎‏العرف والعقلاء علی الوجوب من جهة اُخری أو لا؟‏

‏فهذه جهات لابدّ أن یبحث عنها فی هذا المقام.‏

‏أمّا دعوی أنّ الأمر موضوع للبعث الحقیقی، لا لمفهومه الکلّی ـ لما عرفت أنّ‏‎ ‎‏الموضوع له فی الهیئات خاصّ ـ فإن اُرید من ذلک أنّ لفظه موضوع البعث بالحمل‏‎ ‎‏الشائع مقیَّداً بأنّه عن إرادة حتمیّة، فهو غیر معقول؛ لتأخّر مصداق البعث عن‏‎ ‎‏استعمال صیغة الأمر بتحریک جارحة اللسان، وهو متأخّر عن تحریک أوتار‏‎ ‎‏الحُلقوم التی بها ینقبض الحُلقوم وینبسط، وهو متأخّر عن الإرادة، فالإرادة متقدّمة‏‎ ‎‏ذاتاً علی البعث بالحمل الشائع بمراتب، فکیف یجعل البعث المقیَّد بها هو الموضوع له‏‎ ‎‏لصیغة الأمر؟! ولا ریب فی استحالته لامتناع وقوع المتقدِّم ذاتاً ورتبة فی عرض‏‎ ‎‏المتأخّر عنه کذلک.‏

‏وإن اُرید أنّه موضوع لجامع عرضی بین أفراد البعث المسبوق بالإرادة‏‎ ‎‏الأکیدة فی قبال أفراد البعث المسبوق بالإرادة الغیر الأکیدة ـ وإنّما قلنا بالجامع‏‎ ‎‏العرضی لعدم الجامع المقولی الذاتی ـ فهو وإن کان ممکناً لکن المتبادر منه خلافه‏‎ ‎‏فلیس هو الموضوع له أیضاً.‏

‏وأمّا دعوی انصراف صیغة الأمر إلی الطلب المسبوق بالإرادة الأکیدة‏‎ ‎‏فمنشؤها: إمّا الأکملیّة؛ بدعوی أکملیّة البعث الحقیقی المسبوق بالإرادة الأکیدة من‏‎ ‎‏غیره من أفراد البعث، فینصرف إلیه إطلاق الأمر. ففیها: أنّ مجرّد الأکملیّة لا تصلح‏‎ ‎‏لذلک ولا توجب الانصراف.‏

‏أو اُنس الذهن الحاصل من کثرة الاستعمال.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 244
ففیه:‏ أنّ استعمال صیغة الأمر فی الطلب الندبی ـ أیضاً ـ کثیر شائع فی الأخبار،‏‎ ‎‏کما أفاده صاحب «المعالم»، وعلی فرض أکثریة استعمالها فی الوجوب فمطلق الأکثریّة‏‎ ‎‏لا تکفی للانصراف، بل لابدّ من کثرة بالغة حدّاً یُعدّ غیره نادراً للغایة؛ بحیث یُعدّ‏‎ ‎‏کالمعدوم، وما نحن فیه لیس کذلک؛ لما عرفت من شیوع استعمالها فی الندب.‏

والحاصل: ‏أنّه لا ظهور لفظیّاً لهیئة صیغة الأمر فی الوجوب؛ لا من جهة‏‎ ‎‏الوضع، ولا من جهة الانصراف، وحینئذٍ فلو فرض أنّها موضوعة لمطلق الطلب ـ کما‏‎ ‎‏هو الحقّ ـ فهل لها کاشفیّة عند العقلاء عن الإرادة الحتمیّة نظیر کاشفیة الأمارات عن‏‎ ‎‏الواقع أو لا؟ وجهان: أوجههما الثانی؛ لأنّه لابدّ فی الکاشفیة العقلائیّة من منشأ عقلائی‏‎ ‎‏إمّا ذاتی کالقطع، فإنّ له خصوصیّة ذاتیّة بها یکشف عن الواقع، أو غیر ذاتیّة، بل‏‎ ‎‏جعلیّة، ککاشفیّة الأمارات عن الواقع بالجعل؛ لأجل غلبة مطابقتها للواقع بحیث یُعدّ‏‎ ‎‏عدمها فی الندرة کالعدم، وما نحن فیه لیس کذلک؛ لما عرفت من أنّ استعماله فی الندب‏‎ ‎‏أیضاً کثیر شائع.‏

‏وأمّا مقدّمات الحکمة فذکرها المحقّق العراقی علی ما فی التقریرات فی موضعین:‏‎ ‎‏أحدهما فی مقام بیان دلالة مادّة الأمر علی الوجوب، وثانیهما فی مقام بیان دلالة‏‎ ‎‏صیغة الأمر علی الطلب الوجوبی، وذکر فی المقام الأوّل له تقریبین فی جریانها فی‏‎ ‎‏المفهوم، وقال فی المقام الثانی: إنّ البیان الأوّل فی المقام الأوّل لا یجری فیه فی تشخیص‏‎ ‎‏المصداق، وقال فی توضیحه:‏

‏إنّه لو کان لمفهوم الکلام فردان ومصداقان فی الخارج، واستدعی أحدُهما‏‎ ‎‏زیادة مؤنةٍ وبیان دون الآخر؛ حیث یرید المتکلّم أحدهما؛ مثلاً: الإرادة الحتمیّة‏‎ ‎‏الوجوبیّة تفترق عن الإرادة الندبیّة بالشدّة، فما به الامتیاز فیها عین ما به الاشتراک،‏‎ ‎‏وأمّا الإرادة الندبیّة فهی إنّما تفترق عن الوجوبیّة بالضعف، فما به الامتیاز فیها غیر‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 245
‏ما به الاشتراک، فالإرادة الوجوبیّة مطلقة من حیث الوجوب الذی یتحقّق به‏‎ ‎‏الوجوب، بخلاف الإرادة الندبیّة، فإنّها محدودة بحدّ خاصّ به یکون إرادة ندبیة،‏‎ ‎‏وعلیه فإطلاق الکلام فی مقام الدلالة علی الإرادة الخاصّة کافٍ فی الدلالة علی أنّها‏‎ ‎‏وجوبیّة؛ إذ لا حدّ لها یتحقّق به وجوبیّة؛ لیفتقر المتکلّم فی مقام إفادته إلی بیان ذلک‏‎ ‎‏الحدّ؛ لأنّ ما به الاشتراک فی المقام عین ما به الامتیاز، وهذا بخلاف ما لو کانت‏‎ ‎‏الإرادة ندبیّة، فإنّها محدودة بحدّ خاصّ لیس من سنخ المحدود، ولهذا یفتقر المتکلّم فی‏‎ ‎‏مقام بیانه إلی تقیید الکلام بما یدلّ علیه‏‎[1]‎‏ انتهی.‏

أقول: ‏لابدّ أوّلاً من توضیح الکلام فی المقدّمات المذکورة للإطلاق فی باب‏‎ ‎‏المطلق، ثمّ بیان جریانها فیما نحن فیه وعدمه فنقول إذا کان لمفهوم لفظٍ کالرقبة فردان‏‎ ‎‏أحدهما مؤمنة والاُخری کافرة فإذا قیل: «اعتق رقبة» فهنا شیئان:‏

أحدهما: ‏فعل اختیاری للمتکلّم، وهو جعل لفظ «الرقبة» موضوعاً للحکم‏‎ ‎‏ومحکوماً علیه.‏

وثانیهما : ‏ما لیس باختیاره وإرادته، وهو دلالته علی معناه الموضوع له، فإنّها‏‎ ‎‏تابعة للوضع، فالمتکلّم العاقل المختار لو قال: «اعتق رقبة» ولم یقیّدها بالمؤمنة، ومع‏‎ ‎‏ذلک أراد خصوص المؤمنة، صحّ الاحتجاج علیه من جهة ظهور الفعل فی الإطلاق،‏‎ ‎‏لا من جهة وضع اللّفظ للرقبة بقول مطلق، بل للحکم علیها بوجوب الإعتاق من‏‎ ‎‏جهة أنّه فعل اختیاری من الأفعال ظاهر فی وجوب عتق مطلق الرقبة؛ لأنّ جعل‏‎ ‎‏الرقبة بنحو الإطلاق موضوعاً للحکم وإرادة المقیّد، یُنافی الحکمة، فمقتضی تلک‏‎ ‎‏المقدّمات فیما نحن فیه ـ علی فرض جریانها ـ هو حمل الصیغة علی مطلق الطلب؛ لأنّ‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 246
‏لمفهوم الطلب فردین: أحدهما الوجوبی، والآخر الندبی، کما فی الرقبة، فلو اُطلق لفظ‏‎ ‎‏الأمر واُرید به المقیَّد ـ أی الوجوبی فقط، أو الندبی ـ بدون ذکر القید صحّ الاحتجاج‏‎ ‎‏علیه، فمقتضی إطلاق الأمر ومقدّمات الحکمة فی المقام هو الحمل علی مطلق الطلب،‏‎ ‎‏لا خصوص الوجوبی أو الندبی هذا أوّلاً.‏

وثانیاً: ‏أنّ هنا اُموراً ثلاثة: أحدها البعث الإلزامی، الثانی البعث الندبی، الثالث‏‎ ‎‏القدر المشترک بینهما، وهو مفهوم الطلب والبعث، والأوّلان من مصادیقه وأفراده،‏‎ ‎‏ولابدّ من امتیاز المفهوم عن المصداق بخصوصیات بها یمتاز کلّ منهما عن الآخر وإلاّ‏‎ ‎‏اتّحد القسم والمَقْسم، ولا شبهة فی أنّ ما یدلّ علی البعث لا دلالة له علی‏‎ ‎‏الخصوصیّات، فکما أنّ ما به الامتیاز فی البعث الندبی عن الآخر غیر ما به الاشتراک،‏‎ ‎‏وهو الخصوصیّة الکامنة فیه، کذلک ما به الامتیاز فی البعث الإلزامی غیر ما به‏‎ ‎‏الاشتراک، وکما أنّ إرادة البعث الندبی من إطلاق الأمر تُنافی الحکمة، کذلک إرادة‏‎ ‎‏البعث الإلزامی، فلابدّ فی إرادة کلٍّ منهما من التقیید وإلاّ فإطلاق الهیئة لا یدلّ علی‏‎ ‎‏أزید من القدر المشترک ـ أی مطلق البعث والطلب ـ فالبعث الإلزامی لیس أخفّ مؤنة‏‎ ‎‏فی مقام الإفادة عن البعث الندبی.‏

وثالثاً: ‏ما ذکره ـ من أنّ ما به الاشتراک فی البعث الإلزامی عین ما به الامتیاز ـ‏‎ ‎‏لا یفید شیئاً فی المقام أصلاً؛ لأنّه فی الحقائق الخارجیّة البسیطة التی لها مراتب‏‎ ‎‏کالوجود؛ حیث إنّه حقیقة واحدة ذات مراتب مختلفة فی الکمال والنقص وغیرهما‏‎ ‎‏لا جنس له ولا فصل، فما به الامتیاز فی جمیع مراتبه عین ما به الاشتراک، وإنّما‏‎ ‎‏یتمیّز ما به الامتیاز عمّا به الاشتراک فیما له جنس وفصل، ومع ذلک لو اُرید منه‏‎ ‎‏مرتبة خاصّة ـ فی مقام التفهیم والتفهّم ـ لابدّ من التقیید بما یدلّ علیه کالوجود‏‎ ‎‏الکامل أو الناقص، ولیس مدلول القید جزء مفهومه؛ لأنّ المفروض أنّه بسیط لا جزء‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 247
‏له. وأمّا المفاهیم فما به الامتیاز فیها غیر ما به الاشتراک دائماً، وکما فیما نحن فیه،‏‎ ‎‏فما به الامتیاز فی الإرادات المتعدّدة ـ المختلفة من حیث القوّة والضعف والإلزام‏‎ ‎‏وغیره ـ غیر ما به الاشتراک.‏

‏ثمّ إنّ مرجع الوجه الأوّل ـ الذی ذکره ‏‏قدس سره‏‏ لبیان جریان مقدّمات الحکمة فی‏‎ ‎‏مادّة الأمر ـ إلی ما أفاده لبیان جریانها فی هیئته، إلاّ أنّها هناک فی المفهوم، وهنا‏‎ ‎‏فی تشخیص المصداق.‏

‏وأمّا ما ذکره فی الوجه الثانی فی بیان جریانها فی مادّة الأمر، فمحصّله: أنّه‏‎ ‎‏لمّا کان المقصود من الأمر هو إیجاد الفعل فی الخارج، فالطلب التامّ هو الطلب الإلزامی‏‎ ‎‏فقط؛ لترتّب الثواب علی فعله والعقاب علی ترکه، وأمّا الطلب الغیر الإلزامی فهو‏‎ ‎‏طلب محدود ناقص؛ لعدم ترتّب العقاب علی مخالفته، فلا یُنافی إطلاق الأمر‏‎ ‎‏وإرادة الطلب الإلزامی للحکمة ولا قصور فیه فی البیان، بخلاف الطلب الغیر‏‎ ‎‏الإلزامی، فإنّ إطلاق الأمر قاصر عن إفادته، فإطلاقه وإرادته یُنافی الحکمة، بل لابدّ‏‎ ‎‏من التقیید بما یفیده‏‎[2]‎‏ انتهی.‏

‏ولا یخفی ما فی هذا الوجه؛ لما عرفت من أنّ نسبة مفهوم الطلب والبعث إلی‏‎ ‎‏الطلب الإلزامی والغیر الإلزامی علی السواء، وهی نسبة المفهوم إلی المصداق، وأنّه‏‎ ‎‏لابدّ فی کلٍّ منهما من خصوصیّة بها یمتاز کلّ واحد عن الآخر وإرادة کلّ واحد منهما‏‎ ‎‏تحتاج إلی قید وبیان الخصوصیّة، وإلاّ فالمادّة لا تدلّ إلاّ علی المفهوم؛ أی مفهوم‏‎ ‎‏الطلب الذی هو مقسم لهما.‏

فتحصّل من جمیع ما ذکرناه: ‏عدم استفادة الوجوب من مقدّمات الحکمة.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 248
ومع ذلک کلّه فالحقّ: ‏أنّ صیغة الأمر للوجوب؛ لا لأجل وضعها لذلک،‏‎ ‎‏ولا لأجل الانصراف المذکور، ولا لمقدّمات الحکمة، ولا لما أفاده فی «الدّرر» ـ من أنّه‏‎ ‎‏کما یدلّ لفظ «کلّ» علی الاستغراق فی مدخوله من دون افتقار إلی مقدّمات‏‎ ‎‏الحکمة، فکذلک ما نحن فیه یحمل الطلب علی الوجوبی عند العرف من دون احتیاجه‏‎ ‎‏إلی جریان مقدّمات الحکمة‏‎[3]‎‏ انتهی ـ إذا ما ذکره من دلالة لفظ «کلّ» علی‏‎ ‎‏الاستغراق فی مدخوله صحیح، لکنّه إنّما هو لأجل أنّ لفظ «کلّ» موضوع لذلک،‏‎ ‎‏بخلاف ما نحن فیه؛ لأنّ المفروض أنّ صیغة الأمر لیست موضوعة للطلب الوجوبی‏‎ ‎‏فقط، فالقیاس فی غیر محلّه.‏

‏ولا لما أفاده المحقّق القمّی فی «القوانین» ـ من أنّ البعث الحقیقی هو الإلزامی‏‎ ‎‏فقط لا غیر؛ لترتّب الثواب علی فعله والعقاب علی ترکه، وأنّ الأمر غیر راضٍ بترکه،‏‎ ‎‏وأمّا الندبی فلیس بأمر فی الحقیقة، وحینئذٍ فإذا اُطلق الأمر فلابدّ من حمله علی‏‎ ‎‏الحقیقی؛ أی الإلزامی‏‎[4]‎‏. انتهی ـ لما نراه بالعیان والوجدان أنّ الأمر علی قسمین:‏‎ ‎‏إلزامی وغیر إلزامی، یصدق علی کلّ واحد منهما أنّه أمر حقیقةً، فالأمر الندبی أیضاً‏‎ ‎‏أمر حقیقة، وما ذکر ‏‏قدس سره‏‏ مجرّد دعوی لا شاهد لها.‏

‏بل الوجه فی حمل الأمر علی الوجوب: هو قیام الحجّة للمولی علی العبد بمجرّد‏‎ ‎‏الأمر وافتقاره إلی الجواب وعدم صحّة الاعتذار فی ترکه باحتماله إرادة الندب؛ إذ‏‎ ‎‏لا ریب فی لزوم إطاعة المولی بامتثال أمره ولو بنحو الإطلاق وتقبیح العرف والعقلاء‏‎ ‎‏التارک للامتثال معتذراً بإطلاق الأمر وعدم دلالته علی الوجوب واحتمال إرادة الندب‏‎ ‎‏فتمام الموضوع لوجوب الموافقة وحرمة المخالفة عندهم هو البعث والأمر کما لو أمر‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 249
‏بالإشارة بالید أو الرأس والعین فإنّه یجب امتثاله عندهم ولا دخل للّفظ فیه.‏

والحاصل: ‏أنّ الأمر موضوع لمجرّد البعث، وأمّا الوجوب فلیس مفهومه‏‎ ‎‏لا وضعاً ولا انصرافاً ولا کشفاً عقلائیّاً، بل وجوب المتابعة والموافقة مع إطلاق الأمر‏‎ ‎‏حکم عقلائی تمام موضوعه هو الأمر.‏

هذا کلّه فی الجُمَل الانشائیّة.

‏وأمّا الجُمل الإخباریّة الصادرة فی مقام الإنشاء، نحو ‏(یُعید الصلاة)‏ ونحوه،‏‎ ‎‏فلا فرق بینها وبین الجُمَل الإنشائیّة فیما ذکرناه، لکنّ الکلام إنّما هو فی أنّ استعمالها فی‏‎ ‎‏مقام الإنشاء هل هو بنحو المجاز فی الکلمة، أو بنحو الحقیقة الادّعائیة، أو لا؟‏

فنقول: ‏لا شبهة فی أنّه لیس بنحو المجاز فی الکلمة، بل عرفت سابقاً أنّ الأمر‏‎ ‎‏فی جمیع المجازات کذلک؛ أی لیس بنحو المجاز فی الکلمة، بل بنحو الادّعاء، واستعمال‏‎ ‎‏الجُمَل الخبریّة فی مقام الإنشاء متعارف بین العرف والعقلاء، بل الطلب والبعث بها‏‎ ‎‏آکد من البعث بالجمل الإنشائیّة؛ لما فیه من الدلالة أو الإشارة إلی أنّ المخاطب المکلّف‏‎ ‎‏عالم بأنّه لابدّ من الإتیان بالفعل، وأنّه یفعله من دون افتقار إلی الأمر به.‏

‏وأمّا ما أفاده صاحب «المعالم» ‏‏قدس سره‏‏: من أنّه یستفاد من تضاعیف أحادیثنا‏‎ ‎‏المرویّة عن الأئمّة ‏‏علیهم السلام‏‏ أنّ استعمال صیغة الأمر فی الندب کان شائعاً فی عرفهم؛ بحیث‏‎ ‎‏صار من المجازات الراجحة المساوی احتمالها لاحتمال الحقیقة عند انتفاء المرجّح‏‎ ‎‏الخارجی، فیشکل التعلّق فی إثبات وجوب أمر بمجرّد ورود الأمر به منهم ‏‏علیهم السلام‏‎[5]‎‏.‏

‏فیمکن أن یکون مقصوده هو أنّا نری أنّ استعمال صیغة الأمر فی الندب فی‏‎ ‎‏الأخبار علی نحو استعمالها فی الوجوب من دون نصب قرینة حالیّة أو مقالیّة، غایة‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 250
‏الأمر أنّه یفهم من الخارج وسائر الأخبار إرادة الندب، کما لا یخفی علی من لاحظ‏‎ ‎‏الأخبار الواردة فی مثل صلاة اللیل.‏

وحینئذٍ: ‏فلا یرد علیه ما أورده فی «الکفایة»: من أنّ استعماله فی الندب فی‏‎ ‎‏الأخبار وإن کان کثیراً، إلاّ أنّه مع القرینة الدالّة علیه، وکثرة الاستعمال کذلک لاتوجب‏‎ ‎‏صیرورته مجازاً مشهوراً؛ لیُرجَّح أو یتوقّف علی الخلاف فی المجاز المشهور‏‎[6]‎‏.‏

‏وذلک لأنّ مدّعاه هو استعماله فی الندب علی نحو استعماله فی الوجوب؛ أی من‏‎ ‎‏دون نصب قرینة مقترنة به، وإنّما عُلم إرادته من الخارج.‏

لکن یرد علی صاحب المعالم إشکال آخر: ‏وهو أنّه علی فرض کثرة استعماله فی‏‎ ‎‏الندب أو أکثریّته بالنسبة إلی استعماله فی الوجوب، لا شبهة ـ کما عرفت ـ فی لزوم‏‎ ‎‏الإتیان بالمأمور به بمجرّد صدور الأمر من المولی بنحو الإطلاق بحکم العرف‏‎ ‎‏والعقلاء؛ لتحقّق تمام الموضوع لوجوب الطاعة وامتثاله عندهم وحرمة المخالفة،‏‎ ‎‏فیجب اتّباعه إلاّ أن یثبت خلافه، وکثرة الاستعمال فی الندب لا تُنافی ذلک.‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 251

  • )) بدائع الأفکار (تقریرات العراقی) 1 : 214.
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات العراقی) 1 : 197.
  • )) درر الفوائد : 74 ـ 75.
  • )) قوانین الاُصول 1 : 83 ـ 84.
  • )) معالم الدین : 48 ـ 49.
  • )) اُنظر کفایة الاُصول : 92.