الفصل الخامس فی اتّحاد الطلب والإرادة
اختلفوا فی اتّحاد الطلب والإرادة مفهوماً ومصداقاً وعدمه علی قولین : اختار ثانیهما الأشاعرة، وأوّلهما المعتزلة وأصحابُنا الإمامیّة وهذه المسألة من المسائل الکلامیّة فهی بالإعراض عنها فی المقام أحری، لکن لا بأس بالإشارة الإجمالیّة إلی بیان منشأ هذه المسألة، وما هو السبب فی ظهور الاختلاف فیها، وقبل الشروع فی المقصود لابدّ من تقدیم مقدّمة.
وهی أنّه لا إشکال فی أنّ الآیاتِ والأخبارَ الواردة لبیان الأحکام الشرعیّة المتضمّنة لها، منزّلة علی الفهم العرفی؛ لأنّها مُلقاة إلی العرف والعقلاء من العوامّ وغیرهم، فما هو المستفاد منها عرفاً تُحمل علیه، وإن أدّی إلی ما یخالف حکم العقل؛ مثلاً : الأدلّة الدالّة علی حرمة الدم وأنّه نجس، یراد منها ما یصدق علیه الدم عرفاً، فهو المحکوم بالحرمة والنجاسة دون ما لم یصدق علیه الدم عرفاً وإن صدق علیه عقلاً، کما لو ذهب بالغسل عینه وإن بقی لونه، فإنّه لیس بدم عرفاً، فلیس حراماً ونجساً، لکنّه دم عقلاً؛ لبقاء أجزائه الصغار؛ لاستحالة بقاء اللّون ـ الذی هو عرض ـ بدون معروضه، واستحالة انتقال العرض عن معروضه، فبقاء لونه دلیل عقلاً علی بقاء أجزائه الصغار، لکنّه مع ذلک لیس بحرام ونجس؛ لما عرفت من أنّ الآیات والأخبار منزّلة علی الفهم العُرفی.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 204
وأمّا الآیات والأخبار الواردة فی الأخلاقیّات والمعارف والتوحید، فلا یصحّ تنزیلها علی الفهم العرفی بالتمسّک بظاهرها؛ إذ ربما یؤدّی ذلک إلی فساد الاعتقاد والإلحاد والزندقة، کقوله تعالی : «وَجَاءَ رَبُّکَ وَالْمَلَکُ صَفّاً صَفّاً»، وقوله تعالی : «وَکَلَّمَ اَلله ُ مُوسَی تَکْلِیماً» ونظائرها، فإنّه لا یجوز حملها علی ما هو المفهوم منه عند العوامّ والعرف، مثل المفهوم من قولک : «تکلّم زید» و «جاء عمرو» بل لابدّ من حملها علی ما هو المفهوم منها عقلاً؛ بإعمال الدقّة العقلیّة، کما ورد فی بعض الأخبار : أنّ الآیات النازلة فی أوّل سورة الحدید إنّما هی للمتعمّقین فی آخر الزمان، وهی قوله تعالی : «هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ» إلی آخر الآیات وهکذا الآیات الدالّة علی أنّه تعالی متکلِّم عالم قادر، «وَهُوَ مَعَکُمْ أَیْنَ مَا کُنْتُمْ» ونحوها، فإنّ الأخذ بظاهرها بمفهومه العرفی یؤدّی إلی الإلحاد والکفر.
وأمّا ما ذهب إلیه بعض من أنّ المراد هو الکلام النفسی الحالّ فیه تعالی، أو القائم به، أو إیجاد الکلام والصوت فی الأجسام، أو أنّ کلامه تعالی فعله، فکلّها باطلة؛ لاستلزامها الحدوث والنقص والإمکان بالنسبة إلیه تعالی، ووقوعه تعالی محلاً للحوادث، کالقول بأنّ المراد هو الکلام اللّفظی الصادر منه تعالی القائم به تعالی، فالقول بذلک کلّه یؤدّی إلی فساد العقیدة والإلحاد فی ذاته تعالی.
نعم : الالتزام والاعتقاد بثبوت الأوصاف المذکورة فی الأخبار والآیات له تعالی، بما لها من المعانی الممکنة فی حقّه تعالی وإن عجزت عقولنا وقصرت أفهامنا
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 205
عن درکها فهو، ممّا لا مانع منه.
وظهر من ذلک : فساد ما أجاب به فی «الکفایة» عن الأشاعرة من القول بالکلام النفسی، وقیاس ذاته المقدّسة علی ذوات المخلوقین.
إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ منشأ النزاع والبحث فی هذه المسألة هو الاختلاف فی صفاته تعالی من العالمیة والقادریّة والمُتکلّمیّة وغیرها :
فنفاها المعتزلة، وذهبوا إلی نیابة الذات مناب الصفات؛ لتوهّمهم أنّ إثباتها له تعالی یوجب النقصَ فی ذاته تعالی، ووقوعَه تعالی فی معرض الحوادث المستلزم للإمکان.
وأثبتها له تعالی الأشاعرة علی نحو إثباتها للمخلوقین.
واختار الفلاسفة قولاً وسطاً بین القولین خارجاً عن حدّی الإفراط والتفریط، وهو أنّه تعالی مُتکلّم؛ بمعنی أنّه تعالی یوجد الکلام فی شجر أو حجر ونحوهما.
بل ذهب بعضهم إلی أنّ معنی التکلّم فی غیره تعالی أیضاً هو ذلک.
وافترقت الأشاعرة إلی ثلاث فرق :
فذهب بعضهم : إلی ثبوت الکلام اللّفظی له تعالی : وهو تعالی مع ذلک قدیم.
وأنکر الآخرون قدمه تعالی، والتزموا بأنّه فی معرض الحوادث.
وذهب الأکثرون منهم : إلی أنّ الکلام علی قسمین : لفظی ونفسی، وأنّ الثابت
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 206
له تعالی هو النفسی لا اللّفظی، مع الاعتقاد بقدمه تعالی، والکلام النفسی أیضاً علی قسمین : أحدهما المحکی بالجمل الخبریّة، وثانیهما المحکی بالجمل الإنشائیّة، وهو المعنی بالطلب، وأنّه غیر الإرادة.
واستدلّوا علی ذلک بوجوه :
أحدها : أنّا قد نُخبر بالقضیّة کذباً مع العلم بعدم وقوعها، فیکشف ذلک عن وجود الکلام النفسی.
الثانی : صدور الأوامر الامتحانیة، کالأمر بذبح إبراهیمَ ولدَه مع عدم إرادة وقوع المأمور به وصدوره، وکالأوامر الامتحانیّة من الموالی العرفیة عبیدهم، ولایراد منها وقوع المأمور به، فالطلب فیها موجود دون الإرادة.
وأجاب عنه بعض : تارة بأنّ الطلب هنا لیس حقیقیّاً، بل إنشائی، وهو عین الإرادة فالإرادة فیها أیضاً متحقّقة.
واُخری : بعدم تعلّق الأمر فی الأوامر الامتحانیّة بنفس الفعل بل بمقدّماته، کالإضجاع وتناول المُدیة فی قصّة إبراهیم؛ لغایة تکمیل نفسه بذلک، فإنّ المهمّ والعُمدة فی التأثیر فی ذلک هو الإتیان بمقدّماته بقصد إیجاد أصل الفعل بعد الإتیان بالمقدّمات ففیه کمال المشقّة والکلفة علی النفس، وبالإتیان بالمقدّمات یتحقّق الأثر المطلوب من الأمر، ولا یفتقر إلی أصل الفعل الذی هو ذو المقدّمة.
وثالثة : بأنّا إذا راجعنا أنفسنا ووجداننا لا نجد سوی الإرادة والصفات
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 207
النفسانیّة المعروفة شیئاً آخر یسمّی بالطلب.
وفیه : أنّ عدم الوجدان لا یدلّ علی عدم الوجود؛ إذ ربّما یوجد فی صُقع النفس قویً غیر مُدرَکة لنا، مضافاً إلی أنّه ـ مع الإغماض عن ذلک ـ قیاس ذاته تعالی علی غیره تعالی ـ وأنّ کلّ ما هو کمال لنا فهو کمال أیضاً له تعالی، وأنّ کلّ ما هو نقص بالنسبة إلینا فهو نقص بالنسبة إلیه ـ باطل.
والتحقیق فی المقام : هو أنّ مرجع الصفات الثابتة له تعالی التی هی کمال مطلق، وصفات للوجود بما أنّه موجود أیضاً إلی الوجود، وأمّا ما هی صفة للموجود المحدود لا بما أنّه موجود، فلیست کمالاً مطلقاً، بل هی نقص بالنسبة إلیه تعالی.
فهنا دعویان :
إحداهما : أنّ مرجع ما هو کمال مطلق من الصفات إلی الوجود الصرف، الثابتة للوجود بما أنّه موجود.
وثانیتهما : أنّ الصفات الثابتة للموجود بما أنّه موجود محدود، لیست کمالاً مطلقاً.
وهاتان الدعویان مُبتنیتان علی القول بأصالة الوجود التیهی اُسّ کلّ المعارف، فالکمال الحقیقی هو الوجود المطلق، وکلّ ما کان مرجعه إلیه فهو کمال مطلق، وما لم یرجع إلیه فلا؛ إذ هو ـ حینئذٍ ـ إمّا العدم وإمّا الماهیّة، وهی أمر اعتباری، لیست کمالاً للوجود بما أنّه موجود، فلا یمکن إثبات الصفات التی لا ترجع إلی الوجود له تعالی، إذ هی ـ حینئذٍ ـ إمّا العدم أو الماهیّة، وإثباتها له تعالی نقص لا کمال.
فتحصّل : أنّ الکمال الحقیقی هو الوجود المطلق المجرّد الثابت للوجود بما أنّه موجود، ولیس الثابت فیه غیر المثبت له، بل هو عینه، ومن یُثبِت له تعالی الصفات علی نحو إثباتها لغیره تعالی، فلابدّ أن ینزل الوجود المطلق عن مرتبته إلی حدّ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 208
الجسمیّة متصوّراً بصورةٍ، تعالی الله عن ذلک، وإلاّ فلا یمکن إثبات التکلّم له بمعناه المتصرّم المتدرّج فی الوجود المحتاج إلی الفاعل للتکلّم المتدرّج وإلی الإرادة التدریجیة المستلزمة للحدوث، المستلزم للإمکان تعالی الله عنه علوّاً کبیراً.
وأمّا ما ذهب إلیه الفلاسفة فهو أیضاً فاسد؛ لأنّ إیجاد الکلام والصوت فی الشجرة ونحوها کإیجاده باللسان، یحتاج إلی إرادة جدیدة، فیلزم وقوعه تعالی محلاًّ للحوادث، وهو محال، فلا یمکن إثباته له تعالی.
وبالجملة : لو أمکن إثبات صفة التکلّم ونحوه بمعنیً لطیف دقیق، هو کمال مطلق له تعالی ـ کما ذکرناه ـ فهو، وإلاّ فلا یمکن إثباتها له بالمعانی التی ذکروها له تعالی، بل نسلبها عنه تعالی.
ثمّ إنّ ما أجاب به فی «الکفایة» : عمّا استدلّ به الأشاعرة لمذهبهم من الأوامر الامتحانیة، کما عرفت بیانه : بأنّ کلّ واحد من الطلب والإرادة علی قسمین : حقیقی وإنشائی، إلاّ أنّ المنصرِف إلیه الإطلاق من الإرادة هو الحقیقی منها، والمنصرف إلیه من الطلب هو الإنشائی منه، وهذا لا یوجب تغایرهما، وأنّ الموجود المتحقّق فی الأوامر الامتحانیّة هو الإنشائی منهما دون الحقیقی.
ففیه ما لا یخفی : لوضوح عدم صحّة التقسیم المذکور؛ إذ الإرادة والطلب ینحصران فی الحقیقی، ولا معنی للإنشائی منهما؛ إذ إنشاؤهما عبارة عن اعتبارهما، والاعتباریّات عند العقلاء محصورة، کالبیع والصلح وغیرهما من العناوین الاعتباریّة، ولیس الطلب والإرادة منها، فالتقسیم المذکور نظیر تقسیم الإنسان والحجر إلی الحقیقی والاعتباری.
والعجب منه قدس سره حیث إنّه جمع بین القولین، وجعل النزاع بینهما لفظیّاً؛ حیث قال : ویمکن ممّا حقّقناه أن یقع الصلح بین الطرفین ولم یکن نزاع فی البین؛ بأن
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 209
یکون المراد من حدیث الاتّحاد ما عرفت من العینیّة مفهوماً ووجوداً حقیقیّاً وإنشائیّاً ویکون المراد بالمغایرة والاثنینیّة هو اثنینیّة الإنشائی من الطلب، کما هو کثیراً ما یُراد من إطلاق لفظه، والحقیقی من الإرادة، کما هو المراد غالباً منها، فیرجع النزاع لفظیّاً فافهم انتهی.
فإنّ توهّم التوفیق والصلح بین مذهبی الأشاعرة والمعتزلة ممّا لا سبیل إلیه.
والأولی فی الجواب عن استدلال الأشاعرة أن یقال: إنّه لابدّ من ملاحظة وجه الفرق بین الأوامر الامتحانیة وغیرها، وأنّ الفرق بینهما ذاتی، أو من جهة مقدّمات الإرادة، أو من جهة الدواعی؛ فإنّ کلّ فعل اختیاری صادر من عاقل کالأمر بضرب زید ـ مثلاً ـ فهو مسبوق بمقدّمات ولو بنحو الارتکاز:
إحداها: خطور ذلک فی الذهن وتصوّره.
وثانیها: ملاحظة أنّ فیه مصلحة أو مفسدة ومنفعة أو مضرّة.
وثالثها: اختیاره ما فیه المصلحة وترک ما فیه المفسدة.
ثمّ إن لائم ذلک طبعه وناسب نفسه حصل له الاشتیاق وکلّما کان أکثر ملائمة لنفسه کان الاشتیاق إلیه أشدّ، کشرب الماء بالنسبة إلی من غلبه العطش، ثمّ یحصل إرادة ذلک الفعل، وإن لم یلائم نفسه وطبعه امتنع الاشتیاق إلیه، ومع ذلک قد یختار الفعل، وتتحقق الإرادة؛ لوجود مصلحة فیه، کما فی شرب المریض الدواء المُرّ النافع لمرضه أو قطع یده لدفع سرایة المرض المهلک، ونحو ذلک.
فظهر من ذلک: أنّ الشوق الأکید غیر الإرادة؛ لما عرفت أنّه کثیراً ما یرید الإنسان فعلاً من دون أن یشتاق إلیه، فضلاً عن الأکید منه، کما فی الأمثلة المذکورة، وکلّ واحدة من المقدّمات المذکورة أیضاً غیر الاُخری؛ لأنّها من مقولات مختلفة فالخطور فعل أو انفعال علی خلاف فیه، وکذلک التصدیق بالفائدة والاختیار من
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 210
مقولة الفعل قطعاً، وکلّ واحد من تلک المقدّمات غیر الإرادة أیضاً فما یقال من أنّ الإرادة هو الشوق الأکید مردود؛ لوجهین:
أحدهما: ما عرفت أنّه کثیراً ما تتحقّق الإرادة من دون شوق.
الثانی: أنّ الاشتیاق من مقولة الانفعال للنفس اتّفاقاً والإرادة فعل النفس، والفعل غیر الانفعال.
وإذا تحقّقت مقدّمات الإرادة ومبادئها وجدت الإرادة، فتتحرّک العضلات نحو الفعل، کعضلات الفم واللسان نحو الأمر والبعث.
ومنه یعلم: أنّه لا فرق بین الأوامر الامتحانیّة وغیرها فی ذاتیهما وطبعیهما؛ لأنّ کلّ واحد منهما أمر بالحمل الشائع، ولا فی مبادئ الإرادة من الخطور والتصدیق بالفائدة وغیرها، غایة الأمر أنّ فائدة الأوامر الامتحانیّة هو الامتحان والاختبار أو الإعذار، وفائدة غیرها وجود الفعل فی الخارج، فالداعی للأوامر الامتحانیّة هو الاختبار أو الإعذار، والداعی فی الأوامر الحقیقیّة هو تحقّق الفعل فی الخارج لترتّب مصلحة علیه، والاختلاف فی الداعی لا یوجب الاختلاف بینهما فی حقیقتهما، وإلاّ فهذا الاختلاف موجود فی الأوامر الغیر الامتحانیّة أیضاً؛ فإنّ الداعی للأمر بالأکل غیر الداعی للأمر بالضرب ـ مثلاً ـ وهکذا.
هذا کلّه فی الأوامر الصادرة من الموالی العرفیّة امتحانیّة وغیرها.
وأمّا الأوامر الواردة فی الکتاب المجید الصادرة من الله تعالی أو أوامره التکوینیّة، فلیست کذلک؛ لأنّها غیر مسبوقة بالخطور والتصدیق بالفائدة ونحوها؛ لاستحالة ذلک بالنسبة إلیه تعالی، سواء کانت فعلاً أو انفعالاً.
والأفعالُ الصادرة منّا ـ التی منها الأمر ـ مُعلّلة بأغراض ومنافع راجعة إلی نفس الأمر أو غیره، بخلاف الأفعال والأوامر الصادرة منه تعالی، فإنّها غیر معلّلة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 211
بهذه الأغراض، بل غرضه تعالی نفسه، فحبّه تعالی للغیر لحبّه نفسه وذاته تعالی، فذاته المقدّسة معلولة لفعله، والنتائج المترتّبة علی أفعاله العائدة إلی الغیر من الفوائد، لا من الأغراض والعلل الغائیّة، فإنّ سائر الموجودات لیست شیئاً فی قبال وجوده تعالی، لیس لها استقلال فی الوجود، بل وجود متدلٍّ، ومعنیً حرفی، وصرف الربط، وفانیة فیه تعالی.
فما یتراءی من الاُصولیّین من قولهم: إنّه یحصل الغرض بفعل کذا، ولا یحصل لو لم یفعل، لابدّ وأن یحمل علی الأوامر العرفیّة، وإلاّ فهذا التعبیر بالنسبة إلی أوامره وأفعاله تعالی غیر صحیح، صادرٌ عن غفلة عن استلزامه سلبَ الإرادة عنه تعالی، وهو باطل بالضرورة، بل معنی إرادته إحداثه، وأنّه لا یتخلّل بین إرادته وفعله ما یتخلّل بینهما فی غیره تعالی، کتحریک العضلات نحو الفعل، بل یوجد بمجرّد إرادته.
نعم: إرادة غیره تعالی من سنخ إرادته، إلاّ أنّ إرادة غیره تعالی مرتبة نازلة منها، وکذلک کلام الله المنزل علی قلب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فإنّه لیس بصوت یُسمع ولا لفظ یَقرع، لکن یتنزّل عن مرتبته، حتّی نزل علی قلبه صلی الله علیه و آله وسلم، ویتنزّل حتّی صار لفظا وصوتاً. وهذا أحد معانی تحریف القرآن الذی ورد فی بعض الأخبار أو البطون السبعة أو السبعین.
فتلخّص: أنّ استدلالَ الأشاعرة لتغایر الطلب والإرادة بالأوامر الامتحانیّة، غیرُ صحیح.
واستدلّوا أیضاً: بأنّه لا شبهة فی أنّ الکفّار والعصاة مکلّفون بالتکالیف الشرعیة قطعاً، وحینئذٍ فإمّا أنّ أمره تعالی لهم بها عن إرادة فیلزم تخلّف المراد عنها،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 212
وهو محال، أو لا معها، بل المتحقّق فقط هو الطلب، وهو المطلوب.
وأجاب عنه فی «الکفایة»: بأنّ استحالة تخلّف المراد عن الإرادة إنّما هی من الإرادة التکوینیّة ـ أی العلم بالنظام علی الوجه الأکمل ـ دون الإرادة التشریعیّة، ثمّ أورد علی نفسه إشکالات، وأجاب عنها... إلی أن قال: «قلم اینجا رسید سربشکست».
أقول : لابُدَّ أوّلاً من البحث فی هذا المقام فی أمرین : أحدهما مسألة الجبر والتفویض والأمر بین الأمرین ، الثانی فی بیان الموضوع للثواب والعقاب وما یترتّبان علیه .
أمّا الأوّل: فمسألة الجبر والتفویض من المسائل العقلیّة التی لا اختصاص لها بأفعال العباد، بل هی جاریة فی کلّ علّة ومعلول، وصادرٍ بالنسبة إلی مصدره، وأثرٍ بالنسبة إلی مؤثّره، والمتّبع فیها البرهان القطعی، والآیات والأخبار الظاهرة علی خلافه لابدّ من تأویلها علی ما یوافق البرهان:
فذهب قوم: إلی أنّ الله تعالی خلق العقل الأوّل، وفوّض إلیه الأمر، وأنّ کلّ ما هو علّة فی عالم التحقّق من المجرّدات والمادّیّات، فهو مستقلّ فی التأثیر فالشمس علّة تامّة للإشراق، والنار للإحراق، والإنسان بالنسبة إلی الأفعال الصادرة منه؛ من التعقّل والضرب ونحوهما من الأفعال الظاهریة والباطنیّة؛ من الهضم والجذب والدفع.
وبالجملة: کلّ علّة فهی مستقلّة فی التأثیر، وتامّة لا تحتاج فی تأثیرها إلی ما هو خارج عنها، حتّی أنّهم ذهبوا إلی أنّ الله تعالی لو انعدم ـ والعیاذ بالله ـ لا یوجب الإخلال فی بقاء نظام العالم؛ لأنّه تعالی فاعل العلّة الاُولی من الممکنات، وهو العقل الأوّل لا لإبقائها، کما أنّ البَنّاء علة موجدة للبِناء، لا مُبقیة له، وهو مسلک المفوّضة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 213
لعنهم الله تعالی.
وذهب آخرون: إلی ما یقابل هذا القول، فأنکروا العلّیّة والمعلولیّة والتأثیر والتأثّر الحقیقی فی الممکنات، وأنّ الآثار المترتّبة علی بعض الموجودات هو بمعنی أنّ عادة الله جرت علی إیجادها بعد وجود تلک الموجودات، فعادة الله جاریة بإیجاده الحرارة والإضاءة والإشراق عند وجود النار والشمس، وإلاّ فالنار لیست بمُحرقة، والشمس بمشرقة، وهکذا فی کلّ أثر بالنسبة إلی مؤثّره کالحموضة والحلاوة بالنسبة إلی الخلّ والدبس حتّی أنّهم تفوّهوا بذلک فی النتیجة المترتّبة علی الأقیسة وأنّ عادة الله جرت علی حصول العلم بالنتیجة بعد المقدّمتین وإلاّ فلا فرق بین المقدّمتین وبین قولنا: «ضرب فعل ماض» و «یضرب فعل مضارع» فی عدم علیّة کل منهما لإثبات تلک النتیجة، وکذلک الأفعال الصادرة من الإنسان؛ من الضرب والشتم والتکلّم والاستماع إلی غیر ذلک، فإنّها کلّها منسوبة إلیه تعالی وهو مذهب الجبریّة من الأشاعرة خذلهم الله .
أمّا المذهب الأوّل: فالبرهان بل البراهین القطعیّة العقلیّة قائمة علی خلافه وفساده.
توضیح ذلک: أنّ الاستقلال فی التأثیر الذی تفوّهوا به فی جمیع العلل والمؤثّرات، لا یمکن إلاّ فی شیء یمکنه طرد جمیع الأعدام المتطرّقة إلی أثره ومعلوله، وسدّ باب الأعدام بالنسبة إلیه من کلّ جانب، فإن کنت کذلک فهی مستقلّة فی التأثیر وإیجاد معلولها، وذلک مستحیل فی غیره تعالی؛ لأنّ من طرق عدم المعلول هو عدمه لأجل عدم علّته، والعلّة الممکنة لا تتمکّن من طرد هذا العدم؛ لأنّ معنی الممکن بالذات هو إمکان عدمه، فإذا أمکن عدم العلّة أمکن عدم المعلول، ومع إمکان ذلک وعدم تمکّن العلّة من طرد هذا العدم، فلا معنی لاستقلالها فی التأثیر، فالاستقلال فی التأثیر منحصر فی الواجب تعالی.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 214
وأمّا تفویض الأمر إلی العلّة الاُولی من الممکنات؛ بحیث تتمکّن من طرد جمیع الأعدام المتطرّقة إلی معلولها، فهو أیضاً محال، فإنّ جمیع ما سوی الله من الموجودات الممکنة أظلال غیر مستقلّة وصرف ربط و فقر بالذات، کما لا یخفی علی من لاحظ کیفیّة ارتباط المعلول بالعلّة، فإذا کان غیره تعالی من الموجودات کذلک امتنع انقلابها إلی الغنی بالذات بحیث یصیر مستقلاًّ تامّاً کاملاً «یاأیُّها النّاسُ أنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إلی الله ِ والله ُ هُوَ الغَنیُّ».
والحاصل: أنّ انقلاب الممکن بالذات إلی الغنی بالذات مستحیل، وإلاّ لزم الشرک وتعدّد الواجب بالذات، ولهذا ورد فی بعض الأخبار: أنّ القائل بالتفویض مشرک، وما ذکرناه مبنی علی المذهب المنصور الموافق للتحقیق؛ من القول بأصالة الوجود واعتباریّة الماهیّة، وعلی بساطة الوجود واشتراکه، کما حقّق فی محلّه وأنّ وجود جمیع الممکنات بسیط غیر مرکّب من الهیولی والصورة؛ کی یقال بتبدیل الصورة عند الانقلاب إلی الوجود، فهذا المذهب ضروری البطلان والفساد؛ أی مذهب التفویض.
وأمّا المذهب الآخر: أی الجبر، فهو أیضاً مخالف للبراهین العقلیّة، ولیس المقام محلّ بسط الکلام فیه؛ لخروجه عن البحث الأصلی، لکن نشیر إلیه إجمالاً، فنقول:
قد عرفت: أنّ الموافق للتحقیق هو القول بأصالة الوجود، وأنّه بسیط غیر مرکّب من الجنس والفصل، ولیس من الأنواع ومقولاً بالتشکیک ذا مراتب متفاوتة مختلفة فی النقص والکمال، سواء کان مادّیّاً أم ملکوتیّاً مجرّداً، کلّ ذلک بالبراهین القطعیّة العقلیّة علیها المذکورة فی محلّها، فوجود الأعراض ناقص بالنسبة إلی ما فوقه،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 215
فالمرتبة الناقصة من الوجود متعلّقة ومرتبطة ـ بتمام ذاتها ـ بالمرتبة الکاملة، فوجود المعلول مرتبط ومتعلّق بوجود العلّة بتمام ذاته وحقیقته، والمرتبة الکاملة أیضاً مربوطة بالمرتبة الناقصة وإنّما قلنا بتعلّق المعلول بتمام ذاته بوجود العلّة؛ إذ لو تعلّق ببعض ذاته لا بتمام ذاته لزم ترکیب الوجود من الجنس والفصل، وقد ثبت فی محلّه أنّه بسیط لا ترکّب فیه، فهو متعلّق بتمام ذاته بالعلّة.
وحینئذٍ نقول: لو لم یکن تأثیر وتأثّر فی الممکنات أصلاً، بل عادة الله جرت علی إیجاد شیء عقیب شیء آخر ـ کالحرارة عند وجود النار، والإشراق عند وجود الشمس، وهکذا ـ لزم أن یتعلّق الناقص بتمام ذاته بالکامل وعدم ربط الکامل بالناقص فیلزم انقلاب الناقص إلی الکامل، وهو محال؛ لقیام البرهان العقلی علی امتناع انقلاب مرتبة من الوجود إلی مرتبة اُخری منه، ویلزم ترکّبه أیضاً؛ لاحتیاج الانقلاب إلی المادّة والصورة، ویلزم عدم کونه مقولاً بالتشکیک وذا مراتب متفاوتة فی النقص والکمال، ویلزمه أیضاً القول بأصالة الماهیّة واعتباریّة الوجود.
وکلّ ذلک مخالف للبراهین العقلیّة القطعیّة المذکورة فی محلّها.
وأیضاً لو کانت الأفعال کلّها منسوبة إلیه تعالی ـ بحیث لم یکن لغیره تعالی دخْلٌ فی وجودها أصلاً ـ فمنها الاُمور المتدرّجة المتصرّمة، کالتکلّم ونحوه، وهی تفتقر إلی فاعل متدرّج الوجود، وهو متوقّف علی إرادة متدرّجة، وهی مستلزمة للحدوث فی ذی الإرادة، المستلزم للإمکان، فلابدّ أن یلتزم بانقلاب الأمر المتدرّج إلی القارّ، وهو مُحال، وإمّا بأنّه تعالی محلّ للحوادث، بل إمکانه تعالی، وهو کفر بالله العظیم ـ تعالی الله عمّا یقول الظالمون ـ ولهذا ورد فی بعض الأخبار أنّ القول بالجبر کفر بالله ، أو أنّ القائل به کافر بالله تعالی.
وأیضاً قد ثبت فی محلّه: أنّ الواحد البسیط من جمیع الجهات لا یصدر منه إلاّ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 216
الواحد، وهو أیضاً ممّا قامت علیه البراهین العقلیّة القطعیّة، والمقام هو القدر المتیقَّن من موردها، والقولُ بالجبر واستناد جمیع الأفعال إلیه تعالی بلا واسطة الأسباب یوجب انخرام تلک القاعدة المبرهن علیها.
فتلخّص: أنّ القول بالجبر واستناد الموجودات والأفعال إلیه تعالی بلا واسطة العلل والمعلولات والأسباب، مخالفٌ للبراهین العقلیّة، وینجرّ إلی الکفر بالله تعالی، کما أنّ القول بالتفویض واستقلال الموجودات الممکنة فی التأثیر والإیجاد ممتنع عقلاً، ومخالف للبراهین العقلیّة القطعیّة، وموجب للشرک بالله .
اذا عرفت هذا فاعلم: أنّ هنا قولاً ثالثاً خارج عن طرفی الإفراط والتفریط، وهو القول بالأمر بین الأمرین، یصدق علیه البین حقیقة، وهو القول باستناد کلّ أثر إلی مؤثّره فی الممکنات، کالإحراق إلی النار، والإشراق إلی الشمس، وهکذا، لکن لا مستقلاً، فکما أنّ جمیع الموجودات الممکنة موجودة، لکن لا استقلالاً، ومتّصفة بأوصاف کذلک، کالإرادة والتکلّم والعلم فی الإنسان، کذلک هی مؤثّرة فی آثارها وأفعالها ومعلولاتها، لکن لا بنحو الاستقلال؛ لما مرّ من أنّها صرف الربط والتعلّق ومحض الفقر والاحتیاج، لا استقلال لها أصلاً، فالمفوّضة یقولون: النار محرقة وعلّة تامّة مستقلّة فی الإحراق، وهکذا الإنسان بالنسبة إلی أفعاله الصادرة منه والمجبّرة یقولون: إنّ المؤثّر والموجود للآثار طُرّاً والأفعال قاطبة هو الله تعالی بلا واسطة، وإنّ عادة الله جاریة علی خلق شیء عقیب شیء وإلاّ فلا تأثیر ولا تأثّر للممکنات.
وإنّا نقول: الشمس مشرقة لا مستقلاًّ، والنار محرقة لا مستقلاًّ، والإنسان موجد لأفعاله لکن لا استقلالاً، وهکذا کلّ علّة ممکنة مؤثّرة فی معلولها موجدة لها،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 217
لکن لا استقلالاً، فبقولنا: موجدة ومؤثّرة ننفی قول المجبّرة ومذهبهم، وبقولنا: لا استقلالاً ننفی قول المفوضّة فهذا القول وسط بین القولین، وهو الموافق للبراهین والآیات والروایات، فیصحّ إسناد الآثار الصادرة من الموجودات الممکنة إلیه تعالی بنحو الحقیقة، فإنّه علّة العلل کما یصحّ إسنادها إلی عللها التکوینیّة الممکنة أیضاً بنحو الحقیقة قال الله تعالی: «وَمَا رَمَیْتَ إذْ رَمَیْتَ وَلِکنَّ الله َ رَمی» فالجبری یقول: رمی الله وما رمی النبی صلی الله علیه و آله وسلم والمفوّض یقول : رمی النبی صلی الله علیه و آله وسلم وما رمی الله ، ولکنّا نقول: رمی الله ورمی النبی؛ لقوله تعالی: «إذْ رَمَیْتَ»، کلاهما بنحو الحقیقة، وقال تعالی: «فَإنَّ الله َ یُضِلُّ مَنْ یَشاءُ وَیَهْدِی مَنْ یَشاءُ»، وقال أیضاً «وَمَا تَشاؤُونَ إلاّ أنْ یَشاءَ الله ُ»، فإنّ معناه أنّهم شاؤوا وشاء الله ، فأسند المشیئة إلیهم وإلی ذاته المقدّسة.
وقال: «مَا أصَابَکَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله ِ وَمَا اَصَابَکَ مِنْ سَیِّئةٍ فَمِنْ نَفْسِکَ»، وتوضیح مفاد هذه الآیة وأمثالها یتوقّف علی تقدیم مقدّمة هی:
أنّک قد عرفت: أنّ المتأصِّل فی الکون هو الوجود، ولهذا قلنا: إنّه لابدّ وأن ترجع جمیع الصفات الکمالیّة إلی الوجود، ولا یصدر من حقیقة الوجود أیضاً إلاّ الوجود، إلاّ أنّه وجود محدود ناقص بالنسبة إلی مؤثّره ومبدئه، الذی هو الوجود الصرف الکامل، الذی لا یتطرّق إلیه نقصٌ أصلاً، وأمّا نقص الصادر منه ومحدودیّته فلیس هو من ناحیة المبدأ والمصدر، بل لأجل تأخّره الذاتی عن مرتبة مبدئه، والنقص والحدّ لیسا من الاُمور المُتأصِّلة فی الکون، بل أمر عدمی اعتباری؛ إذ لو کان
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 218
متأصِّلاً ومتعلَّقاً للجعل أوّلاً وبالذات ـ کأصل وجود المعلول ـ لزم أن یکون المتحقّق أصلین وأنّ الواجب تعالی واجد لهما، وإلاّ لزم النقص فی ذاته تعالی، فیلزم الترکّب فی ذاته، المستلزم للإمکان، تعالی الله عن ذلک.
فثبت أنّ الحدّ والنقص فی الصادر لیس متعلّقاً للجعل أوّلاً وبالذات، بل ثانیاً وبالعرض وتبعاً للوجود، وأنّهما من ناحیة ذات المعلول.
ولا بأس بإیراد مثال فی المقام ـ لتقریب المراد إلی الأذهان ـ ذکره بعض الأعاظم قدس سره: وهو أنّه لو جعلت مرآة فی مقابل الشمس، فإشراقها أوّلاً وبالذات إنّما هو فی المرآة، وانعکاس الإشراق من المرآة إلی الجدار ـ مثلاً ـ إنّما هو بالعَرض، فإشراق الشمس فی المرآة إشراق تامّ کامل، لا نقص ولا محدودیّة فیه أصلاً، وأمّا الإشراق من المرآة إلی الجدار فهو ناقص محدود، وهذا الحدّ والنقص لیسا من ناحیة الشمس؛ لأنّ إشراقها الذاتی الأوّلی غیر محدود، بل هو من ناحیة المرآة التی هی الواسطة فی الإشراق فی الجدار، وهذه المحدودیّة والنقص أمر اعتباری عدمی، لا أمر حقیقی؛ بأن یقال: إنّ الصادر من الشمس أمران: الإشراق والنقص، فقالت المفوّضة: إنّ الموجد للإشراق الثانی فی الجدار هی المرآة مستقلّة، وقالت المجبِّرة: إنّه الشمس لیس إلاّ، ونحن نقول: هو المرآة، لکن لا استقلالاً، بل بإشراق الشمس فی المرآة؛ بحیث لولا إشراق الشمس لم یصدر الإشراق الثانی من المرآة، فهی موجدة له بإعانة الشمس.
وهنا أمثلة اُخری کالتمثیل للمقام بقوی النفس وجوارحها.
وبالجملة: إنّ القولین المزبورین فی طرفی الإفراط والتفریط، ومخالفان للبراهین العقلیّة القطعیّة، وإنّ الموافق للبراهین والآیات والأخبار هو القول الثالث، وهو الأمر بین الأمرین.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 219
إذا عرفت ذلک نقول: معنی الآیة الشریفة: هو أنّ «مٰا أَصٰابَکَ مِنْ حَسَنَةٍ»من الخیرات «فَمِنَ الله ِ»؛ لما عرفت من صحّة إسناد جمیع الأفعال الصادرة من الإنسان إلیه تعالی حقیقةً، «وَمٰا أَصٰابَکَ مِنْ سَیِّئَةٍ» أی نقص وحدّ «فَمِنْ نَفْسِکَ»، ولا یصحّ إسناده إلیه تعالی أوّلاً وبالذات، بل المنسوب إلیه تعالی أوّلاً وبالذات هو وجود الإنسان فقط، دون محدودیّته ونقصه، کما أنّ محدودیة إشراق المرآة لایستند إلی الشمس، وإنّما یستند إلیها إشراقها فقط.
وهکذا الکلام فی قوله تعالی فی الحدیث القدسی: (یاابنَ آدم أنا أولی بحسناتک منک، وأنت أولی بسیئاتک منّی) ونظائره الواردة فی الآیات والأخبار.
ثمّ إنّ للأشاعرة شبهات استدلّوا بها لمذهبهم أسدّها وأتقنها عندهم هو: أنّ الأفعال الصادرة من الإنسان لو صدرت بالاختیار، فمعنی الاختیار هو أنّها مسبوقة بالإرادة، وننقل الکلام إلیها، ونقول: إنّها أیضاً من أفعال النفس، فإمّا هی صادرة بلا اختیار فهو المطلوب، ویلزمه عدم اختیاریّة الفعل الخارجی أیضاً له، فإنّ أثر الفعل الغیر الاختیاری أیضاً غیر اختیاری، وإمّا هی صادرة عن اختیار فهو أیضاً مسبوق بالإرادة، وننقل الکلام إلیها.. وهکذا، فإمّا أن ینتهی إلی إرادة غیر اختیاریّة، أو إلی الإرادة الأزلیّة الأبدیّة السرمدیّة، وهو المطلوب، أو یتسلسل، وهو محال.
واُجیبَ عن ذلک بوجوه:
أحدها: ما عن المحقّق الداماد من أنّ التسلسل الذی هو محال هو ترتّب اُمور غیر متناهیة فی الوجود، وما نحن فیه لیس کذلک؛ إذ الإرادة حالة شوقیّة وجدانیّة للنفس، والإراداتُ المترتّبة علی الوجه المذکور من الاُمور الاعتباریّة، فإذا لم یعتبرها
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 220
معتبر، وانقطع الاعتبار، لم توجد، فتنقطع السلسلة بانقطاع الاعتبار انتهی محصّله.
والظاهر أنّ هذا الجواب اقتباس عمّا أجابوا به عن الإشکال الذی أوردوه علی اللاّزم والملزوم، وهو أنّه إمّا أن یکون بین اللاّزم والملزوم لزوم، أو لا. الثانی باطل؛ لأنّه یلزم أن لا یکون اللاّزم لازماً، وهو خلف، وعلی الأوّل فهذا اللزوم أیضاً لازم، فیلزم لزوم آخر. وهکذا، ویتسلسل، ویجری هذا الإشکال بالنسبة إلی الضرورة فی القضیّة الضروریّة.
فأجابوا عن هذا الإشکال: باختیار الشِّقّ الأوّل، لکن لزوم أمر اعتباری لا حقیقی، فینقطع بانقطاع الاعتبار، وهکذا فیما نحن فیه؛ فإنّ الإرادة قد تنسب إلی الفعل الخارجی، وهی حینئذٍ حالة شوقیّة وجدانیّة متحقّقة، وقد تُضاف إلی إرادة اُخری؛ أی إرادة الإرادة، وإرادة إرادة الإرادة. وهکذا، فهی من الاُمور الاعتباریّة المتقوِّمة بالاعتبار، فتترتّب مع الاعتبار، وتنقطع مع انقطاع الاعتبار، فلا یلزم التسلسل.
وفی هذا الجواب نظر:
أمّا أوّلاً: فلما أفاده المحقّق صاحب الحکمة المتعالیة: من أنّ مجموع هذه الإرادات الاعتباریة من حیث المجموع إذا لوحظ، هل هو عن إرادة أو لا؟ فعلی الثانی یلزم الجبر، وعلی الأوّل یتسلسل؛ لأنّ الإرادة السابقة من الأفعال الاختیاریّة للنفس، فلابدّ أن یسبقها إرادة اُخری.
وهذا منه قدس سره، نظیر الجواب عمّا قیل: من جواز أن لا تنتهی سلسلة العلل والمعلولات فی الممکنات أزلاً وأبداً، من دون الاحتیاج إلی موجد لها واجب الوجود.
فقیل فی جوابه: إنّه لا شبهة فی أنّه یمکن للعقل الإحاطة بمجموع تلک العلل
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 221
والمعلولات الغیر المتناهیة الواقعة فی سلسلة الممکنات، فالمجموع: إمّا واجب غنی بالذات عن الغیر فی الوجود، وهو محال؛ لأنّ ضمّ الفقیر بالذات إلی مثله ـ أو ضمّ الممکن إلی مثله ـ لا یوجب أن یصیر المجموع واجباً، أو لیس بواجب، فهو المطلوب.
وثانیاً: قیاس هذا البحث علی البحث فی الملازمة بین اللاّزم والملزوم، فی غیر محلّه؛ لأنّه قیاس الحقائق بالاعتباریّات، فإنّ شبهة الأشاعرة هی: أنّ الإرادة من الاُمور الحقیقیّة ومن الأفعال النفسانیّة، فإمّا أن توجد بلا إرادة واختیار، فهو المطلوب لهم، وإلاّ فلابدّ أن یسبقها إرادة اُخری، وننقل الکلام إلیها.. وهکذا، فإمّا أن یتسلسل، وهو محال، وإمّا أن ینتهی إلی إرادة غیر اختیاریّة، وهو المطلوب لهم.
وأمّا اللزوم بین اللاّزم والملزوم فهو أمر انتزاعی، بل اعتباری لا حقیقة له فی نفس الأمر، ولا وجود له سوی وجود اللاّزم والملزوم، اللذین هما منشأ انتزاعه، فلیس للّزوم بینهما وجود مستقلّ؛ لیرد علیه ما ذکر، بخلاف الإرادة، فإنّها من الحقائق التی لها واقع، فلا وجه لقیاسها بالأمر الاعتباری.
الثانی: ما أجاب به صاحب «الکفایة» فی أوائل مبحث القطع: وهو أنّ الإرادة والاختیار وإن لم تکن بالاختیار، إلاّ أنّ بعض المبادئ للفعل غالباً یکون وجوده بالاختیار؛ للتمکّن من عدمه بالتأمّل فیما یترتّب علی ما عزم علیه من تبعة العقوبة واللوم والمذمّة انتهی.
وفیه أوّلاً: أنّ مرجع ما أفاده قدس سره، هو أنّ الإرادة قد تکون بلا اختیار، وحینئذٍ فالإشکال فی هذه الصورة باقٍ بحاله.
وثانیاً: ننقل الکلام إلی هذا البعض من المبادئ، فنقول: إمّا هو بالاختیار، أو بدونه. فعلی الثانی یثبت مطلوب الأشاعرة؛ لأنّ أثر الأمر الاضطراری أیضاً اضطراری، وعلی الأوّل یلزم التسلسل، فما ذکره قدس سره أیضاً ممّا لا یندفع به الإشکال.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 222
الثالث: ما ذکره فی «الدرر» قال: والدلیل علی أنّ الإرادة قد تتحقّق لمصلحة فی نفسها: هو الوجدان؛ لأنّا نری إمکان أن یقصد الإنسان البقاء فی مکان خاصّ عشرة أیّام؛ بملاحظة أنّ صحّة الصوم وتمامیّة الصلاة تتوقّف علی القصد المذکور، مع العلم بعدم ترتّب هذا الأثر علی نفس البقاء واقعاً انتهی.
وفیه أیضاً: أنّ المسألة عقلیّة، لا عرفیّة عقلائیّة؛ لیرجع فیها إلی حکم العرف والعقلاء والوجدان؛ لأنّا ننقل الکلام إلی القصد المذکور أنّه هل هو بالاختیار أو لا... إلی آخره.
الرابع: ما أفاده بعض الأعاظم قدس سره: وهو أنّ الأفعال الخارجیّة مسبوقة بالإرادة، وأمّا نفس الإرادة التی هی من أفعال النفس فهی توجد بنفسها وبذاتها وهذا نظیر ما یقال: إنّ وجود الموجودات إنّما هو بالوجود، وأمّا وجود نفس الوجود فبذاته، ونظیر ما یقال: إنّ رطوبة کلّ شیء إنّما هو بالماء، وأمّا رطوبة نفس الماء فهی ذاتیّة له، وأنّ أبیضیّة کل شیء بالبیاض، وأمّا أبیضیّة نفس البیاض فذاتیّة.
وفرّع ذلک الُمجیب ذلک علی القول بعدم الفرق بین المشتقّ ومبدئه إلاّ باللاّ بشرطیّة و البشرط لائیّة وعدم أخذ الذات فی مفهوم المشتقّ .
وفیه أیضاً: أنّا لا نُسلّم عدم أخذ الذات فی مفهوم المشتقّ، بل مفهومه عبارة عن المُعنون بهذه الصفة والعنوان ـ کما عرفت ـ فلا یصحّ المبنی.
وثانیاً: أنّه وقع الخلط فی کلامه قدس سره بین الجهة التعلیلیّة والتقییدیّة؛ فإنّ دعوی الأشاعرة هی أنّ الإرادة من الممکنات، فهی فی وجودها تفتقر إلی علّة وإرادة اُخری؛ لاستحالة وجود الممکن بلا علّة. ومرجع ما ذکره فی الجواب إلی أنّه لا فرق بین المشتقّ کالمرید ومبدئه کالإرادة، إلاّ أنّ الإرادة مقیّدة بعدم شیء معها، وهذا
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 223
خروج عن المبحث.
الخامس: ما أجاب به صدر المتألّهین: وهو أنّ اتّصاف شیء بصفة من الصفات النفسانیّة إنّما هو باعتبار تعلّقها بنفس هذا الشیء لا مقیّداً بها، مثلاً: معلومیّة الشیء للإنسان ومحبوبیّته أو مبغوضیّته أو أنّه مختار ومرادٌ له، إنّما هو باعتبار تعلّق العلم والحبّ والبغض والإرادة به نفسه لا مقیّداً بها فکون الشیء مختاراً للإنسان أو مراداً له إنّما هو باعتبار تعلّق الإرادة والاختیار بنفس هذا الشیء لا باختیاره وإرادته، فلا یتعلّق الإرادة والاختیار بالإرادة والاختیار، فالفعل الاختیاری عبارة عمّا تعلّق به الإرادة والاختیار وإن کانا ذاتیّین ولا عن اختیار، ثمّ لو تنزّلنا عن هذا البحث العقلی، وراجعنا فیه الوجدان وحکم العرف والعقلاء، فلا ریب فی لوم العقلاء وذمّهم عبداً ارتکب ما هو مبغوض للمولی، ومدحهم لو فعل ما هو محبوب له اختیاراً، وحکمهم باستحقاقه المثوبة؛ کیف؟! ونظام العالم وعیشُ بنی آدم مبنی علی ذلک، فإنکار حکم العقلاء باستحقاق العقاب والثواب والحسن والقبح، وأنّ الله یُدخل الجنّة من یشاء وإن کان عاصیاً کافراً، ویدخل النار من یشاء وإن کان عبداً مطیعاً مؤمناً یکذّبه الوجدان، وعلی فرض تفوّههم بذلک لساناً یکذّبه عملهم.
مضافاً إلی أنّه لا ریب فی الفرق فی محیط العقلاء بین الفعل الصادر عن اختیار وإرادة وبین الصادر لا عن إرادة قطعاً، وترتیبهم الآثارعلی الأوّل دون الثانی انتهی محصّله.
أقول: لابدّ من البحث فی المقام فی جهات:
الاُولی: فی بیان النسبة بین مقدّمات الفعل الاختیاری ونفس الفعل الاختیاری، وهل هی نسبة العِلّیة والمعلولیّة أو غیرها؟
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 224
الثانیة: أنّ ما هو المشهور من أنّ الشی ء ما لم یجب لم یوجد صحیح أو لا؟
وعلی فرض صحّته هل یُنافی ترتّب الثواب والعقاب علی الأفعال أو لا؟
الثالثة: فی بیان ما یترتّب علیه الثواب والعقاب وموضوعها.
أمّا الجهة الاُولی: فقد أشرنا سابقاً إلی أنّ الفعل الخارجی الصادر من الإنسان مسبوق بمقدّمات: من التصوّر، والتصدیق بالفائدة، والقضاء والحکم ـ فی وجه ـ والشوق، واختیار إیجاده، ثمّ تتحقّق الإرادة فتتحرّک العضلات نحو الفعل:
أمّا التصوّر: فهو علی قسمین ـ مع قطع النظر عمّا ذکره جمع من المحقّقین من الحکماء: من أنّ جمیع التصوّرات من أفعال النفس ـ :
أحدهما: أنّه انفعال بانتقاش صورة ما رآه فی الخارج فی الذهن، فإنّ هذا التصوّر انفعال للنفس.
وثانیهما: فعل من أفعالها کتصوّر المهندس صورة بناء فی ذهنه قبل وجوده فی الخارج بفعّالیّة النفس، ولا شبهة فی أنّه فرق بین هذا الفعل النفسانی الحاصل بفعّالیّة النفس وبین الفعل الخارجی؛ إذ الفعل الخارجی الاختیاری لابدّ وأنّ یُسبق بالمبادئ المذکورة، ولیس الفعل الخارجی فعلاً للنفس؛ لا مادّةً ولا هیئةً: أمّا من حیث المادّة فواضح.
وأمّا من حیث الهیئة، کهیئة البیت، فإنّها إنّما تتحقّق عند تحریک العضلات، ووضع لبنة علی لبنة بکیفیّة خاصة، ولیست ناشئة عن فعّالیة النفس.
وبالجملة: یفتقر الفعل الخارجی فی وجوده إلی المبادئ المذکورة، بخلاف نفس تلک المبادئ:
أمّا التصوّر الذی هو فعل من أفعال النفس فعدم احتیاجه إلی تلک المبادئ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 225
واضح، وإلاّ فلو توقّف وجود تصوّر علی تصوّره لزم تقدّم الشیء علی نفسه.
وأمّا التصدیق بالصلاح والفساد فهو انفعال للنفس.
وأمّا القضاء والحکم فهو من أفعال النفس کالعزم والاختیار، لکن فرق بینه وبین الفعل الخارجی من جهة افتقار الفعل الخارجی فی وجوده إلی تلک المبادئ تفصیلاً، بخلافه، فإنّ العزم لا یحتاج فی وجوده فی النفس إلی عزم ذلک العزم وهکذا غیره.
فتحصّل: أنّ الفرق بین الأفعال الخارجیّة الصادرة من النفس بوسائط وبین الأفعال الصادرة منها بلا واسطة: هو أنّ الاُولی تحتاج فی وجودها إلی المبادئ المذکورة تفصیلاً، بخلاف الثانیة، فإنّها لا تحتاج إلی المبادئ فی وجودها، ومع ذلک هی أیضاً من الأفعال الاختیاریّة للنفس، صادرة منها بالاختیار لا بالاضطرار والإجبار، وأنّها وإن لم تتوقّف فی وجودها علی المبادئ المذکورة تفصیلاً، لکنّها مسبوقة بمقدّمات فی صُقع النفس بالإجمال فی مرتبة الذات، وهی من شؤون النفس لیست خارجةً عنها، فالأفعال الصادرة من النفس توجد عن إدراک وشعور من النفس واختیار. ولعلّه إلی هذا یشیر ما فی بعض الأخبار: من (أنّ الله خلق الأشیاء بالمشیّة، وخلق المشیّة بنفسها).
فاندفع بذلک ماذکره الأشاعرة: من أنّ الإرادة: إمّا اختیاریّة أو لا... إلی آخره.
لأنّا نقول: إنّها صادرة عن اختیار وشعور وإدراک من النفس، لکن لا تتوقّف علی المقدّمات المذکورة تفصیلاً توقّف الفعل الخارجی علیها، بل علی مقدّمات ارتکازیّة کامنة فی صقع النفس بذاتها، وهی من شؤونها، فلا یلزم التسلسل.
ثمّ إنّه یرد علی الأشاعرة: أنّه ـ بناءً علی ما ذکروه ـ یلزم عدم وجود فعل خارجی أصلاً حتّی بالنسبة إلیه تعالی، ولا یلتزمون بذلک.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 226
الجهة الثانیة: أنّ من شبهات الأشاعرة قاعدة «أنّ الشیء ما لم یجب لا یوجد» استدلّوا بها لمذهبهم.
توضیح الاستدلال: أنّ کلّ شیء بحسب المفهوم: إمّا واجب، أو ممتنع، أو ممکن، والحصر عقلی، والممکن عبارة عن ماهیّة واقعة فی حدّ سواء من طرفی الوجود والعدم؛ بحیث لا یترجّح أحدهما علی الآخر أصلاً، وإلاّ لخرجت عن الإمکان؛ إذ لو فرض رجحان طرف الوجود، فإمّا أن یکون ذاتیّاً له؛ أی لأولویّة ذاتیّة کامنة فیه موجبة للوجود، أو غیریّاً؛ أی لأولویّة موجبة للوجود خارجة عن ذاته، وعلی أیِّ تقدیر تصیر الماهیّة واجبة الوجود، غایة الأمر أنّ وجوبها علی الثانی بالغیر، فمع طرف العلّة جمیع الأعدام التی یمکن تطرّقها من جهة المقتضی ومن جهة الشرائط والموانع، تصیر واجبة الوجود، ومع عدم طرد جمیع تلک الأعدام فهی ممتنعة الوجود، ولا فرق فی بقاء المعدوم فی کتم العدم بین عدم طرد العلّة جمیع الأعدام المتطرّقة إلیها وبین عدم طرد بعضها دون بعض.
فظهر من ذلک: أنّ کلّ موجود لابدّ أن یجب وجوده أوّلاً، ثمّ یوجد، فمعنی أنّ الشیء ما لم یجب لم یوجد هو أنّه ما لم یُسدّ جمیع أبواب عدمه المتطرِّقة إلیه لم یمکن وجوده، فهذه القاعدة صحیحة لا غُبار علیها.
وفصّل بعض المتکلّمین بین الآثار الصادرة من الفاعل المختار وبین الصادرة من الفاعل المضطرّ، وأنّها صحیحة فی الثانی؛ أی الفاعل الذی یصدر منه الآثار بلا إرادة وشعور، کالإشراق من الشمس، والإحراق من النار؛ حذراً من عدم إمکان إثبات واجب الوجود تعالی؛ لأنّها لو لم تجب عند وجودها، وتوجد بلا سبق الوجوب، لزم الترجیح بلا مرجّح؛ لأنّ المفروض أنّ الماهیّة الممکنة فی حدّ سواء من طرفی الوجود والعدم، فلو لم یسبق وجودها الوجوب لزم ما ذکر.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 227
وأمّا الآثار الصادرة من الفاعل المختار عن شعور وإرادة، فالقاعدة فیه غیر صحیحة؛ حذراً من لزوم القول باضطراریّة الأفعال الصادرة منه تعالی.
والحاصل: أنّهم توهّموا أنّ جریان تلک القاعدة وصحّتها فی جمیع الممکنات مستلزم للقول بأنّ الأفعال الصادرة منه تعالی غیر اختیاریّة لوجوبها، وأنّه یلزم من عدم صحّتها رأساً وعدم جریانها فی شیء من الممکنات، عدمُ إمکان إثبات واجب الوجود؛ لأنّ المفروض حینئذٍ إمکان أن توجد الممکنات بدون الموجب لها، فلأجل دفع محذور القول: بأنّه تعالی فاعل بالاضطرار، ذهبوا إلی عدم صحّتها فی الفواعل المختارة، ولأجل دفع محذور عدم إمکان إثبات واجب الوجود ذهبوا إلی صحّتها فی الفواعل المضطرّة، واستدلّوا علی ذلک ببعض ما ورد من الأخبار الواردة فی الشریعة المقدّسة.
ولکن لا یخفی ما فیه: إذ البحث فی المقام عقلی لا مجال فیه إلی التمسّک بالأدلّة الشرعیّة، وتقدّم أنّ هذه القاعدة کلّیّة قام علیها البرهان العقلی القطعیّ، فلابدّ من تأویل ما ظاهره علی خلافها من الأدلّة الشرعیّة علی وجه لا یُنافیها.
وتوهّم استلزامها فی الفواعل المختارة للقول باضطراریّة الأفعال الصادرة منه تعالی، فهو ناش عن خلطٍ وقَعَ فی المقام؛ وذلک لأنّ معنی «أنّ الشیء ما لا یجب لم یوجد» هو أنّ الموجَب ـ بالفتح ـ مسبوق بالوجوب وسدّ أبواب الأعدام المتطرّقة إلیه، فیوجد ویصیر واجباً، ولا یُعقل بقاؤه بعد الوجود علی الإمکان؛ بمعنی السواء من طرفی الوجود والعدم، وأمّا الموجب ـ بالکسر ـ فلا یخرج عن الاختیار بتأثیره فی الأثر وإیجابه الإیجاد فی هذا التأثیر والإیجاب، بل هو دلیل وعلامة للاختیار ویؤکّده، وإلی هذا أشار المحقّق السبزواری قدس سره فی منظومته؛ أنّ من الأغلاط الغلط فی الکتابة کاشتباه الموجَب ـ بالفتح ـ بالموجِب بالکسر.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 228
وأمّا الترجیح بلامرجِّح فهو غیر مستحیل، والمستحیل هو الترجّح بلا مرجّح، ولا ارتباط للمسألة العرفیّة التی أوردوها لجواز الترجیح بلا مرجّح، مثل اختیار العطشان أحد الماءین المتساویین من جمیع الجهات، ولا یمکث عطشاناً لأجل محذور استحالة الترجیح بلا مرجّح، ونظائره بالمقام لأنّها مسائل عرفیّة لا تصلح دلیلاً للمسألة العقلیّة.
وممّا استدلّ به الأشاعرة أیضاً: أنّه لا ریب فی أنّه تعالی مرید، وتتعلّق إرادته بجمیع الأشیاء، وأنّ إرادته عین علمه تعالی بالنظام علی الوجه الأکمل للعالم، فهی عین ذاته، فإذا تعلّقت بشیء من الأفعال، کالتکلّم الصادر من الإنسان، وجب وجوده، وإلاّ لزم تخلّف إرادته تعالی عن المراد.
وإلی هذا أشار بعض الشعراء فی الفارسیّة:
گرمی نخورم علم خدا جهل بود.
ولیس مراده أنّه لو لم یشربه یلزم ذلک؛ کی یجاب: بأنّ عدم الشرب لا یستلزم ذلک، بل یکشف عن عدم إرادته تعالی به ـ کما عن بعض الأعاظم ـ بل مراده ما ذکرناه وإلیه یرجع ما حُکی عن بعضهم من أنّ إرادته تعلّقت بالنظام الجُملی للعالم، ولا تتخلّف الإرادة عن المراد.
والحاصل: أنّ جمیع الآثار الموجودة فی الخارج مستندة إلیه تعالی، وتعلّقت إرادته الأزلیّة به، واستحال انفکاکها عن المراد.
وممّا ذکرناه فی الجواب عن الشبهات المتقدّمة لهم وللمعتزلة، یظهر الجواب عن هذه الشبهة أیضاً؛ إذ إن اُرید أنّ هذه الآثار والأفعال الخارجیّة مستندة إلیه تعالی علی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 229
نحو استنادها إلینا بلا واسطة أسباب وعلل، فقد عرفت استحالته؛ لأنّ الأفعال المتدرّجة الوجود محتاجة إلی إرادة متدرّجة، وهی تستلزم فاعلاً متدرِّجاً، وهو محال بالنسبة إلیه تعالی؛ لاستلزامه الحدوث والإمکان، وإن اُرید أنّه یصحّ استنادها إلیه ولو بواسطة الأسباب والمسبَّبات، کما یصحّ إسنادها إلی غیره تعالی أیضاً من الإنسان وغیره، فهو صحیح؛ لما عرفت من أنّ جمیع الموجودات الممکنة محض ربطٍ وفقر إلیه تعالی، وفی الواقع ونفس الأمر لیست فی الحقیقة شیئاً والوجود الصِّرف المطلق منحصر فیه تعالی، ومرجع جمیع العلائق الموجودة فی الموجودات بعضها مع بعض إلی العلاقة بالکمال المطلق، فجمیع الموجودات فانیة محضاً فی ذاته المقدّسة، ومع ذلک فهم مختارون فی الأفعال الصادرة منهم مریدون لها فصحّة إسنادها إلیه تعالی لا ینافی صحّة إسنادها إلیهم واختیارهم فی أفعالهم.
الجهة الثالثة: ـ وهو المقام الثانی من المقامین اللَّذینِ أشرنا إلیهما سابقاً ـ فی بیان موضوع استحقاق الثواب والعقاب والملاک فیهما، وتوضیح ما أفاده فی «الکفایة»: من أنّ الذاتی لا یعلّل، وبیان صحّته وسقمه، وتوضیح ما ورد فی بعض الأخبار: من (أنّ الشقی شقی فی بطن اُمّه، والسعید سعید فی بطن اُمّه)، ونظائره.
وتوضیح الکلام فی ذلک یحتاج إلی تقدیم اُمور:
الأوّل: أنّ للذاتی والعرضی اصطلاحین:
أحدهما: فی باب «الإیساغوجی» المعبّر عنه بـ «الکلّیات الخمس»، وهو أنّ الذاتی: عبارة عمّا لیس بخارج عن الذات، وهو منحصر فی الجنس والفصل، والعرضی: عبارة عمّا هو خارج عن الذات، سواء کان لازماً للماهیّة کالزوجیّة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 230
للأربعة، أم لا کالسواد والبیاض للجسم الأسود والأبیض.
وثانیهما: فی باب البرهان، والذاتی فیه: عبارة عمّا هو المنتزع عن حاقّ الشیء ولازم للذات لا ینفکّ عنها، سواء کان من أجزاء الماهیّة، أم من لوازمها الذاتیّة الغیر المنفکّة عنها. والعرضی: عبارة عمّا یمکن انفکاکه عن الماهیّة کالسواد والبیاض.
والذاتی فی الاصطلاح الأوّل أخصّ منه فی الاصطلاح الثانی؛ لصدق الثانی علی لوازم الماهیّة الخارجة عنها، کالزوجیّة للأربعة، والإمکان فی الماهیّة الممکنة، بخلاف الأوّل، والعرضی علی عکس ذلک، فإنّه فی الاصطلاح الثانی أخصّ منه فی الاصطلاح الأوّل؛ لصدق العرضی فی الاصطلاح الأوّل علی لوازم الماهیّة؛ لخروجها عن الماهیّة، دونه فی الاصطلاح الثانی.
والمراد بالذاتی والعرضی فی قولهم: «الذاتی لا یُعلّل، والعرضی یُعلّل» هو الذاتی والعرضی فی باب «الإیساغوجی»، فالمراد أنّه لا یسُأل عن أنّه لِمَ صار الإنسان إنساناً، أو حیواناً، أو ناطقاً؟ لأنّها ذاتیّة، والذاتی لا یُعلّل.
الأمر الثانی: المناط فی الجعل وصحّته هو الإمکان، فإنّ الواجب: عبارة عن الذی وجوده ضروری، فهو لا یحتاج إلی الجعل، وکذا الممتنع الذی عدمه ضروری، والممکن عبارة عن ماهیّة واقعة فی حدّ سواء من طرفی الوجود والعدم، فترجیح أحد الطرفین یحتاج إلی العلّة، إلاّ أنّ عدم وجود علّة الوجود کافٍ فی علّیّته للعدم، فوجود جمیع الممکنات معلّل دون وجود الواجب؛ لأنّه ذاتی له، فلا یعلّل.
الأمر الثالث: الموجودات علی قسمین: إمّا واجبة أو ممکنة، کما أنّ جمیع المفاهیم لا تخلو عن أحد الثلاثة: الواجب والممکن والممتنع، والواجب منحصر فی الحقّ تعالی، وما سواه ممکن الوجود، فوجود الحقّ تعالی ضروری ذاتی، والذاتی لا یُعلَّل، ووجود
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 231
سائر الموجودات عرضی فیعلّل.
الأمر الرابع: قد تقرّر فی محلّه: أنّ المتأصّل المتحقِّق هو الوجود، وأمّا الماهیّة وأجزاؤها ولوازمها فهی اُمور اعتباریّة، وفی الحقیقة هی عدم صِرف و «لیسٌ» محض، وإنّما یعتبرها العقل، لیس لها تأثیر وتأثّر ولا شأن من الشؤون، فجمیع الآثار الموجودة فی الخارج مستندة إلی الوجود، ومع ذلک هی بالنسبة إلی ذاتها وذاتیّاتها لا تُعَلَّل، وبالنسبة إلی الوجود وعوارضه من السواد والبیاض تعلّل.
ولو لاحظنا نظام الموجودات فلا تخلو: إمّا أنّها واجبة فی حدّ ذاتها؛ بمعنی أنّها ذاتها بذاتها نفس الوجود والغِنی والعلّیّة، کذات البارئ تعالی، وإمّا لیست بواجبة کذلک، بل وجودها نفس الارتباط والتعلّق والمعلولیّة، کوجود ما سوی الله ، فوجود واجب الوجود وغناه وعلّیّته لا تعلّل؛ لأنّها عین ذاته المقدّسه، والذاتی لا یعلّل، وأمّا ما سوی الله تعالی ففی تعلّقه ومعلولیّته أیضاً لا یعلّل؛ لأنّه عین ذاته.
إذا عرفت ذلک نقول: مفهوم السعادة والشقاوة ومعناهما فی اصطلاح العرف والعادة غیر ما هو فی عرف المتشرِّعة المؤمنین بالغیب، وهما بهذین الاصطلاحین غیر ما هو المفهوم والمراد منهما فی اصطلاح أهل الحکمة والفلسفة؛ وذلک لأنّ السعید فی اصطلاح العرف عبارة عن النائل ما یلائم نفسه من اللذّات والشهوات، ولم یصبه ما یُنافی طبعه من الهموم والغموم والبلایا والأمراض ونحوها، والشقی بخلافه.
والسعید فی اصطلاح المؤمنین المتشرّعین: عبارة عمّن کان من أصحاب الیمین من أهل الجنّة خالداً فیها ما دامت السماوات والأرض، حتّی أنّه لو فرض أنّ أحداً ابتُلی فی الدنیا بأنواع البلایا والأمراض والفقر والفاقة، ولم ینل من الشهوات والآمال الدنیویّة شیئاً، لکنّه إذا انتقل إلی عالم البقاء فتحت علیه أبواب الجنان، واُغلقت علیه أبواب النیران، کان سعیداً مطلقاً عندهم، لأنّ تلک الآلام والأسقام الدنیویّة بالقیاس
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 232
إلی ما یناله من نعم الجنّة ـ والحور والقصور وجنّات تجری فیها الأنهار خالدین فیها ما دامت السماواتُ والأرض ـ کالعدم، حتّی أنّه روی أنّ فی الشرب من میاه الجنّة جمیع أقسام اللذّات الدنیویة، فإنّ قیاس اللّذّات الدنیویّة إلی اللّذّات الاُخرویّة قیاس المتناهی إلی غیر المتناهی، وروی أنّه یُعطی العبد المؤمن السعید فی الجنّة کتاباً بهذا المضمون: (من الحی القیّوم الذی لا یموت إلی الحی الذی لا یموت)، قال تعالی: «وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسانَ لَفِی خُسْرٍ إِلاّ الّذینَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ»، ومنه یعلم معنی الشقی عندهم.
وأمّا السعادة والشقاوة فی اصطلاح الفلاسفة:
فالأوّل: عبارة عن الخیر والوجود، فمن وجوده خیر محض، فهو سعید مطلق کالله تعالی، وإن لم یطلق ذلک علیه تعالی، لکن وجوده تعالی خیر محض، بخلاف سائر الموجودات، فکلّ ما هو أکمل فهو إلی السعادة أقرب.
والشقی عندهم: عبارة عن الماهیّة الممکنة التی هی فی الحقیقة عدمٌ صِرف ولیسٌ محض.
والسعادة والشقاوة فی الاصطلاح الأوّل والثانی لیستا من الذاتیّات للإنسان وأجزائه، ولا عین ذاته ولا لازم ماهیّته، وإلاّ یلزم أن یکون أفراد الإنسان: إمّا سعیداً محضاً، أو شقیّاً محضاً، لا البعض سعیداً وبعضهم شقیّاً، وقد عرفت أنّ الذی لا یُعلّل هو الذاتی فی باب الإیساغوجی، وهما لیسا ذاتیّین ـ لا فی باب البرهان ولا فی باب الإیساغوجی ـ بل من العوارض التی یمکن انفکاکها عن الإنسان، بل هما کسبیّان یکتسبهما الإنسان بإرادته واختیاره، نعم هما فی اصطلاح الفلاسفة ذاتیان فلا یعلّلان، لکن المراد منهما فی الأخبار والآیات هو أحد الاصطلاحین الأوّلین؛ لأنّ همَّ الأنبیاء
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 233
والأولیاء وغرضَهم وغایةَ بعثهم، هو هدایة الناس إلی السعادة الأبدیّة، والوصول إلی رضوان الله ونیل نعم الجنّة وزجرهم عمّا یوجب الشقاوة الأبدیّة ودخول النیران.
وأمّا المطالب الفلسفیّة ـ من أصالة الوجود واعتباریّة الماهیّة ونحو ذلک ـ فلیس بیانها وهدایة الناس إلی معرفتها من شؤون الأنبیاء والأولیاء ووظائفهم علیهم السلام.
ثمّ إنّه لابدّ من بیان أنّه لِمَ اختار بعض أفراد الإنسان السعادة وبعضهم الآخر الشقاوة وبیان معنی حدیث أنّ (الناس معادن کمعادن الذهب والفضّة) و (السعید سعید فی بطن اُمّه، والشقی شقی فی بطن اُمّه)، وأنّ الثواب والعقاب علامَ یترتّبان؟
فنقول: للإنسان جهة اشتراک مع سائر الموجودات فی عالم الطبیعة ـ کالجمادات والنباتات والحیوانات ـ فی الجسمیّة والنموّ وغیرها، وجهة افتراق عنها، وهی أنّ له ـ مضافاً إلی أنّه مدرک للجزئیّات ـ قوّةً بها یُدرک الکلّیّات، ولذا ورد فی بعض الأخبار: (أنّه لمّا خلق الله العقل استنطقه، وقال له: أقبِلْ فأقْبَلَ، ثمّ قال له: أدْبِر فأدبَرَ، ثمّ قال تعالی: وعزّتی وجلالی ما خلقتُ خلقاً هو أحبّ إلی منک، ولا أکملتک إلاّ فیما اُحبّ. أما إنّی إیّاک آمُر، وإیّاک أنهی، وإیّاک اُعاقب، وإیّاکَ اُثیب)، وبالعقل یتمکّن الإنسان أن یطّلع إلی عالم الغیب وما وراء الطبیعة، والتصدیق بأنّ لهذه المصنوعات والمخلوقات والموجودات صانعاً وخالقاً وموجداً، وبه یدرک التکالیف الشرعیّة الإلهیّة، وتسمّی هذه القوّة بالعاقلة.
وله قوّة اُخری تسمّی بالعاملة، بها یستعدّ الإنسان للتدرّج فی مدارج السعادة ونیل مرتبة هی فوق مرتبة الملائکة المقرّبین، فالموضوع للعقاب والثواب هو الإتیان
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 234
بما هو محبوب للشارع أو مبغوض له بالإرادة والاختیار.
فعلم من ذلک: أنّ لصحّة ترتّب الثواب والعقاب شرائط لوانتفی واحد منها انتفیا:
أحدها: أن یکون للفاعل قوّة بها یدرک الکلّیّات، ویتمکّن من الاطّلاع علی عالم الغیب، والتصدیق بأنّ للعالَم خالقاً ومدبِّراً وصانعاً، وأنّه مکلّف ولیس بمهمل.
الثانی: وصول بیان التکالیف إلیه علی الوجه المعتبر.
الثالث: صدور الفعل منه بالإرادة والاختیار بدون القسر والإجبار.
فمع اجتماع تلک الشرائط والأرکان یصحّ عقوبته أو مثوبته عند العرف والعقلاء، ولا یفتقران إلی أمر آخر.
ولیعلم: أنّ واجب الوجود تعالی واجب من جمیع الجهات، ولا جهة إمکان فیه تعالی أصلاً، فهو تعالی واجب الوجود من جهة ذاته، ومن جهة علمه وقدرته وإرادته وسائر صفاته، فمن هو لائق لنیل کمال واستعداد قبوله من أفراد الإنسان أعطاه الله ، ویمتنع منع الإفاضة إلیه؛ لأنّه تعالی إمّا أن یعلم بقابلیّة العبد واستعداده وأهلیّته ولیاقته له، أو لا. الثانی باطل بالضرورة، وتعالی الله عنه علوّاً کبیراً.
وعلی الأوّل: فالمنع وعدم الإفاضة یؤدّی إلی البخل، تعالی الله عن ذلک، فوجب علی الله إعطاؤه إیّاه وإفاضته، وهذا لا یُنافی اختیاره تعالی وقدرته، فإنّ الفاعل المختار عبارة عمّن یتمکّن من الفعل والترک معاً، إلاّ أنّ الإرادة الأزلیّة تعلّقت بالإعطاء لا بعدم الإعطاء، مع قدرته علی عدمه أیضاً، واستحالة ترک الإعطاء لما ذکرناه، لا لعدم قدرته علی ترکه.
وبالجملة: وجب علیه الإعطاء والإفاضة بالإرادة والاختیار.
وحینئذٍ نقول: لا شبهة فی اختلاف أفراد الإنسان فی السعادة والشقاوة ومراتبهما، ومنشأ هذا الاختلاف هو اختلافهما فی مبادئهما، فإنّ مبدأ الإنسان هی المادّة المَنَویّة التی هی خلاصة الأغذیة الحاصلة بعد الهضم الرابع، ولمّا کانت الأغذیة مختلفة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 235
غایة الاختلاف ـ فی اللطافة المعنویّة بمراتبها وفی ما یقابلها والامتزاجات الحاصلة من الأغذیة المختلفة ـ اختلف مبادئ خلقة أفراد الإنسان، فاختلف الأفراد اختلافاً فاحشاً فی جهات مختلفة؛ بحیث لا یوجد اثنان منها یتشابهان من جمیع الجهات، فإنّ الطعام مطلقاً حینما وصل إلی الجوف، واجتذبته الجاذبة، ینتقل إلی أن یصل إلی الهضم الرابع، ویتمیّز الدم بالهضم العروقی عمّا هو مبدأ خلقة الإنسان، وکلّما کان الطعام ألطف کان استعداده للسعادة أقوی.
وبالجملة: من أسباب اختلاف الإنسان فی السعادة والشقاوة بمراتبهما، هو اختلاف الأغذیة والأشربة من حیث اللطافة المعنویّة وعدمها، ومن حیث اختلاطها، ویحتمل أن تکون أخبار الطینة ناظرة ومشیرة إلی ذلک بإرادة اختلاف الموادّ المنویّة فیما ذکرناه من أخبارها.
ومن أسباب اختلاف الأفراد فی الاستعدادات: هو اختلاف أصلاب الآباء من حیث اتّصافهم بالصفات الحمیدة أو المذمومة والکمالات النفسانیّة وما یقابلها.
ومنها: اختلاف أرحام الاُمّهات فی الطهارة المعنویّة وخباثتها فنشوّ الولد فی الرَّحم الطاهر موجب لسعادة الولد.
وبالجملة: الصّلب الشامخ للآباء والرحم الطاهر للاُمّهات ومقابلهما، ممّا له دَخْلٌ فی اختلاف مراتب الأفراد والأولاد فی السعادة وکمالها والشقاوة ولهذا ورد فی زیارة الحسین علیه السلام: (أشهدُ أنّک کنتَ نوراً فی الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة ...) إلی آخره، فإنّ أصلاب آباء الأئمّة الطاهرین ـ سلام الله علیهم أجمعین ـ کانت شامخة وأرحام أمّهاتهم طاهرة من لدن آدم إلی الخاتم؛ ولهذا أمر النبی صلی الله علیه و آله وسلم
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 236
علی ما فی الأخبار والتواریخ بالانعزال عن الناس حینما أراد الله تعالی تکوّن اُمّ الأئمّة النجباء فاطمة الزهراء سلام الله علیها وعلی أبیها وبعلها وذُرّیّتها المعصومین حتّی عن خدیجة علیهاالسلام لِئلاّ یسمع کلامهم، ولا یقع نظره الشریف علیهم، وترک معاشرتهم، مع أنّ أخلاق الناس لم تؤثّر فی نفسه الشریفة صلی الله علیه و آله وسلم وجیئ ـ لیلة اُمر فیها بأن یأتی خدیجة ـ بفواکه الجنّة؛ لیکون مبدأ خِلقتها من ثمار الجنّة، لا من طعام الدّنیا؛ لأنّها اُم الأئمة الطاهرین علیهم السلام ولیس ذلک کلّه إلاّ لما ذکرناه.
بل السرّ فی الأحکام والآداب الواردة فی النکاح ـ من الواجبات والمحرّمات والمندوبات والمکروهات، کاختیار العفیفة العاقلة الجمیلة الکریمة الأصل، وتعیین أوقات الوقاع، والنهی عنه فی أوقات مخصوصة، والأمر بتناول الحامل أغذیة مخصوصة، والنهی عن بعضها، وآداب المرضعة وآداب المجالسة ـ هو أنّ ذلک کلّه مُؤثّر فی طِباع الولد ودخیل فی السعادة والشقاوة.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 237
ومع ذلک کلّه لا یُنافی ذلک صحّة العقوبة والمثوبة علی الأفعال الصادرة من المکلّفین اختیاراً، مع وجود أرکان موضوعهما وشرائطه المتقدّمة؛ لأنّ الاُمور المذکورة لیست علّة تامّة لصدور الفعل عنهم لا بالاختیار، فإنّ الشقی إنّما یفعل القبیح مع العلم والشعور والإرادة والاختیار، وهو قادر علی ترکه، وکذلک المطیع إنّما یطیع مع العلم والشعور والإرادة والاختیار، فیصحّ عقوبة الأوّل ومثوبة الثانی، کما هو کذلک فی الموالی العرفیّة بالنسبة إلی عبیدهم، فالمناط لصحّة العقاب والثواب هو صدور الفعل عن علم وشعور واختیار، لا سوء السریرة أو حسنها، ولعلّ قوله علیه السلام: (الناس معادن کمعادن الذهب والفضّة) إشارة إلی ما فصّلناه من اختلاف أفراد الناس بحسب السعادة والشقاوة والملکات الحمیدة وغیرها والأخلاق الفاضلة وغیرها، التی لا تُنافی الاختیار،وکذلک قولهعلیه السلام:(الشقی من شَقِیَ فی بطن اُمّه والسعیدمنسَعِدَ فی بطن اُمّه)، ولا إشکال فیه.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 238