الأمر الثالث : أصل المشتقّات والخلاف فیه
اختلفوا فی أنّ أصل المشتقّات ومبدأها هل هو المصدر، کما هو مذهب اُدباء البصرة، أو الفعل کما هو مذهب اُدباء الکوفة ؟
وبعبارةٍ اُخری : هل المشتقّ الموضوع أوّلاً هی المصادر، وأنّها المحفوظة فی ضمن جمیع المشتقّات، أو الأفعال کذلک؟
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 160
وهذا النزاع بمکانٍ من السخافة، خصوصاً مذهب الکوفیین؛ إذ لا معنی لانحفاظ الفعل فی ضمن جمیع المشتقّات حتّی المصدر، بل وکذا مذهب أهل البصرة، لکن یمکن حمله علی أنّ المراد أنّ ما وضع له اللّفظ أوّلاً هو المصدر، ثمّ اشتقّت منه الأفعال والأوصاف بدون انحفاظ المصدر فی ضمنها.
ولهذا سلک المتأخِّرون طریقاً آخر : حیث ذهبوا إلی أنّ مادّة المصدر مجرّدة عن جمیع الحرکات والسکنات والهیئات؛ بنحو اللاّبشرط إلاّ من حیث ترتیب حروفه من التقدّم والتأخّر، موضوعة لنفس طبیعة الحدث، ثمّ اشتقّت منها الأفعال والأوصاف بهیئاتها المختلفة، فوضع المادّة نوعی بما أنّها مادّة لإحدی هذه الهیئات، وکذلک وضع الهیئات من حیث إنّها موضوعة لمعانیها بما أنّها هیئة إحدی هذه المواد.
ویمکن الإشکال علیه أیضاً :
أوّلاً : بأنّ المادّة مجرّدة عن جمیع الحرکات والسکنات والهیئات، لیست من عداد الألفاظ المعتمدة علی مخرج الفم، فلا معنی للنزاع فی أنّها موضوعة لکذا أو کذا، ثمّ اشتقاق الأفعال والصفات منها.
وثانیاً : أنّ ذلک یوجب عدم الفرق بین المصدر واسم المصدر، فإنّ الثانی أیضاً موضوع لنفس طبیعة الحدث کالأوّل.
وثالثاً : ما ذکره مستلزم لأن یکون مثل «ضغروب» و «ضکروب» ونحوهما ـ ممّا یتخلّل بین حروف المادّة حرف غیر مربوط، مع حفظ ترتیب حروف أصل المادّة أیضاً دالاًّ علی الحدث الموضوع له؛ إذ المفروض أنّ المادّة مأخوذة ومحفوظة فیه بنحو اللاّبشرط من هذه الجهة، وإلاّ فلابدّ أن یکون مضروب أیضاً مهملاً لتخلّل الواو بین حروفه.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 161
ورابعاً : لو کانت المادّة موضوعة بوضع علی حدة، وکذلک الهیئة، لزم ترکّب المشتقّات ودلالة کلٍّ منهما علی معنیً مستقلّ، لا الترکیب الانحلالی، وهو باطل قطعاً؛ لعدم تبادر معنیین کذلک من مثل «ضارب» هذا.
ویمکن الجواب عن هذه الإشکالات :
أمّا الأوّل : فلأنّه إنّما یتوجّه لو کان المقصود من وضع المادّة هو التفهیم والتفهّم بها مستقلّةً، ولیس کذلک، بل المراد أنّها موضوعة لاشتقاق الأفعال والصفات منها، وتتهیّأ بهیئاتٍ مختلفةٍ، ولا یحتاج الوضع إلی اللّفظ.
وأمّا الثانی : فلأنّه قد یفتقر إلی تفهیم معنی الحدث وطبیعته للغیر، ولمّا لم یمکن النطق بالمادّة بدون الهیئة وضع هیئة اسم المصدر، بل والمصدر أیضاً؛ بناءً علی عدم الفرق بینهما؛ لأنّ الأقرب عدم أخذ الانتساب إلی فاعل ما فی مفهوم المصدر، فوُضع لمجرّد إمکان النطق بالمادّة، لا أنّها موضوعة بإزاء إمکان النطق بالمادّة، بل للتمکّن من النطق بها، وحینئذٍ فلا مانع من القول بعدم الفرق بینهما.
وأمّا الثالث : فبأنّ المادّة وإن وُضعت بنحو اللاّبشرط إلاّ فی الترتیب بین الحروف لفظاً، لکن حیث إنّها موضوعة للتهیّأ بإحدی الهیئات المعیّنة، فلا محالة لها ضیق ذاتی وتقیید فی نفس الأمر بکونها فی ضمن إحدی الهیئات، فلا یرد علیه مـا ذکـر.
وأمّا الرابع : فذهب بعض المحقّقین [ وهو ] السیّد محمد الفشارکی قدس سرهفی مقام التفصّی عنه إلی أنّ للمادّة وضعین : أحدهما الوضع التهیّئی، لا لإفادة المعنی، الثانی فی ضمن وضع الهیئة بلحاظها حین وضعت الهیئة لإفادة المعنی.
ویرد علیه ما تقدّم سابقاً : من أنّ الدلالة لیست تابعة للإرادة؛ أی إرادة الواضع، فإذا تحقّق الوضع لها دلّت علی الموضوع له، سواءً أراد الواضع منه الدلالة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 162
علیه أم لا، بل وکذلک ولو صرّح بالعدم أیضاً؛ لأنّ ما هو بید الواضع هو عنان الوضع، لا الدلالة علی المعنی.
مع أنّ ما ذهب إلیه أسوء حالاً من أصل الإشکال؛ لاستلزامه الالتزام فی مثل «ضارب» بثلاثة أوضاع : وضع المادة أوّلاً مستقلاًّ للحدث، ثانیها الوضع التبعی لوضع الهیئة، وثالثها وضع الهیئة لمعناها.
مضافاً إلی أنّه إن أراد وضع الهیئة فی ضمن کلّ مادّة مادّة، یلزم خصوصیّة الموضوع له فی المواد، وإن أراد لحاظ مجموع المواد حین وضع الهیئة، فلیس المجموع أمراً مغایراً لکلّ واحدةٍ واحدة، وإن أراد لحاظ مادّة من الموادّ لا علی التعیین، فهی ممّا لا تحقّق لها، فلا یُتصوّر لما ذکره فرض صحیح.
وللتفصّی عن الإشکال سلک بعض الأعاظم مسلکاً آخر : وهو أنّ الواضع وضع مادّة معیّنة بهیئاتها کلّ واحدةٍ واحدة من الهیئات مفصّلاً من الأفعال والصفات، ثمّ قاس علیها المواد الاُخر وهیئاتها من الأفعال والصفات.
وفیه : ـ مضافاً إلی عدم اندفاع أصل الإشکال بذلک، وهو لزوم الترکُّب فی المشتقّات ـ أنّ القیاس المذکور لابدّ أن یکون هو وضعاً لها؛ لعدم تصوّر غیر ذلک، فیرد علیه الإشکالات المتقدّمة.
وغایة ما یمکن أن یقال فی المقام : هو أنّ المادّة وُضعت أوّلاً ـ مجرّدة عن جمیع الحرکات والسکنات ـ لطبیعة الحدث، لکن حیث إنّه لا تحصّل وتعیّن لها استقلالاً، بل هی فی وجودها تبع للهیئة، فلا یمکن تحقّقها استقلالاً، کما أنّ الهیئة تبع للمادّة لم تدلّ علی معناها استقلالاً، نظیر الهیولی الغیر المتحصّلة إلاّ بالصورة، وکما أنّ الهیولی فانیة ومندکّة فی الصورة فی عالم الحقائق، کذلک المادّة فی عالم الألفاظ تبع للهیئة فانیة ومندکّة فیها، والموجود فی نفس الأمر هو الهیئة، وهی بسیطة، فکذلک معناها
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 163
ومفادها، کما سیأتی بیانه.
هذا کلّه فی الموادّ.
وأمّا الهیئات فقد یستشکل : بأنّ الهیئة مجرّدةً عن المادّة غیر قابلة للتصوّر واللحاظ کی توضع لمعنیً من المعانی، والمفروض أنّها موضوعة مجرّدةً عن الموادّ لا المجموع المرکّب منها ومن المادّة.
ویمکن دفعه : بإمکان تصوّر الهیئة فی ضمن مادّة من الموادّ وإن کانت مهملة، مثل هیئة «فاعل» فی ضمن أیّة مادة من الموادّ، فلا إشکال حینئذٍ.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 164