أدلّة القائلین بامتناع الاشتراک
واستدلّ القائلون بالامتناع بوجهین :
الوجه الأوّل : ما یأتلف من أمرین :
أحدهما : أنّ الموضوع للمعنی لیس هو شخص اللّفظ الصادر من اللاّفظ؛ ضرورة أنّ تشخّصه إنّما هو بالاستعمال، وهو متأخّر عن الوضع، بل الموضوع بإزاء المعنی هو طبیعی اللّفظ بنحو القضیّة الحقیقیّة بإزاء طبیعی المعنی کذلک، فکلّ فردٍ من أفراد طبیعی اللّفظ موضوع بإزاء فردٍ من أفراد طبیعی المعنی.
وثانیهما : أنّ الوضع عبارة عن جعل اللّفظ مرآة لتصوّر المعنی وعنواناً فانیاً فیه؛ بحیث لا یری السامع له وجوداً فی الخارج، بل الموجود فی نظره المعنی فقط،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 137
ولیس الوضع عبارة عن جعل اللّفظ علامة للمعنی؛ کی یقال بإمکان جعل لفظ واحد علامةً لمعنیین أو أکثر، بل هو عبارة عمّا ذکرناه، ولفنائه فی المعنی یستهجن اللّفظ الموضوع لمعنیً مستهجن، وتشمئزّ النفس منه.
وحینئذٍ : فجعل اللّفظ موضوعاً لأکثر من معنیً واحد، یستلزم أن یکون کلّ فردٍ من أفراد طبیعیه مرآة بالفعل لأکثر من معنیً واحد وفانیاً بالفعل فی المعانی المتعدّدة، وهو محال؛ لاستحالة فناء شیءٍ واحدٍ دفعةً واحدة فی أمرین متباینین، کما لا یعقل وجود واحد وجوداً لماهیّتین.
ودعوی إمکان أن یجعل الواضع طائفةً من أفراد طبیعی اللّفظ لمعنیً، وطائفةً اُخری منه لمعنیً آخر.
مدفوعة أیضاً بما أشرنا إلیه من سرایة الوضع إلی جمیع أفراد اللّفظ بنحو القضیّة الحقیقیّة التی یتعلّق الحکم فیها بجمیع أفراد الطبیعی المحقّقة والمقدَّرة، ومعه کیف یعقل تخصیص طائفةٍ من أفراد طبیعی اللّفظ لمعنیً، وطائفةٍ اُخری منها لمعنیً آخر؟!
مع أنّ ذلک التخصیص إن کان بتمیّز تلک الطائفة من الطائفة الاُخری بمائز یتقوّم به اللّفظ الموضوع خرج عن الاشتراک، وإن کان المائز هو الاستعمال المتعلِّق باللّفظ، فلا یعقل أن یتقوّم اللّفظ بما یتوقّف علی الاستعمال؛ لتأخّر الاستعمال عن مرتبة اللّفظ ووضعه.
وأجاب عنه المحقّق العراقی قدس سره علی ما فی التقریرات :
أمّا أوّلاً : فبالنقض بتحقّق الألفاظ المشترکة ووجودها فی لغة العرب کالقُرء الموضوع للطّهر والحیض.
وثانیاً : بالحلّ، وهو أنّا لا نسلِّم أنّ الوضع عبارة عن جعل اللّفظ مرآة للمعنی بالفعل، بل الوضع یوجب استعداد اللّفظ الموضوع للحکایة عن المعنی عند الاستعمال، وبالاستعمال یخرج من القوّة إلی الفعلیّة فی المرآتیة والحکایة، فإذا استعمل فی المعنی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 138
الآخر، ووجد فرد جدید من طبیعی اللّفظ، صار مرآةً للمعنی الآخر، فلیس شخص واحد من اللّفظ مرآتین لمعنیین ولو فی آنین، فالوضع یوجب سعة استعداد اللّفظ للحکایة عن معانٍ متعدّدة، لا أنّه یوجب فعلیة الحکایة عنها، وإنّما تکون الحکایة فعلیّة بنفس الاستعمال المقرون بالقرینة انتهی.
وأنت خبیر بعدم استقامة هذا الجواب علی فرض تمامیّة الاستدلال من سائر الجهات، فالأولی أن یقال فی مقام الجواب :
إنّ الوضع عبارة عن تخصیص اللّفظ بالمعنی، کتخصیص طبیعة لفظ الإنسان بطبیعة الحیوان الناطق، فقول المستدلّ : إنّ الوضع عبارة عن جعل اللّفظ مرآةً للمعنی بنحو القضیّة الحقیقیّة، ممنوع.
أمّا أوّلاً : فلخروجه عن محلّ الکلام؛ إذ الکلام إنّما هو فی وضع لفظٍ واحد لمعانٍ متعدّدة، لا وضع کلّ فردٍ من أفراد طبیعی اللّفظ لکلّ فردٍ من أفراد طبیعی المعنی، الذی یوجد فی الخارج کما هو مقتضی کونه بنحو القضیّة الحقیقیة.
وثانیاً : فلأنّ ما ذکره مستلزم لخصوص الوضع والموضوع له فی الألفاظ؛ لما ذکره من أنّه بنحو القضیّة الحقیقیّة، التی هی عبارة عن کلّ ما لو وجد وکان لفظاً لإنسان، فهو بحیث لو وجد کان موضوعاً لکلّ ما لو وجد فی الخارج وکان معنیً ومصداقاً لطبیعة الحیوان الناطق، والمستدلّ مُعترف بفساده.
وثالثاً : ما ذکره مستلزم لدلالة کلّ فردٍ من أفراد لفظ الإنسان الصادر من المتکلّم علی کل فرد من أفراد الحیوان الناطق بخصوصیاته؛ بحیث ینتقل إلیها السامع ویدرکها أیضاً، ولیس کذلک بشهادة الوجدان.
ورابعاً : یلزم ممّا ذکره أن یکون لفظ «الإنسان» مرادفاً للفظ «زید» و «عمرو» وغیرهما من الأفراد، ولیس کذلک بالضرورة والعیان.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 139
وأمّا ما ذکره : من أنّ الوضع عبارة عن جعل اللّفظ مرآةً لتصوّر المعنی وعنواناً فانیاً فیه، فقد أشرنا سابقاً إلی أنّ الوضع لیس إلاّ عبارة عن تخصیص اللّفظ بالمعنی؛ بحیث لو أراد المتکلّم إفهام المخاطب ذلک المعنی جعله وسیلةً إلی إفهامه به، لا فانیاً فیه؛ لأنّ کلّ واحدٍ من اللّفظ والمعنی متصوّر وملحوظ للمتکلّم فی مقام الاستعمال.
نعم : قد یتّفق الغفلة وعدم الالتفات إلی اللّفظ حین الاستعمال لکمال توجّه النفس إلی المعنی، وأمّا أنّه کذلک دائماً فلا.
الوجه الثانی : أنّ الوضع عبارة عن جعل الملازمة بین اللّفظ والمعنی فی الذهن، أو جعل ما یلازم هذه الملازمة بینهما، فإذا فرض وضع لفظ لمعنیین : فإمّا أنّه فانٍ فی کلّ واحدٍ من المعنیین معاً، وینتقل السامع إلیهما معاً دفعةً واحدة، وهو محال، وإمّا أنّه فانٍ فی أحدهما الغیر المعیّن، فهو غیر متصوّر، وإمّا فانٍ فی أحدهما المعیّن، فهو المطلوب.
أقول : وهذا الوجه قریب من الأوّل، ویرد علیه ما مرّ من أنّ الوضع لیس إلاّ ما عرفت، لا جعل اللّفظ فانیاً فی المعنی.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 140