تنبیهات
أحدها : أنّ من أهمّ المعانی التی یُراد إفهامها فی المحاورات هی المعانی التصدیقیّة ـ أی النسب الجزئیّة أو الإنتساب إلی فاعل ما ـ فهل لها ألفاظ موضوعة فی لغة العرب تدلّ علیها؟ مثلاً : لو قیل : «زیدٌ قائم» فالذی یدلّ علیه لفظ «زید» معنیً تصوُّری، وکذلک «القائم»، وأمّا المعنی التصدیقی الذی تشتمل علیه هذه الجملة ـ أی الاتّحاد والهُوهُویّة أو النسب الجزئیّة ـ فلا یدلّ علیه لفظ «زید وقائم» لا بمادّته ولا بهیئته، فالدالّ علیه إمّا مجموع «زید قائم» بأن یقال : إنّه موضوع لهذا المعنی التصدیقی مضافاً إلی وضع کلّ واحد منهما لمعناه التصوُّری، أو أنّ هیئة الجملة المتحقّقة فی هذه القضیّة وسائر القضایا موضوعة له، والحقّ هو الثانی والشاهد له هو الوجدان، لکن الأوّل ـ أیضاً ـ ممکن لا یلزم منه محذور.
فما فی «الکفایة» : من أنّه یلزمه دلالة الجملة علی المعنی مرّتین، فیه : أنّ غایة ما یلزمه أنّ الهیئة والمجموع مترادفان، ولا استحالة فی وجود دالّین علی معنیً واحد فی کلام واحد.
وکذلک ما قیل : ـ من استلزامه اللَّغویّة؛ لعدم الحاجة إلی وضع المجموع له بعد دلالة الهیئة علیه ـ فإنّ الألفاظ المترادفة واقعة فی کلامهم، وربّما لا یلزم منه اللَّغویّة أیضاً.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 73
وکذا ما ذکره بعض آخر : من أنّه لو کان المجموع موضوعاً لهذا المعنی التصدیقی، لزم صدق جمیع القضایا ومطابقتها للواقع؛ وذلک لأنّ هنا مقامات لا ارتباط لأحدها بالآخر : مقام وضع الألفاظ للمعانی المفردة أو التصدیقیّة، ومقام الدلالة، ومقام إرادة المعنی من اللّفظ، ومقام أنّه مطابق للواقع أو لا. فمقام مطابقته للواقع وعدمها غیر مقام الدلالة، فهو دالّ علی هذا المعنی طابق الواقع أو لا، ولا ملازمة بین الدلالة والمطابقة للواقع، فإذا قیل : «زیدٌ قائم» ینسبق إلی ذهن المخاطب هذا المعنی التصدیقی، وأمّا أنّه مطابق للواقع أو لا فیحتاج إلی الإثبات.
نعم : یرد علیه ما أورد علیه ابن مالک، وهو أنّه لو کان مجموع المسند والمسند إلیه موضوعاً بإزاء المعنی التصدیقی، لزم تعدّد الأوضاع بتعدّد القضایا، وأنّ لـ «زید قائم» وضعاً، ولـ «عمرو جالس» وضعاً آخر، وهکذا، وفساده أظهر من أن یخفی.
وحینئذٍ فالحقّ : أنّ الموضوع له للمعانی التصدیقیّة هی الهیئة.
الثانی : أنّهم قسّموا اللّفظ إلی المفرد والمرکَّب وهو لا یخلو عن إشکال؛ لأنّ «اللّفظ» فی اللّغة : الرمی، و «الملفوظ» هو المرمی ووجه التسمیة واضح، فإنّه یُرمی من الفم إلی خارجه، یقال : «أکلتُ التمرة ولفظتُ النواة»؛ أی رمیتُها، وحینئذٍ فإن اُرید من «اللّفظ» ـ الذی جُعل مَقْسماً للمفرد والمرکّب ـ اللّفظ الحقیقی، فلا ریب فی أنّ الألفاظ فی الحقیقة هی الحروف التی هی بسائط، فإنّها التی تُرمی من الفم إلی خارجه، فإذا قیل : «زید» فالملفوظ هو «الزاء» و «الیاء» و «الدال»، لا مجموعها، وحینئذٍ فاللّفظ الحقیقی بسیط، کهمزة الاستفهام، وکاف الخطاب، والضمیر، ونحوها.
ثمّ علی فرض الإغماض عن ذلک والتسلیم بأنّ الملفوظ هو مجموع هذه الحروف ولو بالمسامحة فی الإطلاق، لکن مع ذلک لا یصحّ التقسیم المذکور أیضاً، فإنّ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 74
اللّفظ هو المرکّب من الحروف، وهو المفردات فقط.
الثالث : قال فی «الفصول» : النسب الجزئیّة ـ والمراد هیئة الجمل الخبریّة ـ موضوعة بإزاء النسب الذهنیّة من حیث کشفها عن الواقع وإراءتها له، سواءً طابقته أم لا.
واستدلّ علیه بالتبادر وبأنّ العلم من ذوات الإضافة یحتاج فی وجوده إلی المضاف إلیه، وحینئذٍ فلو کانت الهیئات فی القضایا الخبریّة موضوعة للنسب الجزئیّة الخارجیّة، لا الذهنیّة، لزم أن لا یکون للقضایا الکاذبة معنیً أصلاً؛ لانتفاء النسبة الواقعیّة الخارجیّة فیها، ولزم أن لا یحصل العلم للمخاطَب فیها؛ لامتناع وجود المضاف بدون المضاف إلیه انتهی بتوضیح منّا.
أقول : أمّا التبادر فلا أظن أن یعتمد هو قدس سره علیه أیضاً مع قطع النظر عن دلیله الآخر، بل لا یبعد دعوی التبادر علی خلافه.
وأمّا دلیله الآخر : فإن قلنا بعموم الموضوع له فی الهیئات فالجواب عنه واضح، فإنّ الهیئة ـ حینئذٍ ـ دائماً مستعملة فی طبیعی النسبة أو مفهوم الاتّحاد والهُوهُویّة علی ما اخترناه إلاّ أنّه ینطبق علی الأفراد انطباقاً حقیقیّاً بالنسبة إلی الأفراد الخارجیّة، وغیر حقیقی فی غیرها.
وإن قلنا : بأنّ الموضوع له فیها خاصّ ـ کما هو الحقّ وقد تقدّم ـ فنقول : إنّ ما ذکره ـ من أنّ العلم من ذوات الإضافة التی لا یمکن تحقّقها بدون المضاف إلیه ـ صحیح، لکن لا یجب أن یکون المضاف إلیه من الاُمور الواقعیّة المعلومة بالعرض، بل یکفی فی تحقّقه وجود الصورة الذهنیّة التی هی معلومة بالذات؛ وذلک لأنّه إذا قیل : «زیدٌ قائم» ونحوه، انتقش فی ذهن المخاطب صورة «زید» ومعنی «القائم» واتّحادهما أو النسبة بینهما، وتسمّی بحضور النفس، وینتقل بها إلی الخارج، سواءً کانت النسبة ثابتة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 75
ومتحقّقة فی نفس الأمر أم لا، فمع تحقّقها فالانتقال إلیه حقیقی، وإلاّ فصوری، وحینئذٍ فالبرهان المذکور لا یفی بإثبات ما رامه؛ لابتنائه علی أنّ المضاف إلیه للعلم هو خصوص الواقعی، وقد عرفت خلافه.
مضافاً إلی أنّه علی فرض التسلیم بأنّ الهیئات موضوعة للصور الذهنیّة من حیث إنّها کاشفة عن الواقع، فإمّا أنّ هذا الکشف فی القضایا الکاذبة حقیقی، أو لا :
فلو قال : إنّه حقیقی لزم وجود الکشف ـ الذی هو أیضاً من ذوات الإضافة ـ بدون المضاف إلیه.
ولو قال : إنّه لیس بحقیقی فمرجعه إلی القول بأنّها موضوعة للصورة الذهنیة من حیث هی وهو قدس سره لا یقول به.
فالحقّ هو ما تقدّم : من أنّ الهیئات موضوعة فی القضایا الحملیّة للهوهویّة الخارجیّة، أو لإفادة تحقّق النسب الجزئیّة، من غیر فرق فیه بین القضیّة الصادقة والکاذبة، ولا یلزم تحقُّق المعنی فی الخارج أوّلاً ثمّ استعمال اللّفظ والهیئة فیه، بل الاستعمال لیس إلاّ إعمال اللّفظ فی المعنی لإیجاد صورة المعنی فی ذهن الُمخاطَب لینتقل بها إلی الخارج، فإن کان متحقّقاً فی الخارج فالقضیّة صادقة، وإلاّ فکاذبة، وعلی أیّ تقدیر فالاستعمال صحیح، ویفید المخاطَب إیجاد الصورة فی ذهنه.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 76