فائدة :
هل الألفاظ موضوعة للمعانی النفس الأمریّة من حیث هی، أو لها من حیث أنّها مرادة؟
لا شُبهة فی أنّ الحقّ هو الأوّل، وقد تقدّم أنّ حقیقة الوضع هو جعل اللّفظ للمعنی، وهو أمرٌ اعتباری لا جعل العلاقة بینهما تکویناً، ولا التعهّد والالتزام بأنّه متی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 69
اُطلق اللّفظ الفلانی یُراد به المعنی الکذائی.
وأمّا توهّم أنّ الألفاظ موضوعة للمعانی المرادة: فإن اُرید بها المعانی المقیّدة بالإرادة النفسانیّة التی یحمل علیها مفهوم الإرادة بالحمل الشائع؛ لأنّ الإرادة النفسانیّة جزئیّة؛ لأنّه لابدّ فی تحقّقها وتحقّق مبادئها ـ من الشوق والخطور وغیرهما من المبادئ ـ من متعلَّقٍ؛ لامتناع تحقّقها کُلّیّةً بدون المتعلّق، فهو لیس مُراد القائلین بهذا القول.
وإن اُرید أنّ الموضوع له لها مقیّد بالإرادات العرضیّة بملاحظة الواضع مفهوم الإرادة وتقییده المعنی الموضوع له بالإرادات الجزئیّة الخارجیّة العرضیّة؛ لما له نحو حکایة عنها، فهذا ـ أیضاً ـ لیس مراد القائلین بهذا القول قطعاً.
وحینئذٍ یمکن أن یقال : إنّ مراد القائلین بهذا القول : هو أنّ للمعنی الموضوع له نحوَ تضیّقٍ ناشٍ من ناحیة الواضع، فإنّ الوضع من الأفعال الاختیاریّة المسبوقة بمبادئ الإرادة، ومن مبادئها تصوّر غایة الوضع، التی هی عبارة عن إفهام المخاطَب ذلک المعنی بهذا اللّفظ، فالمعانی الموضوع لها متقیّدة ذاتاً بکونها مرادة فی نفس الأمر، لا أنّ الواضع قیَّدها بالإرادة، وهذا نظیر وضع الأعلام الشخصیّة کزید، فإنّ لذاته المشخّصة حدّاً خاصّاً معیَّناً ذاتاً بحسب الطول والعرض، مع أنّ الواضع لم یلاحظ ذلک حین وضعَ لفظ «زید» له لیکون هذا القید للموضوع له.
وحینئذٍ : فیمکن أن یرید القائل بأنّ الألفاظ موضوعة للمعانی المرادة هو ذلک المعنی، وعلیه فالإشکالات ـ التی أوردها فی «الکفایة» علی هذا القول ـ بین ما لیس بوارد وبین ما لا یضرّ، ولیس تالیاً فاسداً :
أمّا الأوّل : کلزوم تقدّم الشیء علی نفسه لو کان الموضوع له مقیّداً بالإرادة؛
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 70
للزوم تحقّق الإرادة قبل استعمال اللّفظ فی المعنی، فیلزم تقدّمها علی نفسها، وکالإشکال بلزوم التجرید عند الحکم والحمل فی القضایا.
أمّا الإشکال الثانی الذی لا یضرُّ : فکالإشکال بلزوم خصوصیّة المعنی الموضوع له فی جمیع الألفاظ فإنّه فی نفسه ممکن لا محذور فیه علی فرض استلزام هذا القول له، لکنّه ـ أیضاً ـ ممنوع.
هذا، لکن لقائلٍ أن یقول : إنّ العلّة الغائیّة ـ التی هی علّة فاعلیّة الفاعل ـ وإن کانت ممّا لابدّ منها فی الأفعال الاختیاریّة، حتّی فعل العابث؛ فإنّ لفعله ـ أیضاً ـ غایة، غیر أنّها لیست عقلائیّة، ولابدّ ـ أیضاً ـ من تقدّمها علی الفعل ذهناً وتأخّرها عنه خارجاً، لکنّه لا یقتضی أزید من أنّه لابدّ أن یکون الفعل بحیث یصلح لأن یترتّب علیه تلک الغایة، وبهذا تفترق عن الفائدة التی قد تترتّب علی الفعل، ولا تُثبت هذه المقدّمات تضییق دائرة المعنی ومحدودیّته فی حدّ نفسه وذاته.
وحینئذٍ نقول : الوضع من الأفعال الاختیاریّة، التی لابدّ فیها من غایة هی إفهام المعانی بالألفاظ فی مقام التفهیم والتفهّم، فلابدّ أن یکون الوضع بحیث یترتّب علیه تلک الغایة، لا أنّ الموضوع له مقیّد فی نفس الأمر بالإرادة.
ومنه یظهر : ما فی الاستدلال بما ذکرنا لإثبات أنّ الألفاظ موضوعة للمعانی المرادة.
فتلخّص : أنّ الحقّ أنّ الألفاظ موضوعة للمعانی النفس الأمریّة من حیث هی بلا تقیید ذاتاً ولا تقیید فی مقام الوضع بالإرادة، سواء کانت استعمالیّة أو تفهّمیّة.
واستدلَّ أیضاً لهذا القول : بأنّه لولا ذلک لزم لَغویّة الوضع؛ لأنّ الوضع إنّما هو لإرادة المعنی من اللّفظ حیث یطلق فی مقام التفهیم والتفهّم، فلولا تقیید المعنی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 71
الموضوع له بهما لزم اللغویّة.
والجواب : أنّه یکفی فی دفع محذور اللَّغویّة صلاحیّةُ الوضع لأن یترتّب علیه تلک الغایة، التی هی إفهام الغیر هذا المعنی من ذاک اللّفظ.
وأمّا ما ذکره العَلَمان : ـ الشیخ الرئیس والمحقِّق الطوسی ـ من أنّ الدلالة تتبع الإرادة فقد یتوهّم أنّه مستلزم للقول بأنّ الموضوع له للألفاظ هی المعانی المرادة، وأنّ الإرادة جزء المعنی الموضوع له، وإلاّ لم یدلّ اللّفظ علی معناه، کما هو ظاهر کلامهما.
وأوّلَه فی «الکفایة» بما لا یرضیان به، وهو أنّ مرادهما هو أنّ التصدیق بأنّ هذا المعنی مراد للاّفظ من هذا اللّفظ، إنّما یتحقّق إذا کان قد أراده ثبوتاً؛ کی یستکشف باللّفظ، وإلاّ لم یکن الکشف حقیقیّاً.
والحقّ : أنّ مرادهما لیس هو ذلک، بل إنّما ذکر المحقّق الطوسی ذلک، لدفع الإشکال المشهور علی تعریف الدلالات الثلاث : بانتقاض تعریف کلّ منها بتعریف الآخر فیما لو کانت الأوضاع متعدِّدة : وُضع لفظ مرّةً لمرکّب، واُخری لأحد جزءیه، وثالثة للازمه، علی ما فُصِّل فی المنطق فراجع.
وحاصل جوابه : أنّ دلالة اللّفظ علی معنی تتبع الإرادة؛ بمعنی أنّ المتکلّم إن أراد المعنی المطابقی للّفظ فدلالة اللّفظ تابعة له، فلا تدلّ ـ حینئذٍ ـ علی جزئه أو لازمه بالمطابقة، وإنْ أراد جزء الموضوع له بما أنّه جزء له، فاللّفظ ـ أیضاً ـ یدلّ علیه بالتضمّن، وإنْ أراد لازمه بما أنّه لازم فالدلالة التزامیّة لا مطابقیّة وإن کان بلحاظ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 72
وضع آخر مطابقة فالدلالة تابعة لإرادة المتکلّم، فلا وجه لحمل کلامهما علی ما ذکره فی «الکفایة».
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 73