المقدمة وتشتمل علی اُمور

المبحث الرابع : فی وضع الحروف

المبحث الرابع : فی وضع الحروف

‏وقبل الخوض فی المطلب لابدّ من بیان المعنی الاسمی والحرفی، وأنّهما متغایران،‏‎ ‎‏خلافاً لبعض؛ حیث زعم أنّهما واحد‏‎[1]‎‏.‏

فنقول : ‏الموجودات الخارجیّة مختلفة فی کیفیّة وجودها، فالجواهر موجودة فی‏‎ ‎‏الخارج بنفسها استقلالاً، ویُشار إلیها إشارة حسّیّة، کزید وعمرو وغیرهما،‏‎ ‎‏والأعراض موجودة فیه، ویُشار إلیها إشارة حسّیّة أیضاً، لکن لا بنحو الاستقلال، بل‏‎ ‎‏تبعاً للغیر کالسواد والبیاض.‏

‏وأمّا الرابط فی قولنا : «زید له البیاض» ونحوه، فله أیضاً نحو وجود فی الخارج،‏‎ ‎‏وحقیقة خاصّة فی قبال العدم، إلاّ أنّه لیس مثل الجواهر والأعراض؛ یُشار إلیه‏‎ ‎‏بالإشارة الحسّیّة، بل هو عبارة عن الکون الربطی الذی یرتبط به الموضوع بالمحمول،‏‎ ‎‏ولولاه لم یتحقّق الارتباط بینهما، وکذلک الرابط فی قولنا : «زید علی السطح». هذا فی‏‎ ‎‏الموجودات الخارجیّة.‏

‏وأمّا الموجودات الذهنیّة فعالم الذهن أوسع من عالم الخارج، فما یوجد فی‏‎ ‎‏الخارج مُستقلاً کالجواهر، أو تبعاً کالأعراض، یوجد فی الذهن أیضاً کذلک، وکذا‏‎ ‎‏الکون الرابط بتصوّر قولنا : «زید له القیام» مثلاً، ویمکن تصوّر الرابط ـ أی مفهومه ـ‏‎ ‎‏ولحاظه استقلالاً بتصوّر کلّ واحدٍ من «زید» و «قیام» والرابط بینهما استقلالاً.‏

‏لکن معنی الرابط بهذا اللحاظ معنیً اسمی یحمل علیه مفهوم الرابط بالحمل‏‎ ‎‏الأوّلی، ومعناه الأوّل حرفی یحمل علیه مفهوم الرابط حملاً شائعاً، ویمکن حکایة‏‎ ‎‏الرابط الملحوظ استقلالاً عن الرابط الخارجی الغیر المستقلّ.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 38
وبالجملة : ‏الموجود فی الخارج استقلالاً هو «زید» و «البصرة» و «الکوفة» فی‏‎ ‎‏قولنا «سرتُ من البصرة إلی الکوفة» وأمّا الابتداء والانتهاء فهما وإن کان لهما نحو‏‎ ‎‏وجود فی الخارج، ولیسا من الاُمور العدمیّة، إلاّ أنّ وجودهما لیس مثل وجود «زید»‏‎ ‎‏و «البصرة» و «الکوفة» فی الاستقلال والإشارة الحسّیّة إلیه، فلفظتا «من» و «إلی»‏‎ ‎‏موضوعتان لهذین المعنیین الغیر المستقلّین، بخلاف «زید» و «البصرة» و «الکوفة».‏

فاتّضح بذلک : ‏کمال الفرق بین المعنی الاسمی والحرفیّ وعدم استقامة ما‏‎ ‎‏فی «الکفایة» من اتّحاد معنیی الاسمی والحرفی، وأنّ الاختلاف إنّما هو فی‏‎ ‎‏کیفیّة الاستعمال‏‎[2]‎‏.‏

وبعبارةٍ اُخری : ‏الموجودات لها أقسام : ‏

منها : ‏ما له استقلال فی الوجود خارجاً وتعقّلاً، کزید وعمرو ونحوهما.‏

ومنها : ‏ما لیس له استقلال فی الوجود الخارجی، لکنّه مستقلّ فی التعقّل، وله‏‎ ‎‏ماهیّة مستقلّة، کالأعراض من السواد، والبیاض ونحوهما.‏

ومنها : ‏ما لا استقلال له أصلاً، لا فی الوجود الخارجی، ولا فی اللحاظ الذهنی،‏‎ ‎‏بل وجوده تبعی للغیر الخارجی والذهنی، کالنسب والإضافات الجزئیّة، وابتداء‏‎ ‎‏السیر من البصرة وانتهائه إلی الکوفة، والأوّلان من المعانی الاسمیّة، والثالث من‏‎ ‎‏المعانی الحرفیّة.‏

‏ثمَّ إنّهم اختلفوا فی أنّ الحروف کلّها إیجادیّة وإیقاعیّة؛ بمعنی أنّ المتکلِّم یوجد‏‎ ‎‏باستعمال ألفاظها معانیها فی الخارج ویُنشئها، أو إخطاریّة تحکی عن معانیها فی‏‎ ‎‏الخارج، أو أنّ بعضها إیقاعیّة وبعضها إخطاریّة :‏

‏ذهب المیرزا النائینی ‏‏قدس سره‏‏ إلی الأوّل علی ما فی «التقریرات».‏

‏والثانی مذهب الآغا ضیاء ‏‏قدس سره‏‏.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 39
قال المیرزا النائینی ‏قدس سره‏‏ علی ما فی تقریرات درسه : ‏‏إنّ الأسماء کلّها إخطاریّة‏‎ ‎‏تحکی عن معانیها، بخلاف الحروف فإنّها إیقاعیّة، ک «یاء» النداء و «کاف» الخطاب،‏‎ ‎‏فباستعمالهما یوقع النداء والمخاطبة، ولا تحقّق لمعانیهما قبل الاستعمال لیحکیا عنها، بل‏‎ ‎‏یُوقَعان ویُنشآن بالاستعمال.‏

‏ثمّ ذکر أنّ باقی الحروف کذلک قطعاً انتهی‏‎[3]‎‏.‏

أقول : ‏ظاهر کلامه أنّ بین الإیقاعیّة والإخطاریّة تبایناً وتنافیاً، لا یمکن‏‎ ‎‏اجتماعهما فی لفظٍ واحدٍ، ولیس کذلک علی تقدیر أن یرید من الإخطاریّة خطور‏‎ ‎‏معانیها فی الذهن؛ فإنّ من الحروف ما تُستعمل لإیقاع معانیها؛ لأنّها إخطاریّة وضعت‏‎ ‎‏للدلالة علی معانیها، فهی تدلّ علی إیقاع النسبة بملاحظة حضور معناها فی الذهن،‏‎ ‎‏وإلاّ فمع قطع النظر عن حصول معناها فی الذهن، فمجرّد لفظها مع عدم لحاظ المتکلّم‏‎ ‎‏مفهومها ومعناها، لا یدلّ علی إیقاع معناها.‏

فالحقّ کما یشهد به الوجدان : ‏أنّ بعض الحروف کذلک؛ یعنی أنّها وُضعت‏‎ ‎‏لإیقاع لا فی الخارج، بل فی القضیّة الملفوظة؛ لأنّها تحکی عن معانیها، فإنّه لو قیل :‏‎ ‎‏«سرت، البصرة، الکوفة» أی کلّ واحدٍ منها مفرداً، لا یُفهم منه ابتداء السیر من‏‎ ‎‏البصرة والانتهاء إلی الکوفة، فللدلالة علی هذا المعنی فی القضیّة الملفوظة یُذکر لفظتا‏‎ ‎‏«من» و «إلی» فالإیقاع بهذا المعنی لا ینافی الحکایة والإخطار، بل یحتاج إلی الإخطار‏‎ ‎‏بالمعنی المتقدّم.‏

‏ومن الحروف ما وضعت لإیقاع المعنی وإیجاده فی الخارج بالاستعمال، مثل‏‎ ‎‏«یاء» النداء وحروف التنبیه وأدوات القسم ونون التأکید، ولیس فی الخارج قبل‏‎ ‎‏النداء شیء؛ لیحکی عنه حرف النداء وغیره من الحروف المذکورة، بل باستعمالها‏‎ ‎‏یوجد معانیها فی الخارج، والإیقاع بهذا المعنی ینافی الإخطاریّة والحکایة بخلاف‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 40
‏المعنی الأوّل.‏

‏وأمّا «کاف» الخطاب فقد یقال : إنّها إیجادیّة وضعت لإیقاع المخاطبة فی‏‎ ‎‏الخارج، ولیس کذلک، بل فیها احتمالان : ‏

أحدها : ‏أنّها موضوعة للدلالة علی ذکوریّة المخاطب واُنوثیّته، أو وحدته‏‎ ‎‏وتثنیته وجمعه مثل : «ذلک» و «ذلکما» و «ذلکم» و «ذلکنّ».‏

وثانیهما : ‏أنّها تدلّ علی المذکورات من دون أن تکون موضوعة لها، والظاهر‏‎ ‎‏هو الأوّل.‏

‏واستدلّ المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ علی ما فی تقریرات درسه لإخطاریّة الحروف :‏‎ ‎‏بامتناع إیقاع معانیها التی هی الصور الذهنیّة بها بوجوه : ‏

الأوّل : ‏أنّه مُستلزم للمحال؛ وذلک لأنّ استعمالها حینئذٍ علّة لوجودها، والعلّة‏‎ ‎‏مُتقدّمة علی المعلول، فلابدّ أن یتقدّم الاستعمال علی المستعمل فیه، تقدّم العلّة علی‏‎ ‎‏معلولها، لکن استعمال اللّفظ فی المعنی متوقّف علی وجود المعنی قبل الاستعمال‏‎ ‎‏لیستعمل فیه، فیلزم تقدّم الاستعمال علی المستعمل فیه وتأخّره عنه، وهو محال‏‎[4]‎‏.‏

وفیه : ‏أنّ تقدّم استعمالها علی المستعمل فیه بنحو تقدّم العلّة علی المعلول أو‏‎ ‎‏بالطبع مسلَّم، إلاّ أنّا لا نُسلِّم لزوم تقدّم المستعمل فیه فی الوجود علی الاستعمال فی‏‎ ‎‏الإیقاع، بل یوقع ویوجد بالاستعمال، فالاستعمال عند القائل بإیقاعیّة الحروف عبارة‏‎ ‎‏عن طلب عمل اللّفظ فی إیجاد المعنی، وأنّ معناها یوجد بالاستعمال.‏

نعم : ‏القائل بإخطاریّة الحروف لابدّ أن یقول بلزوم تقدّم المعنی علی الاستعمال‏‎ ‎‏لتحکی عن معانیها، بخلاف القائل بإیقاعیّة الحروف.‏

الثانی : ‏أنّ المدلول بالذات لللّفظ ومعناه الأوّلی هو الصورة الحاصلة من اللّفظ‏‎ ‎‏فی الذهن، ولا یُعقل حضور الموجود فی الخارج فی الذهن، فالموجود فی الخارج هو‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 41
‏المدلول بالعرض، والمدلول بالذات فانٍ فیه، فلو کانت الحروف إیجادیّة، لزم انتقال‏‎ ‎‏الموجود الخارجی إلی الذهن، وهو محال، فلابدّ أن تکون إخطاریّة موضوعة بإزاء‏‎ ‎‏الصورة المعقولة فی الذهن‏‎[5]‎‏.‏

وفیه أوّلاً : ‏النقض بالأعلام الشخصیّة، فإنّه ‏‏قدس سره‏‏ قائل بأنّها موضوعة للهویّة‏‎ ‎‏الشخصیّة الخارجیّة، وعلی ما ذکره یلزم من استعمالها انتقال الموجود الخارجی‏‎ ‎‏إلی الذهن.‏

وثانیاً : ‏بالحلّ؛ فإنّه لا یلزم من وضع الحروف للمعانی الموجودة فی الخارج‏‎ ‎‏انتقال الموجود الخارجی ـ بما أنّه خارجی ـ إلی الذهن، بل توجد صورته فی الذهن،‏‎ ‎‏کما أنّه لو اُطلق لفظ «زید» انتقش فی ذهن المخاطب صورة وجوده الخارجی،‏‎ ‎‏لا الشخص الخارجی بما أنّه خارجی، ولا یلزم انتقال الموجود الخارجی إلی الذهن،‏‎ ‎‏وکذلک الحروف.‏

وثالثاً : ‏أنّا لا نُسلِّم أنّ شیئاً من الألفاظ موضوعة للموجود فی الخارج، حتّی‏‎ ‎‏فی أسماء الأجناس ک «الإنسان»، فإنّها موضوعة للماهیّة المجرّدة التی هی لا کلّیّة‏‎ ‎‏ولا جزئیّة، ملحوظة بالعرض بلحاظ صورتها بالذات، وقد تقدّم عدم اعتبار لحاظ‏‎ ‎‏المعنی الموضوع له بالذات، بل یکفی اللحاظ العرضی بسبب لحاظ أمرٍ آخر من‏‎ ‎‏مصادیقه، کزید وعمرو، أو من مصادیق نقیضه، کما فی قولنا : «المعدوم المطلق لا یخبر‏‎ ‎‏عنه» فیتصوّر للمعدوم المطلق صورة فی العقل هی مرآة له وتلک الصورة معقولة‏‎ ‎‏بالذات، والمعدوم معقول بالعرض، وتلک الصورة من مصادیق نقیض المعدوم، بناءً‏‎ ‎‏علی أنّ الصور الذهنیّة من الکیفیّات النفسانیّة، وهی تناقض المعدوم المطلق، وهکذا‏‎ ‎‏سائر الأسماء والحروف، حتّی الأعلام الشخصیّة؛ فإنّ جمیعها موضوعة للصور‏‎ ‎‏الذهنیّة، لا الأفراد الخارجیّة.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 42
الثالث من الوجوه : ‏أنّه لا شبهة فی استعمال أدوات النداء والتنبیه والترجّی‏‎ ‎‏والتمنّی والطلب ونحوها فی غیر ما هو نداء وتنبیه وترجّ وتمنّ وطلب بالحمل الشائع،‏‎ ‎‏بل کثیراً ما تُستعمل هذه بداعی التشوّق والسخریّة والتودّد والتوجّد‏‎[6]‎‏ والتعجیز‏‎ ‎‏والتهدید، وغیر ذلک من الدواعی الاُخر، کما هو مذکور فی محلِّه، ولا ریب فی أنّ‏‎ ‎‏الموجود بهذا الاستعمال لیس فرداً من أفراد معانیها، فلیس استعمال أدوات النداء‏‎ ‎‏بداعی التوجّد مثل قوله :‏

‏یاکوکباً ما کان أقصرَ عمرَهُ...‏‎[7]‎‏.‏

‏نداءً بالحمل الشائع، بل توجّداً، وکذلک استعمال الأمر بداعی التعجیز، کقوله‏‎ ‎‏تعالی : ‏‏«‏کُونُوا حِجارَةً أوْ حَدیداً‏»‏‎[8]‎‏ فإنّه لیس طلباً بالحمل الشائع وهکذا.‏

وحینئذٍ : ‏فإمّا أن یکون استعمال هذه الألفاظ فی هذه المعانی مجازاً وبضرب من‏‎ ‎‏العنایة، وهو مّما لا یقول به المفصّل، وإمّا حقائق استُعملت فی معانیها الموضوعة لها،‏‎ ‎‏لکن بداعی أحد هذه الاُمور المذکورة؛ من التوجّد والتشوّق وغیرهما، فیکون معانیها‏‎ ‎‏غیر ما یوجد بها حتّی فیما إذا استُعملت بداعی إفادة ما وضعت له‏‎[9]‎‏ انتهی.‏

أقول : ‏وفیه :‏

أوّلاً :‏ أنّه لا مانع من الالتزام بالتجوّز، ولا دلیل علی خلافه.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 43
وثانیاً : ‏بالالتزام بالثانی؛ أی أنّها حقائق.‏

بل التحقیق : ‏أنّ اللّفظ فی جمیع المجازات مُستعمل فیما وضع له، لکنّه یجعل مَعبراً‏‎ ‎‏إلی معنیً آخر، کما فی «رأیتُ أسداً یرمی» فإنّ «الأسد» مُستعمل فی معناه الحقیقی؛‏‎ ‎‏بدعوی أنّ «زیداً» من مصادیقه، کما یأتی بیانه إن شاء الله تعالی.‏

وحینئذٍ :‏ فحرف النداء فی الموارد المذکورة مُستعمل فی معناه الحقیقی، وکذلک‏‎ ‎‏حروف التمنّی والترجّی مستعملة فی معانیها الحقیقیّة بداعی التوجّد والتشوّق؛ بادّعاء‏‎ ‎‏أنّهما من أفراد النداء ومصادیقه.‏

فتلخّص : ‏أنّ الحقّ هو التفصیل، وأنّ بعض الحروف إیقاعیّة، وبعضها إخطاریّة،‏‎ ‎‏والوجدان شاهد علیه، ولا دلیل علی خلافه أیضاً.‏

نعم یمکن أن یقال : ‏إنّ بعض الحروف لیست إیقاعیّة ولا إخطاریّة، بل من‏‎ ‎‏قبیل أسماء الأصوات، کما هو محتمل فی حرف النداء.‏

وقال بعض مُقرری درسه : ‏إنّ الموجودات فی العین علی أنحاء : منها وجود‏‎ ‎‏الجواهر، ومنها وجود الأعراض بأقسامها التسعة، المُعبَّر عنها بالوجود الرابطی،‏‎ ‎‏ومنها ربط الأعراض بموضوعاتها، المُعبَّر عنها بـ «الوجود الرابط».‏

‏والعرض من حیث افتقاره إلی الموضوع ینقسم إلی قسمین : ‏

أحدهما : ‏ما یستغنی بموضوع واحدٍ، مثل مقولة الکم والکیف.‏

وثانیهما : ‏ما یحتاج فی تحقّقه إلی موضوعین یتقوّم وجوده بهما، کمقولة الأین‏‎ ‎‏والإضافة وسائر الأعراض الإضافیّة.‏

‏والسیرة العقلائیّة حسب الاستقراء، تدلّ علی أنّهم لم یُهملوا معنیً من المعانی‏‎ ‎‏التی تدور علیها الإفادة والاستفادة من جعل الطریق لها.‏

إلی أن قال : ‏قد وجدنا أنّ الأسماء تدلّ علی الجواهر وجملة من الأعراض،‏‎ ‎‏ووجدنا الحروف تدلّ علی جملة من الأعراض الإضافیّة النسبیّة، ووجدنا الهیئات‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 44
‏تدلّ علی ربط هذا العرض الأینی بموضوعه؛ أعنی زیداً، وکذلک هیئة «عالم»‏‎ ‎‏و «أبیض» و «مضروب» تدلّ علی ربط العرض بموضوع ما، وکذلک بقیّة الحروف،‏‎ ‎‏فإنّها تدلّ علی إضافة خاصّة وربط مخصوص بین المفاهیم الاسمیّة.‏

فإن قلتَ : ‏ما ذکرته یمکن تصدیقه فی مثل لفظة «من» و «إلی» و «علی»‏‎ ‎‏و «عن» وما رادفها من الحروف؛ بدعوی وضعها لأصناف مقولة الأین من الأین‏‎ ‎‏الابتدائی، والأین الظرفی، والأین الاستعلائی، والأین التجاوزی، والأین الانتهائی.‏

‏لکن یشکل ذلک فی أکثر الحروف، ک «یاء» وحروف التأکید والقسم ونحوها،‏‎ ‎‏التی یشکل جدّاً تشخیص کون مدلولها عرضاً من الأعراض.‏

قلتُ : ‏قد عرفتَ أنّه ینحصر معنی الحروف فی الجوهر والعرض، أو ربطه بمحلّه،‏‎ ‎‏ولا شبهة فی عدم کون معناها من الجواهر، فینحصر فی الأعراض وربطها بمحالّها.‏

‏ولا مجال لتوهّم أنّ معانی الحروف فی الموارد المذکورة هی ربط الأعراض‏‎ ‎‏بمحالّها، وکون نفس الأعراض مدلولة للهیئات علی عکس سائر الموجودات،‏‎ ‎‏فالاستقراء یحکم بأنّ حال الحروف المذکورة کحال سائر الحروف؛ من أنّها دالّة علی‏‎ ‎‏الأعراض، والهیئات دالّة علی ربطها بمحالّها، وأمّا تشخیص أنّه من أی أنواع‏‎ ‎‏الأعراض، فلیس هو بمهمّ فی المقام.‏

إن قلت : ‏إذا کان مدلول الحرف عرضاً نسبیّاً فهو بذاته مرتبط بموضوعه،‏‎ ‎‏وعلیه فنفس الحرف الدالّ علیه دالّ علی الربط کما ذکر.‏

قلت : ‏الذی یظهر من هذا الإشکال أنّ اللاّزم الباطل من القول بوضع الحروف‏‎ ‎‏للأعراض النسبیّة إنّما هو تکرار دلالة الجملة المُتضمّنة للحروف علی ربط العرض‏‎ ‎‏ـ الذی هو مدلول الحروف ـ بموضوعه، ولکنّ الأمر لیس کذلک؛ وذلک لأنّ الحروف‏‎ ‎‏تدلّ علی العرض المنتسب إلی موضوع ما، والهیئة تدلّ علی ربط ذلک العرض‏‎ ‎‏بموضوع معیّن مفصَّلاً.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 45
‏فالهیئة تدلّ علی معنیً یستلزم تفصیل ما دلّ علیه الحرف مُبهماً ومُجملاً، کما هو‏‎ ‎‏الشأن فی دلالة الجمل التی لم تتضمّن حرفاً، مثل «زیدٌ قائمٌ»، فکما أنّ هیئة «قائم»‏‎ ‎‏دلّت علی ارتباط القیام بموضوع ما، وهیئة الجملة دلّت علی ارتباط ذلک العرض‏‎ ‎‏بـ «زید»، فکان مدلولها معنیً یستلزم تفصیل ذلک الربط الُمجمل، الذی دلّ علیه هیئة‏‎ ‎‏«زید قائم» کذلک هیئة جملة «زیدٌ فی الدار» فلفظة «فی» دلّت علی الأین منتسباً إلی‏‎ ‎‏موضوع ما، وهیئة الجملة دلّت علی ربط ذلک العرض بـ «زید» نفسه، فمدلول الأوّل‏‎ ‎‏غیر مدلول الثانی، فأین التکرار ؟! ‏‎[10]‎‏ انتهی محصّله.‏

ویرد علیه : 

‏أوّلاً : ‏‏أنّ فی کلامه تناقضاً؛ حیث صرّح أوّلاً فی صدر کلامه : بأنّ الحروف دالّة‏‎ ‎‏علی الکون الرابطی؛ أی الأعراض النسبیّة، وأنّها مُستقلّة بالمفهومیّة، ویُستفاد من‏‎ ‎‏الجواب عن الإشکال الثانی أنّ الفرق بین مدلول الهیئة ومدلول الحروف بالإبهام‏‎ ‎‏والتعیین، فمدلول الحروف هو عین مدلول الهیئة، ومدلول الهیئة هو الکون الرابط علی‏‎ ‎‏عقیدته، فلا یستقلّ بالمفهومیّة.‏

وثانیاً : ‏لو سُلّم تحقّق العرض النسبی والکون الرابطی ـ مضافاً إلی تحقّق‏‎ ‎‏الموضوع ووجوده فی الخارج والمحمول والربط ـ نقول : قد عرفت أنّ الدالّ علی‏‎ ‎‏الموضوع مثل : «زید له القیام» هو لفظ «زید» وعلی المحمول لفظ «القیام» والدالّ علی‏‎ ‎‏الربط بینهما لفظة «له» ولا یرتبط المحمول بالموضوع إلاّ بها، وأمّا الکون الرابطی المعبّر‏‎ ‎‏عنه بـ «العرض النسبی» فالدالّ علیه أیضاً هو الحرف، لکن لا بالمطابقة، بل بالالتزام.‏

وثالثاً : ‏هذا المعنی الذی ذکره للحروف مستقلّ بالمفهومیّة والتعقّل، فهو معنیً‏‎ ‎‏اسمی لا حرفی؛ فإنّ الأعراض النسبیّة طرف للربط أی المسند، والطرف الآخر هو‏‎ ‎‏المسند إلیه، ولا یمکن إسناد المعنی الحرفی إلی غیره، فما أفاده فی المقام غیر مُستقیم.‏


کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 46
وقد عرفت أنّ التحقیق : ‏هو أنّ بعض الحروف موضوعة للدلالة علی تحقّق‏‎ ‎‏الربط فی الخارج، مثل : «زید له القیام»، أو «سرتُ من البصرة إلی الکوفة»، وأمّا‏‎ ‎‏القضایا التی لا تشتمل علی الحرف، فالدالّ علی الربط فیها هو الحمل فی مثل : «زید‏‎ ‎‏قائم» وأنّ بعض الحروف موضوع لإیقاع معناها وإیجاده فی الخارج بالاستعمال،‏‎ ‎‏ک «یاء» النداء وحروف القسم والتنبیه والردع ونحوها.‏

‏ثمَّ إنّ وضع الحروف من أی قسم من أقسام الوضع؟‏

ذهب فی «الکفایة» : ‏إلی أنّ الوضع والموضوع له والمُستعمل فیها عامّ، کما فی‏‎ ‎‏أسماء الأجناس، وأنّ الخصوصیّة إنّما جاءت من قبل الاستعمال بتصرّف الواضع فی‏‎ ‎‏الاستعمال؛ حیث وضع لفظ «الابتداء» لیراد منه عند الاستعمال معناه الاسمی بنفسه،‏‎ ‎‏ووضع لفظة «من» لیراد منها معنی الابتداء أیضاً، لکن لا بنفسه، بل بما أنّه حالة وآلة‏‎ ‎‏لملاحظة الغیر، فهما مُترادفان، إلاّ أنّه لا یجوز استعمال أحدهما فی مورد الآخر.‏

والدلیل علی ذلک : ‏هو أنّه لو کان الموضوع له والمستعمل فیه أو کلاهما‏‎ ‎‏خاصّاً، فالخصوصیّة : إمّا خارجیّة، أو ذهنیّة.‏

فعلی الأوّل : ‏یُشکَل بأنّ الحروف کثیراً ما تستعمل فی المعانی الکلّیّة مثل :‏‎ ‎‏«سِرْ من البصرة إلی الکوفة» حیث إنّ السیر والابتداء قابلان للصدق علی کثیرین.‏

وعلی الثانی فیُشکَل أیضاً :

‏أوّلاً : ‏‏بأنّ لحاظ الحروف حالة لغیرهما کلحاظ الاسم مستقلاً، فکما أنّ لحاظ‏‎ ‎‏الاستقلالیّة لیس مُعتبراً فی الموضوع له فی الأسماء أو المستعمل فیه فیها، کذلک لحاظ‏‎ ‎‏أنّها حالة للغیر فی الحروف.‏

وثانیاً : ‏یلزم امتناع صدقه علی الخارج؛ لأنّه کلّی عقلی حینئذٍ، فیمتنع الامتثال‏‎ ‎‏فی مثل قوله : «سِرْ من البصرة إلی الکوفة» إلاّ بالتجرید.‏

وثالثاً : ‏باستلزامه المحال، وهو اجتماع اللحاظین؛ فإنّ لحاظ کونه حالة للغیر‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 47
‏إن کان مأخوذاً فی الموضوع له أو المستعمل فیه، وصار جزءاً له لزم لحاظه عند‏‎ ‎‏الاستعمال؛ إذ لابدّ من لحاظ المستعمل فیه لدی الاستعمال، واجتماع اللحاظین ممتنع‏‎[11]‎‎ ‎‏انتهی حاصله.‏

أقول : ‏أمّا ما أفاده فی فرض کون الخصوصیّة خارجیّة، فسیجیء ما فیه إن‏‎ ‎‏شاء الله تعالی.‏

‏وأمّا ما أورده من التوالی الفاسدة فی فرض کون الخصوصیّة ذهنیّة.‏

ففیه : ‏أنّ البحث إنّما هو ـ فی أنّ الوضع والموضوع له فی الحروف عامّان أو لا ـ‏‎ ‎‏مبنی علی تغایر المعنیین الاسمی والحرفی وعدمه، وقد وقع الخلط فی کلامه ‏‏قدس سره‏‏فی‏‎ ‎‏المقامین، فإنّه لو فرض تغایرهما، وأنّ مدالیل الحروف هی النسب الجزئیّة والروابط‏‎ ‎‏الخارجیّة ـ کما هو الحقّ ـ لم یبقَ حینئذٍ مجال لاحتمال عموم الموضوع له فیها، بل‏‎ ‎‏الموضوع له والمستعمل فیه فیها کلاهما خاصّان.‏

وأمّا القائل بإیجادیّة الحروف : ‏ـ وهو المیرزا النائینی ‏‏قدس سره‏‏ ـ فسلک مسلکاً آخر؛‏‎ ‎‏حیث ذکر : أنّه لیس المراد من الکلّیّة والجزئیّة هنا ما هو المتبادر منها فی المفاهیم‏‎ ‎‏الاسمیّة من قابلیّة الصدق علی کثیرین وعدمها، کما توهّمه فی «الکفایة»‏‎[12]‎‏ فأورد علی‏‎ ‎‏القائلین بأنّ الموضوع له فیها خاصّ : بأنّ المستعمل فیه فی الحروف غالباً عامّ، کما فی‏‎ ‎‏مثل «سِرْ من البصرة إلی الکوفة» فإنّ المستعمل فیه فی الحروف لیس إلاّ النسب‏‎ ‎‏والروابط فی الکلام؛ بحیث لو اُعید الکلام مرّةً ثانیة کانت النسبة مغایرة للاُولی، وهذه‏‎ ‎‏النسبة یستحیل صدقها علی الخارج حتّی تتّصف بالکلّیّة والجزئیّة.‏

إلی أن قال : ‏بل المراد بالکلّیّة والجزئیّة فی المعانی الحرفیّة هو أنّ ما تتقوّم به‏‎ ‎‏النسبةُ الکلامیّة ـ وهی أطراف الکلام ـ کما أنّها خارجة عن حریم المعنی الحرفی ، فهل‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 48
‏التقیّدات أیضاً خارجة، حتّی یکون الموضوع له واحداً وکلّیّاً، أم هی داخلة فی‏‎ ‎‏الموضوع له، حتّی یکون المعنی متعدّداً والموضوع له خاصّاً؟‏

وبعبارة اُخری : ‏المفاهیم الحرفیّة ـ کما عرفت ـ لا محالة معانٍ غیر استقلالیّة، بل‏‎ ‎‏إیجادیّة، فلابدّ فی مقام الوضع لها من تصوّر مفاهیم اسمیّة عامّة، کمفهوم النسبة‏‎ ‎‏الابتدائیّة، فیکون الوضع عامّاً لا محالة.‏

إلی أن قال : ‏إذا عرفت ذلک فالحقّ أنّ الموضوع له فیها کالوضع عامّ، فکما أنّ‏‎ ‎‏المفاهیم العرضیّة لا تحتاج فی مقام ماهیّاتها إلی موضوع، بل فی مقام وجودها،‏‎ ‎‏فکذلک المعانی الحرفیّة لا تحتاج فی مقام مفهومیّتها إلی خصوصیّة الطرفین، بل فی‏‎ ‎‏مقام استعمالها، فالموضوع له فیها هو المعنی الواحد بالهویّة المشترکة بین جمیع موارد‏‎ ‎‏الاستعمالات، والخصوصیّة إنّما نشأت من ناحیتها.‏

إلی أن قال : ‏وأمّا الاستدلال علی جزئیّة المعانی الحرفیّة بأنّها إیجادیّة، والشیء‏‎ ‎‏ما لم یتشخّص لم یوجد، فهو مبتنٍ علی عدم وجود الکلّی الطبیعی فی الخارج أصلاً،‏‎ ‎‏وأنّ الموجود فی الخارج هی الأشخاص، أو علی أنّ الکلّی وإن کان موجوداً، إلاّ أنّه‏‎ ‎‏لابدّ وأن یتشخّص فی رتبةٍ سابقة علی الوجود حتّی یوجد فی الخارج، والتشخّص‏‎ ‎‏مُساوق للوجود، فإنّه بناءً علیهما حیث إنّ المعانی الحرفیّة إیجادیّة، والإیجاد یستحیل‏‎ ‎‏تعلّقه بالکلّی فیستحیل أن یکون الکلّی موضوعاً له.‏

‏وأمّا إذا قلنا بأنّ الکلّی موجود فی الخارج، والتشخّص مساوق للوجود رتبةً،‏‎ ‎‏کما هو التحقیق ـ لأنّ متعلّق الوجود والتشخّص شیء واحد ـ فعلیه یکون الموضوع‏‎ ‎‏له نفس الکلّی وإن کان حین وجوده متشخّصاً بخصوصیّات الطرفین، إلاّ أنّ تلک‏‎ ‎‏الخصوصیّات من لوازم الوجود لا الماهیّة‏‎[13]‎‏ انتهی محصّل کلامه ‏‏قدس سره‏‏.‏

وحاصل جمیع ما أفاده : ‏هو أنّ الموضوع له فی الحروف عامّ، إلاّ أنّ هذا العامّ‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 49
‏غیر ما هو المصطلح منه، الذی هو نفس الطبیعة، بل المراد منه معنیً آخر عبارة عن‏‎ ‎‏معنیً واحد بالهویّة المشترکة بین موارد الاستعمالات، فلفظة «فی» فی قولنا : «زید فی‏‎ ‎‏الدار» معناها هو معناها فی «زید فی السوق» ومعناهما واحد.‏

لکن یرد علیه : ‏أنّ ابتناءه هذا المطلب علی القول بوجود الکلّی الطبیعی فی‏‎ ‎‏الخارج یستلزم القول بخصوصیّة الموضوع له فی الحروف؛ لما حقّق فی محلّه : أنّ‏‎ ‎‏الطبیعی موجود فی الخارج بنفسه ومُتکثِّر فیه، وأنّ کلّ واحدٍ من أفراده هو تمام ماهیّة‏‎ ‎‏الطبیعی، فزید تمام ماهیّة الإنسان، وکذلک سائر الأفراد، لا أنّه یتحصّص فی الخارج،‏‎ ‎‏ویوجد کلّ حصّة منها فی فرد من أفرادها، ولیس للطبیعة سوی وجود أفرادها وجود‏‎ ‎‏علی حِدة، إلاّ أنّه یمکن انتزاع مفهوم الإنسان مثلاً من الأفراد الخارجیّة، وحینئذٍ یلزم‏‎ ‎‏أن یکون الکلّی ـ الذی ذکره، وذهب إلی أنّه الموضوع له للحروف ـ نفسَ أفراده،‏‎ ‎‏والأفراد جزئیّة، فیلزم منه خصوصیّة الموضوع له للحروف.‏

وثانیاً : ‏یلزمه القول بوجود الکلّی فی الذهن مُلصَقاً بالأفراد الذهنیّة؛ نظیر‏‎ ‎‏القول بوجوده فی الخارج کذلک، کما مرَّ عن المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ وعرفت جوابه‏‎ ‎‏مفصّلاً، فلا نعیده.‏

والتحقیق : ‏أنّ الحروف مختلفة : منها إیقاعیّة، والوضع فیها لا محالة عامّ‏‎ ‎‏والموضوع له خاصّ؛ بلحاظ الواضع المفهوم الاسمی للربط ووضعه لما یحکی عنه هذا‏‎ ‎‏المفهوم من الروابط والنسب الجزئیّة؛ بنوع من الحکایة وإن لم تکن حقیقیّة؛ لعدم‏‎ ‎‏کونها من مصادیقها الحقیقیّة.‏

وتوهّم : ‏أنّها موضوعة لإیجاد الربط فی الخارج بالاستعمال مع عموم الموضوع‏‎ ‎‏له فیها، فیه ما لا یخفی، فإنّ ما یوجد فی الخارج جزئی حقیقی یُنافی فرض عموم‏‎ ‎‏الموضوع له فیها، وهذا القسم من الحروف نظیر وضع لفظٍ فی الأسماء لما سیولد له‏‎ ‎‏بعدُ، فإذا قیل : «یا زید» أو «یا رجال» أو «یا نساء»، فما یوجد بالنداء فیها واحد وإنّما‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 50
‏الاختلاف فی المنادی، وکذلک مثل حروف القسم والردع والتنبیه ونحوها، فإنّ‏‎ ‎‏الاختلاف فی موارد القسم إنّما هو فی المُقسم علیه.‏

ومنها : ‏إخطاریّة تحکی عن معانیها، والأمر فی هذا القسم من الحروف مشکل؛‏‎ ‎‏حیث إنّه إن قلنا : بأنّ الموضوع له فیها خاصّ، یرد علیه أنّ کثیراً ما تستعمل هی فی‏‎ ‎‏الکلّی، مثل : «سر من البصرة إلی الکوفة» ونحو : «کلّ جسم أبیض» فلابدّ إمّا من‏‎ ‎‏الالتزام بعدم اشتمال هذه الأمثلة علی الربط، فهو خلاف الوجدان الشاهد علی وجود‏‎ ‎‏الربط فیها، وإمّا الالتزام بعموم الموضوع له فیها، وهو أیضاً مُشکل؛ إذ کثیراً ما‏‎ ‎‏تُستعمل هی فی الخصوص مثل «سِرتُ من البصرة إلی الکوفة» و «زید له البیاض»،‏‎ ‎‏إلاّ أن یُقال : إنّه استعمال مجازی، وهو أشکل.‏

‏ولذلک ذهب صاحب «الفصول» إلی أنَّ الموضوع له فیها جزئی إضافی‏‎[14]‎‎ ‎‏وأخوه صاحب «الحاشیة علی المعالم» إلی أنّها موضوعة لأخصّ من شیءٍ‏‎[15]‎‎ ‎‏ومرجعه إلی الأوّل.‏

‏ویُشکل بأنّ الجزئی الإضافی أیضاً کلّی، ومرجعهما إلی القول بعموم‏‎ ‎‏الموضوع له فیها.‏

‏وذهب ثالث إلی أنّها تابعة للموضوع والمحمول فی الکلیّة والجزئیّة؛ أی العموم‏‎ ‎‏والخصوص‏‎[16]‎‏، فالموضوع له فیها فی مثل «کلّ جسم له البیاض» عامّ، وفی مثل «زید‏‎ ‎‏له البیاض» خاصّ.‏

والتحقیق : ‏هو أنّ الموضوع له فیها أیضاً خاصّ؛ لأنَّ المعانی الحرفیّة فی تحقّقها‏‎ ‎‏ووجودها الخارجی تابعة للغیر؛ لامتناع تحقّق الربط فی الخارج بدون المرتبطین، بل‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 51
‏وکذلک فی وجودها الذهنی؛ لامتناع تعقّل الربط الجزئی، الذی یصدق علیه کلّی الربط‏‎ ‎‏بالحمل الشائع بدون لحاظ المرتبطین، وکذلک فی مقام الدلالة أیضاً تابعة للغیر، فإنّ‏‎ ‎‏لفظة «من» مُجرّدة لا تدلّ علی الربط الابتدائی، ولفظة «إلی» علی الربط الانتهائی، بل‏‎ ‎‏تفتقرُ فی دلالتها إلی ضمیمة لفظ «البصرة» و «الکوفة» وحینئذٍ فلابدّ من تبعیّتها ـ فی‏‎ ‎‏کیفیّة الدلالة ـ للغیر أیضاً، فتدلّ علی الربط الکلّی فی مثل : «کلّ إنسان له التحیّز» مع‏‎ ‎‏عدم عموم الموضوع له فیها، وإلاّ لزم أن یکون معناها اسمیّاً صحّ وقوعه محمولاً؛‏‎ ‎‏لامتناع وقوع الحروف محمولاً، بل ودلالتها علی الربط الکلّی فی المثال، إنّما هو لأجل‏‎ ‎‏أنّها فی مقام الاستعمال تابعة للغیر الکلّی فی المثال، وإن کان الطرفان جزئیّین تدلّ علی‏‎ ‎‏الربط الجزئی مع خصوص الموضوع له فیها مطلقاً.‏

ویؤیّد ما ذکرنا : ‏أنّا نری کثیراً من الحروف ک «الواو» تقع عاطفةً وللقسم،‏‎ ‎‏ولفظة «من» لابتداء کلّی السیر فی مثل «سِرْ من البصرة» ولابتداء الجزئی منه کما فی‏‎ ‎‏«سِرْتُ من البصرة» فیعلم منه أنّها فی مقام الاستعمال تابعة للغیر مع أنّ الموضوع له‏‎ ‎‏فیها خاصّ ففیما کان الطرفان کلّیین، مثل «کلّ إنسانٍ له البیاض» استُعملت فی الکثیر،‏‎ ‎‏واستعمال اللّفظ فی الکثیر غیر عزیز، فلفظ «کلّ» فی المثال یکثِّر الإنسان، والإنسان‏‎ ‎‏یکثِّر الربط، فلفظة «له» مستعملة فی الکثیر.‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 52

  • )) کالمحقّق الخراسانی فی کفایة الاُصول : 25.
  • )) نفس المصدر : 25.
  • )) اُنظر فوائد الاُصول 1 : 37 ـ 39.
  • )) اُنظر بدائع الأفکار (تقریرات العراقی) 1 : 46.
  • )) نفس المصدر السابق 1 : 46 ـ 47.
  • )) یُقال : توجّدت لفلان، أی حزنت له. لسان العرب 15 : 220، «وجد».
  • )) هذا صدر بیت وعجزه : وکذلک عمر کواکب الأسحار.     وهذا البیت من قصیدة للفاضل الأدیب والشاعر البلیغ البارع أبی الحسن علی بن محمَّد بن الحسن الکاتب التهامی العاملی الشامی، المقتول فی تاسع جمادی الاُولی سنة 416ه وله دیوان مشهور طبع فی الإسکندریة سنة 1813م. اُنظر أمل الآمل 1 : 127 / 136، سیر أعلام النبلاء 1 : 381 / 242، شذرات الذهب 3 : 204، الکنی والألقاب 1 : 45.
  • )) الإسراء (17) : 50.
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات العراقی) 1 : 47.
  • )) بدائع الأفکار (تقریرات العراقی) 1 : 49 ـ 52.
  • )) کفایة الاُصول: 25 ـ 26.
  • )) نفس المصدر السابق.
  • )) اُنظر أجود التقریرات 1 : 27 ـ 29.
  • )) الفصول الغرویّة: 16.
  • )) هدایة المسترشدین : 30 ـ 31.
  • )) اُنظر مقالات الاُصول 1 : 23.