المبحث الثالث : فی أقسام الوضع
وقسّموه إلی أربعة أقسام : لأنّ الوضع والموضوع له إمّا عامّان، أو الوضع عامّ والموضوع له خاصّ، أو بالعکس، أو کلاهما خاصّ.
وحیث إنّه لابُدَّ فی الوضع من تصوّر المعنی الموضوع له، فإمّا أن یتصوّر الواضع معنیً کلّیّاً، ویضع اللّفظ لهذا المعنی الکلّی ، فهو القسم الأوّل، وإن تصوّر معنیً جزئیاً، ووضع لفظاً خاصّاً لهذا المعنی الجزئی، فهو الأخیر، وإن تصوّر معنیً کلّیّاً، ووضع اللّفظ بإزاء أفراده وجزئیّاته، فهو القسم الثانی ، وإن تصوّر معنیً جزئیّاً، ووضع اللّفظ بإزاء کلّیّه، فهو القسم الثالث.
لا إشکال عندهم فی ثبوت القسم الأوّل والأخیر، وإنّما الإشکال والخلاف
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 30
عندهم فی القسم الثانی والثالث، فذهب فی «الکفایة» إلی ثبوت القسم الثانی لا الثالث؛ مُحتجّاً بأنّ العامّ صالح لأن یصیر آلة للحاظ أفراده ومصادیقه بما هو عامّ، فإنّه وجهها، ومعرفة وجه الشیء هو معرفته بوجهٍ، بخلاف الخاصّ، فإنّه بما هو خاصّ لیس وجهاً للعامّ ولا لسائر الأفراد، فلا یکون معرفته وتصوّره معرفةً للعامّ ولا لها أصلاً ولو بوجه.
لکن یرد علیه :
أوّلاً : أنّه إن أراد أنّ العامّ آلة للحاظ أفراده وحاکٍ عنها بخصوصیّاتها الشخصیّة، فهو ممنوع؛ لتباین الأفراد المُتشخّص کلٌّ بخصوصیّاته، مع أنّ العامّ من حیث هو عامّ کیف یحکی عنها بخصوصیّاتها ؟!
لکن لا یعتبر فی الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ، حکایة العامّ الملحوظ عن خصوصیّات الأفراد الموضوع لها مُفصّلاً، بل یکفی الحکایة عنها ولو إجمالاً وبوجهٍ؛ بحیث یلزم من لحاظ العامّ وتصوّره الإنتقال إلی تصوّر الأفراد ولو إجمالاً.
وحینئذٍ : فیمکن لحاظ الأفراد حین الوضع بخصوصها، ووضع اللّفظ بإزاء العامّ وکلّیّها ـ أی الوضع الخاصّ والموضوع له العامّ ـ لحکایة الخاصّ عن العامّ إجمالاً وبوجهٍ، کما أفاده فی «الدرر» ومثَّل له : بأنّا إذا رأینا شخصاً وجزئیّاً خارجیّاً من دون أن نعرف تفصیلاً القدرَ المشترک بینه وبین سائر الأفراد، ولکن علمنا باشتماله علی جامع مشترکٍ بینه وبین سائر الأفراد، من کلّیّه، کما لو رأینا جسماً من بعید، ولم نعلم أنّه جماد أو حیوان، وعلی أی حالٍ لم نعلم أنّه من أی الأنواع، فوضعنا لفظاً لما هو مُشترک مع هذا المرئی فی الخارج من العامّ، فالموضوع له هو العامّ قد لوحظ إجمالاً ولو بوجهٍ.
ولیس الوجه فی الفرض إلاّ الجزئی الملحوظ؛ لأنّ المفروض أنّ الجامع عند
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 31
هذا الشخص لم یُعرف بعدُ، إلاّ بعنوان اتّحاده مع هذا الفرد فی الخارج.
وبالجملة : کما أنَّ العامّ وجه للخاصّ بالمعنی المتقدّم لمکان اتّحادهما فی الخارج، کذلک الخاصّ أیضاً وجه للعامّ لمکان هذا الاتّحاد، نعم مع العلم بالجامع تفصیلاً لا یکون الخاصّ وجهاً له؛ لأنّ العامّ بنفسه متصوّر تفصیلاً، وملحوظ بنفسه لا بوجهه.
نعم : لو قلنا : باعتبار حکایة الملحوظ عن الموضوع له بخصوصیّاته، وعدم کفایة تصوّره الإجمالی، امتنع القسمان للوضع معاً؛ أی الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ وبالعکس، لکن قد عرفت عدم اعتباره.
وثانیاً : أنّه إنْ أراد بقوله : «معرفة وجه الشیء معرفته بوجهٍ» أنّ تصوّر العامّ هو لحاظ تمام أفراده بخصوصیّاتها، فهو محال، لعدم تناهی أفراده، ولا یمکن لحاظ الغیر المتناهی تفصیلاً.
وإن أراد أنّ معرفة العامّ معرفة لأفراده إجمالاً وبعنوان أنّها مصادیق العام، فیلاحظ الواضعُ العام، ویضع اللّفظ بإزاء أفراده بعنوان أنّها مصادیقه، فالموضوع له حینئذٍ یصیر عامّاً؛ فإنّ عنوان ما هو مصادیق العامّ أیضاً عامّ وکلّی لا جزئی، إلاّ أنّه عنوان یشیر إلی الأفراد.
وقال المحقّق العراقی قدس سره فی «المقالات» فی المقام ما حاصله : أنّ الکلّی الطبیعی علی قسمین :
أحدهما : الموجود فی الذهن المنتزع عن الأفراد، کطبیعة الإنسان لا بشرط المنتزعة عن الأفراد الخارجیّة.
الثانی : الطبیعة الکلّیّة الموجودة فی الخارج بوجودها السِّعی ملصقةً بالأفراد الخارجیّة، ملازمةً لخصوصیّاتها المشتملة علی حصصها.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 32
والدلیل علی وجود هذا النحو من الکلّی فی الخارج هو أنّ الطبیعی الأوّل بالمعنی الموجود فی الذهن لیس مُنتزعاً من الأفراد الخارجیّة والحصص الکائنة فیه، ومعلولاً للأفراد، فلو لم یکن لأفرادٍ جامعٌ مشترک فیه، لم یمکن انتزاع الطبیعة الذهنیّة منها؛ لأنّ الواحد لا یصدر إلاّ من الواحد، فهذه الطبیعة بالنسبة إلی الأفراد الملصقة بها بمنزلة الآباء بالنسبة إلی أبنائهم، والطبیعة الاُولی بمنزلة أب الآباء.
وإن شئت توضیح ذلک فقسهُ بوحدة الوجود.
إذا عرفت هذا فاعلم : أنّ الواضع إمّا یلاحظ الطبیعة بالمعنی الأوّل، فیضع اللّفظ لها، فهو المعروف من الوضع العامّ والموضوع له العامّ.
وإن لاحظ الطبیعة بالمعنی الثانی الموجودة فی الخارج ملصقةً بالأفراد، ولها نحو اتّحاد فیه، ووضع اللّفظ لها، فهو قسم آخر من الوضع العامّ والموضوع له العامّ.
ثمّ قال : ومن دقّق النظر فی هذا الکلام وتأمّل فیه، یجده صحیحاً، ویصدّق المبنی والبناء. وسیأتی ما یشیر إلی ذلک انتهی.
أقول : وما وعده قد ذکره فی باب المعانی الحرفیّة، وجعلها من القسم الثانی من الوضع العامّ والموضوع له العامّ.
وإنّی کلّما دقّقتُ النظر وتأمّلتُ فیما ذکره زاد لی وضوحاً فی أنّ ما ذکره من البناء والمبنی وتطبیق المعانی الحرفیّة علی ما ذکره غیر صحیح :
أمّا أوّلاً : فلأنّه إن أراد من قوله : «إنّ الأفراد الخارجیّة مشتملة علی الحصص من الطبیعة» أنّ للطبیعة قطعاتٍ، وأنّ کلّ واحدٍ من الأفراد مشتمل علی قطعة منها، کما هو مقتضی تعبیره بـ «الحصة»، فهو واضح البطلان؛ بحیث لا یحتاج إلی البیان، فلابدّ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 33
أن یرید ما ذکره الرجل الهمدانی وصنّف الشیخ فی ردّه رسالة.
وإن أراد : أنّ فی الخارج شیئاً واحداً تشترک فیه جمیع الأفراد، فهو أیضاً محال؛ لأنّه لا یمکن أن یوجد فی الخارج إلاّ الواحد بوحدةٍ عددیّةٍ، وأمّا الواحد بوحدةٍ سنخیّةٍ فلا موطن له إلاّ الذهن، ولا یمکن وجوده فی الخارج، کما أنّ الواحد العددی لا یمکن وجوده فی الذهن، فوجود شیءٍ واحدٍ فی الخارج تشترک فیه الأفراد مُلصقاً بها بوحدةٍ سنخیّةٍ اعتباریةٍ من المحالات.
والتحقیق : أنّ الکلّی الطبیعی کثیر فی الخارج؛ بمعنی أنّ کلّ واحدٍ من الأفراد ـ کزید وعمرو وغیرهما من الأفراد ـ تمام ماهیّة الإنسان بدون زیادة ونقصان تُحمل علی کلّ واحدٍ من الأفراد بالحمل الشائع؛ الذی یکون المناط فیه الاتّحاد خارجاً والتغایر بین الموضوع والمحمول ذهناً، فزید الموجود فی الخارج تمام ماهیّة الإنسان وطبیعته، وکذا سائر الأفراد، مع التباین بین الأفراد فی الخارج.
وإن لُوحظت الطبیعة مجرّدة عن الخصوصیّات الشخصیّة، کما فی صورة الغفلة عن الخصوصیّات الفردیّة، فهی الطبیعة لا بشرط، ولا موطن لها إلاّ الذهن، لا فی حاقّه بل فی تحلیله العقلی.
وأمّا ما استدلّ به علی ما ذکره : من انتزاع الکلّی من الأفراد... إلی آخره، فلا یخفی ما فیه، إذ لیس المراد انتزاع أمر خارجی من الأفراد الخارجیّة وإیطانه فی الذهن؛ بأن یوقع ذلک الأمر الخارجی فی الذهن، بل المراد من الانتزاع تجرید الأفراد عن الخصوصیّات الفردیّة، کما إذا لُوحظ ماهیّة الإنسان مع الذهول والغفلة عن
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 34
الخصوصیّات الشخصیّة والمشخّصات الخارجیّة، فالملحوظ حینئذٍ هو نفس الطبیعة.
وإنّما قیّدنا بصورة الذهول عن الخصوصیّات؛ إذ مع الالتفات والتوجّه إلی الخصوصیّات الفردیّة یستحیل انتزاع الطبیعة من الأفراد.
وأمّا قولهم : «الواحد لا یصدر إلاّ من الواحد» فهو أجنبی عن المقام؛ فإنّ محلّه الواحد البسیط من جمیع الجهات، وقد ثبت فی محلّه بالبرهان : أنّ البسیط من جمیع الجهات لا یصدر منه إلاّ الواحد، ولا یصدر إلاّ من الواحد.
والإیراد علیه : بما یُشاهد بالوجدان من صدور الواحد من الاثنین کتسخّن الماء بالشمس والنار معاً، أو قتل واحد بسهمین، أو السراجین یضیئان بیتاً واحداً ونحو ذلک، فهو ناش عن الخلط بین المسألة العقلیّة والعرفیّة، والقاعدة کما عرفت إنّما هی فی البسیط من جمیع الجهات، لا کلّ واحدٍ، مثل الأمثلة المذکورة.
وبالجملة : کلّما تأمّلتُ فیما ذکره، ودقّقتُ النظر فیما أفاده، إزداد الإشکال علی ما ذکره، والاطمئنان بعدم استقامته مبنیً وبناءً وتطبیقاً للمعانی الحرفیّة علیه.
فتحصّل : أنّ الوضع العامّ والموضوع له العامّ لیس له إلاّ قسم واحد.
وهنا إشکال لو لم یکن دافعٌ له یلزم منه انتفاء الوضع العامّ، سواءً کان الموضوع له عامّاً أم خاصّاً، وهو أنّ الکلّی الملحوظ فی الذهن ـ کالإنسان المتصوَّر فی الذهن ـ من الموجودات الذهنیّة، سواء لُوحظ وجوده فیه، أم کان مغفولاً عنه، فهو جزئی حقیقی ذهنی.
کما أنّ زیداً جزئی خارجی، فلا یمکن صدقه علی الأفراد الخارجیّة؛ فإنّه أیضاً من أفراد طبیعة الإنسان المحمولة علیه بالحمل الشائع وشیء موجود بالفعل، ویمتنع حمل شیء خارجی بالفعل علی آخر کذلک؛ لأنّ قضیّة هذا الحمل هو الاتّحاد فی الخارج، والشیئان الفعلیّان یمتنع اتّحادهما فیه مع بقاء الشیئیّة الفعلیّة لکلّ واحدٍ
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 35
منهما، ومع عدم بقائها فی أحدهما، فلیس هو شیء حتّی یتّحد مع الآخر، وکذا مع انتفائها فیهما.
فانقدح بذلک : امتناع حمْل الموجود فی الذهن علی الموجود فی الخارج، وکلُّ ما یوجد فی الذهن فهو جزئی لا کلّی، وحینئذٍ یلزم انتفاء الوضع العامّ رأساً.
ویمکن دفعه : بأنّ الملحوظ فی الذهن أوّلاً وبالذات وإن کان جزئیاً حقیقیاً ذهنیاً کالإنسان الملحوظ، لکنّه مرآة لطبیعة الإنسان اللاّبشرط، وهی ملحوظة ثانیاً وبالعرض، فیمکن بهذا اللّحاظ وضع لفظٍ بإزائها أو بإزاء أفرادها.
ثمّ إنّهم مثّلوا للوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ بالأعلام الشخصیّة وهو لا یخلو عن إشکالٍ وإن أرسلوه إرسال المسلّمات؛ حیث إنّ لفظ «زید» مثلاً لو کان موضوعاً للهویّة الشخصیّة الخارجیّة التی یحمل علیها «الحیوان الناطق» بالحمل الشائع، لزم التجوّز فی قولنا : «زید موجود» فإنّه بمنزلة قولنا : «زید الموجود موجود» ویلزم منه عدم صحّة قولنا : «زید معدوم» لأنّ مرجعه إلی قولنا : «زید الموجود معدوم» وکذا قولنا : «زید إمّا موجود أو معدوم».
والتّوالی کلّها فاسدة؛ لعدم الفرق بین قولنا : «زید موجود» وبین قولنا : «زید ابن عمرو» فی أنّه لا تجوّز فی واحدٍ منها، ولو وضع اللّفظ للماهیّة الملحوظة التی لم تکن فکانت ـ التی هی مرآة للهویّة الشخصیّة الخارجیّة ـ لزم أن یکون الوضع والموضوع له کلاهما عامّین فیه؛ لإمکان صدق تلک الماهیّة علی کثیرین، وإن لم یوجد لها إلاّ فرد واحد؛ لوضوح عدم اعتبار الصدق علی کثیرین بالفعل، بل إمکان الصدق عقلاً وإن لم یوجد له فرد فی الخارج أصلاً، کشریک البارئ، فإنّ مفهومه فی عالم
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 36
المفهومیّة ممکن الصدق علی کثیرین، ولا یأبی عنه، إلاّ أنّ البرهان العقلی القطعی قام علی امتناع وجود فرد منه فی الخارج، وقد یوجد من الکلّی فی الخارج فرد واحد فقط، کالبارئ جلّت عظمته.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 37