المقدمة وتشتمل علی اُمور

الأمر الثانی فی تمایز العلوم

الأمر الثانی فی تمایز العلوم

‏ ‏

‏اختلفوا فی أنّ تمایز العلوم هل هو بتمایز الموضوعات، أو بتمایز المحمولات، أو‏‎ ‎‏بتمایز الموضوعات المحیَّثة بالحیثیّة الفعلیّة، أو الاستعدادیة، أو غیر ذلک‏‎[1]‎‏ ؟‏

‏فیظهر منهم أنّه لابدّ أن یکون هناک شیء واحد تتمایز به العلوم بعضها عن‏‎ ‎‏بعض، وإنّما الاختلاف هو فی أنّه هذا أو ذاک.‏

وفیه : ‏أنّه لا یجب ولا یتحتّم تمایزها بأمرٍ واحدٍ، والعلوم کسائر موجودات‏‎ ‎‏العالم، فکما أنّه لا یُبحث مثلاً عن أنّه بِمَ امتاز الحجرُ عن الإنسان، والبقرُ عن الغنم،‏‎ ‎‏فکذلک العلوم لا تحتاج إلی البحث عن أنّه بِمَ امتاز بعضها عن بعضها الآخر، بل‏‎ ‎‏بعض العلوم ممتاز عن بعض بالموضوع، وبعضها بالمحمول، وبعضها بالموضوع‏‎ ‎‏والمحمول معاً، وبعضها ممتاز عن الآخر فی مرتبة الذات، کعلم الفقه والهیئة مثلاً.‏

‏ویُستفاد من «الکفایة» أنّ الملاک فی وحدة العلم مع تشتّت الموضوعات‏‎ ‎‏والعوارض هو وحدة الغرض منها، بأن یکون الغرض والمهمّ من هذه المسائل بأجمعها‏‎ ‎‏أمراً واحداً، فمع وحدة الغرض من مسائل متعدّدة، یتّحد العلم، وتعدّ جمیع تلک‏‎ ‎‏المسائل علماً واحداً، تُفرد بالتدوین وإن تشتّتت الموضوعات وکذلک المحمولات، وإذا‏‎ ‎‏تعدّدت الأغراض عُدَّ العلمُ مُتعدّداً بتعدّدها وإن اتّحدت الموضوعات؛ وذلک لوجهین :‏

أحدهما : ‏أنّه یُعتبر بین الأثر والمؤثِّر السِّنخیّة، وإلاّ لأثّر کلُّ شیءٍ فی کلِّ شیءٍ،‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 15
‏وحینئذٍ فلا یمکن أن یکون لعلم واحد أثران وغرضان، فإنّ الواحد لا یصدر منه إلاّ‏‎ ‎‏الواحد، ولایصدر الواحد إلاّ من الواحد، فتعدّد الغرض دلیل علی تعدّد العلم، ووحدته‏‎ ‎‏علی وحدته‏‎[2]‎‏ وهو المراد من قولهم : إنّ اختلاف العلوم إنّما هو بتمایُز الأغراض‏‎[3]‎‏.‏

وفیه : ‏أنّ اختلاف الأغراض ناش ومُسبَّب عن تعدّد العلوم فی مرتبة ذاتها؛‏‎ ‎‏لاستحالة وحدة العلوم فی مرحلة الذات وتعدّد الغرض علی مبناه ‏‏قدس سره‏‏.‏

والحاصل : ‏أنّ تعدُّد الأغراض ووحدتها مُسبّبان عن وحدة العلم وتعدّده فی‏‎ ‎‏مرتبة الذات، فمع تعدُّده فی مرتبة الذات لا تصل النوبة للقول : بأنّ تمایزه وتعدّده‏‎ ‎‏بالأغراض، فإنّه نظیر أن یقال : إنّ تمایُز الإنسان عن الحجر هو بالإنصات وعدمه.‏

ثانیهما : ‏أنّ من المسائل ما یُبحث عنها فی علمین، کالبحث عن صیغ العموم،‏‎ ‎‏وأنّ الألف واللاّم هل تفید العموم أو لا، فی علمی البیان والاُصول، فلو کان امتیاز‏‎ ‎‏العلوم بالموضوعات أو المحمولات لزم اتّحاد العلمین مع أنّهما متعدِّدان، فلابدَّ أن یکون‏‎ ‎‏امتیازها بالأغراض، وأنّ البحث فی مسائل مشترکة بین علمین أو أکثر فی کلٍّ منها‏‎ ‎‏لغرض غیر ما هو الغرض منها فی علم آخر‏‎[4]‎‏.‏

وفیه : ‏أنّ مجرّد إیراد مسألة واحدة فی علمین أو أکثر، والبحث عنها فیهما‏‎ ‎‏لا ینثلم به وحدتها، بل هی مسألة واحدة یُبحث عنها تارةً فی علم لغرض، کفهم‏‎ ‎‏خصوصیّات کلمات العرب، وفی علم آخر لغرضِ فهم خصوصیّات ألفاظ الکتاب‏‎ ‎‏والسنّة؛ لاستنباط الأحکام الشرعیّة، وإلاّ فالمسألة واحدة سواءً اتّحد الغرض منها‏‎ ‎‏أو تعدّد.‏

‏والوجه فی عدوله ‏‏قدس سره‏‏ عمّا ذکره القوم فی وجه امتیاز العلوم، هو ما ذکرهُ بقوله :‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 16
‏وإلاّ یلزم أن یکون کلّ باب ـ بل کلّ مسألة ـ من کلّ علم علماً علی حِدَة، کما هو‏‎ ‎‏واضح لمن له أدنی تأمّل، فالاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول لا یوجب تعدُّد‏‎ ‎‏العلوم، کما لا یوجب وحدتها وحدته‏‎[5]‎‏.‏

وفیه : ‏أنّه یمکن أن یعکس علیه الأمر.‏

توضیحه : ‏أنّه لو سلّمنا أنّه لابدّ لکل علم من موضوع یُبحث فیه عن‏‎ ‎‏عوارضه الذاتیّة، جامع لشتات موضوعات مسائله، وأنّ النسبة بینه وبین موضوعات‏‎ ‎‏مسائله هی نسبة الطبیعی إلی أفراده، وأغمضنا النظر عمّا أوردنا علیه نقول : ‏

إنّ مراد المشهور بقولهم : ‏إنّ تمایز العلوم بتمایز الموضوعات، هو موضوعات‏‎ ‎‏العلوم، لا موضوعات المسائل.‏

‏وأمّا موضوعات المسائل، فلها جهة اشتراک تتّحد فیها وتلک الجهة، کفعل‏‎ ‎‏المکلّف فی الفقه، والکلمة المستعدّة لعروض الحرکات علی آخرها فی النحو، أو‏‎ ‎‏المستعدّة لعروض الصحّة والاعتلال لذاتها فی علم الصرف، ونحو ذلک، وامتیازُها‏‎ ‎‏إنّما هو بالعوارض والخصوصیّات الشخصیّة، کامتیاز أفراد الإنسان بها مع اشتراکها‏‎ ‎‏فی الإنسانیّة.‏

وحینئذٍ : ‏فالقول بأنّ امتیاز العلوم إنّما هو بتمایز الموضوعات، لا یستلزم أن‏‎ ‎‏یکون کلّ باب أو کلّ مسألة من کلّ علم علماً علی حِدة، بل هو لازم للقول : بأن‏‎ ‎‏امتیاز العلوم إنّما هو بتمایز الأغراض، کما هو مذهبه ‏‏قدس سره‏‏؛ لما سبق من أنّ مسائل أغلب‏‎ ‎‏العلوم دُوِّنت تدریجاً وأنّ مسائل کلّ علم ـ کعلم النحو ابتداءً ـ کانت مُنحصرة فی عدّة‏‎ ‎‏قلیلة منها، ثمّ زِید علیها تدریجاً بمرور الدهور وکرور الأیام.‏

‏ویمکن اختلاف الأغراض فی مسائل علم واحد؛ بأنْ اخترع أحد مسألة لأخذ‏‎ ‎‏الجائزة، وبعض مسألة اُخری منه للتقرّب إلی الله ، وبعض مسألة اُخری للتقرّب إلی‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 17
‏السلطانِ أو الجاه والشهرة، وغیر ذلک من الأغراض الداعیة إلی ذلک، کما هو المشاهد‏‎ ‎‏بالعیان، ومع ذلک لا یلزم أن یکون العلم الواحد ـ المشتمل علی مسائل کثیرة، دُوِّنت‏‎ ‎‏کلّ واحدة منها لغرض غیرِ الغرض فی الآخر ـ علوماً مُتعدّدةً، کما هو لازم‏‎ ‎‏مذهبه ‏‏قدس سره‏‏: من أنّ تمایز العلوم بتمایز الأغراض، وهو کرٌّ علی ما فرَّ منه.‏

وأمّا قولهم : ‏الواحد لا یصدر إلاّ من الواحد‏‎[6]‎‏ فهو غیر مربوط بهذه المسائل،‏‎ ‎‏بل المُراد منه البسیط من جمیع الجهات.‏

‏ثمّ إنّ الإشکال الذی قدّمناه، ذکره المحقّق السبزواری فی «المنظومة» حیث ذکر‏‎ ‎‏ما حاصله : أنّه لو کان موضوع علم الفلسفة هو الموجود بما هو موجود، فهو وإنْ‏‎ ‎‏صحّ بالنسبة إلی بعض مسائله، کقولهم : الوجود واحد، والوجود بسیط، وغیر ذلک،‏‎ ‎‏لکنّه لا یصحّ بالنسبة إلی أکثر مسائله، بل جعل الوجود فیها محمولاً لا موضوعاً،‏‎ ‎‏کقولهم : الله تعالی موجود، والفلک موجود، والقمر موجود ونحو ذلک، فصار الوجود‏‎ ‎‏عرضاً لشیءٍ آخر.‏

ثمّ دفعه بقوله : ‏إنّ المراد من قولهم : الله تعالی موجود، والفلک موجود،‏‎ ‎‏ونحوهما ـ ممّا جعل الوجود فی القضیّة محمولاً ـ أنّ هذا الوجود هل یتعیَّن بالإلهیّة، أو‏‎ ‎‏الفلکیّة والقمریّة، أو لا، فیصیر الموجود موضوعاً فیها، فلا إشکال‏‎[7]‎‏.‏

وربّما یتوهّم : ‏جریان هذا الدفع لإشکالٍ فی المقام أیضاً بأن یقال : لو قلنا إنّ‏‎ ‎‏الموضوع لعلم الاُصول هو عنوان الحجّة فی الفقه‏‎[8]‎‏ فیرد علیه الإشکال بأنّه صحیح‏‎ ‎‏بالنسبة إلی قلیل من مسائله، ولا یصحّ بالنسبة إلی کثیرٍ من مسائله، مثل قولهم :‏‎ ‎‏خبر الواحد حجّة، والاستصحاب حجّة، ونحوهما ممّا جعل عنوان الحجّة فی القضیّة‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 18
‏محمولاً لا موضوعاً، بل الموضوعُ فیها شیءٌ آخر غیر أفراد الحجّة.‏

وحینئذٍ : ‏فلا یصحُّ جعل الحجّة موضوعاً لعلم الاُصول، فیدفع هذا الإشکال‏‎ ‎‏بما ذکره السبزواری ‏‏قدس سره‏‏ : بأنّ المراد من قولهم : خبرُ الواحد حجّة ونحوه، هل تتعیّن‏‎ ‎‏الحجّة بخبر الواحد أو الإجماع وغیره، أو لا ؟‏

وفیه : ‏مع عدم استقامة هذا الدفع فی الفلسفة، أنّه غیر مستقیم فی المقام أیضاً،‏‎ ‎‏ولا یحتاج إلی هذه التعسّفات والتأویلات البعیدة عن الأفهام؛ لعدم قیام دلیل علی أنّه‏‎ ‎‏لابدّ لکلّ علم من موضوع واحد، یتّحد مع موضوعات مسائله عیناً، وعدم الشاهد‏‎ ‎‏علی أنّه لابدّ أن یُبحث فی کلّ علم عن العوارض الذاتیّة لموضوعه؛ فإنّ الوجوب‏‎ ‎‏والحرمة ونحوهما ـ ممّا یُبحث عنها فی الفقه ـ لیست من العوارض الذاتیّة للصلاة‏‎ ‎‏والصوم ونحوهما، المُنتزعة عنها لذاتها أو لجزئها أو لأمرٍ مساوٍ لها أو أخصّ،‏‎ ‎‏المتّحدة معها خارجاً.‏

‏مع أنّ الخارج ظرف سقوط التکلیف لا ثبوته، بل الوجوب ونحوه من‏‎ ‎‏الأحکام الشرعیّة اُمور اعتباریّة اعتبرها الشارع تعالی، وتُعتبر عند أمر الشارع‏‎ ‎‏بشیءٍ أو زجره عن شیءٍ، وکذلک مسائل الفلسفة، فإنّ قولهم : شریک البارئ ممتنع‏‎[9]‎‎ ‎‏فی قوّة قولهم : شریک البارئ لیس بموجود البتّة، والسالبة المحصّلة عبارة عن الحکم‏‎ ‎‏بسلب النسبة علی التحقیق،لا نسبة السلب کمافی المعدولة،وسلب النسبة قد یصدق‏‎ ‎‏بانتفاء الموضوع.‏

وبالجملة : ‏المحمول فی هذه القضایا أمر عدمی، ویستحیل عروض الأمر‏‎ ‎‏العدمی علی شیءٍ آخر وجودی أو عَدَمی.‏

وأیضاً : ‏قد یکون بین موضوعات المسائل تباین کلّی أو تضادّ، وقد یکون‏‎ ‎‏الموضوع فی مسألة أمراً وجودیّاً، وفی الاُخری عدمیّاً، ومن الواضح استحالة وجود‏

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 19
‏جامع لشتات موضوعات هذه المسائل.‏

وعرفت أیضاً : ‏أنّ الحقّ أنّ المناط فی وحدة العلم هو وحدة مسائله سِنخاً،‏‎ ‎‏فالمسائل التی بینها وحدة سنخیّة، هی مسائل لعلم واحد، کمسائل علم الفقه، فإنّها‏‎ ‎‏مُمتازة بنفسها عن مسائل الفلسفة وغیرها، والجامع لشتاتها هو أنّ الجمیع تشترک فی‏‎ ‎‏أنّها حکم شرعی إلهی، ولا مجال للسؤال فی أنّه : لم لا یُکتب ولا یُبحث عن المسألة‏‎ ‎‏الفقهیّة فی الکتب الکلامیّة والفلسفیّة ونحوها، ولا تُذکر فی تلک العلوم ؟‏

نعم : ‏یمکن أن یُوجَّه ما ذکروه ـ من أنّ تمایز العلوم بتمایز الموضوعات وغیرها ـ ‏‎ ‎‏: بأنّ المراد ما هو القدر المشترک منها، الساری فی جمیع العلوم وبیان الکلّیّة، وما ذکره‏‎ ‎‏فی «الکفایة» بأنّ مراده : الامتیاز فی مقام الإثبات لا فی مقام الثبوت، وکلاهما کما‏‎ ‎‏تری فی غایة البُعد.‏

‏هذا کلّه فی بیان القاعدة الکلّیّة.‏

‏وأمّا فی خصوص علم الاُصول، فهو أیضاً کذلک لا یلزم أن یُبحث فیه عن‏‎ ‎‏العوارض الذاتیّة لموضوع واحد جامع لشتات موضوعات المسائل؛ لکن هل له‏‎ ‎‏موضوع کذلک بنحو الاتّفاق مع عدم لزومه، أو لا ؟ سیجیء الکلام فیه إن شاء‏‎ ‎‏الله تعالی.‏

‎ ‎

کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح‏ الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 20

  • )) أجود التقریرات 1 : 5 ـ 6، فوائد الاُصول 1 : 23، نهایة الدرایة 1 : 4، نهایة الاُصول 1 : 5 و8.
  • )) اُنظر کفایة الاُصول 21-22، نهایة الدرایة 1 : 8.
  • )) اُنظر نهایة الدرایة 1 : 8، ونهایة الأفکار 1 : 11.
  • )) نفس المصدر.
  • )) کفایة الاُصول : 22.
  • )) شرح المنظومة (قسم الفلسفة) : 132.
  • )) اُنظر المصدر السابق : 206.
  • )) اُنظر نهایة الاُصول : 12.
  • ))ـ الحکمة المتعالیة 1 : 158.