الأمر الثانی فی تمایز العلوم
اختلفوا فی أنّ تمایز العلوم هل هو بتمایز الموضوعات، أو بتمایز المحمولات، أو بتمایز الموضوعات المحیَّثة بالحیثیّة الفعلیّة، أو الاستعدادیة، أو غیر ذلک ؟
فیظهر منهم أنّه لابدّ أن یکون هناک شیء واحد تتمایز به العلوم بعضها عن بعض، وإنّما الاختلاف هو فی أنّه هذا أو ذاک.
وفیه : أنّه لا یجب ولا یتحتّم تمایزها بأمرٍ واحدٍ، والعلوم کسائر موجودات العالم، فکما أنّه لا یُبحث مثلاً عن أنّه بِمَ امتاز الحجرُ عن الإنسان، والبقرُ عن الغنم، فکذلک العلوم لا تحتاج إلی البحث عن أنّه بِمَ امتاز بعضها عن بعضها الآخر، بل بعض العلوم ممتاز عن بعض بالموضوع، وبعضها بالمحمول، وبعضها بالموضوع والمحمول معاً، وبعضها ممتاز عن الآخر فی مرتبة الذات، کعلم الفقه والهیئة مثلاً.
ویُستفاد من «الکفایة» أنّ الملاک فی وحدة العلم مع تشتّت الموضوعات والعوارض هو وحدة الغرض منها، بأن یکون الغرض والمهمّ من هذه المسائل بأجمعها أمراً واحداً، فمع وحدة الغرض من مسائل متعدّدة، یتّحد العلم، وتعدّ جمیع تلک المسائل علماً واحداً، تُفرد بالتدوین وإن تشتّتت الموضوعات وکذلک المحمولات، وإذا تعدّدت الأغراض عُدَّ العلمُ مُتعدّداً بتعدّدها وإن اتّحدت الموضوعات؛ وذلک لوجهین :
أحدهما : أنّه یُعتبر بین الأثر والمؤثِّر السِّنخیّة، وإلاّ لأثّر کلُّ شیءٍ فی کلِّ شیءٍ،
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 15
وحینئذٍ فلا یمکن أن یکون لعلم واحد أثران وغرضان، فإنّ الواحد لا یصدر منه إلاّ الواحد، ولایصدر الواحد إلاّ من الواحد، فتعدّد الغرض دلیل علی تعدّد العلم، ووحدته علی وحدته وهو المراد من قولهم : إنّ اختلاف العلوم إنّما هو بتمایُز الأغراض.
وفیه : أنّ اختلاف الأغراض ناش ومُسبَّب عن تعدّد العلوم فی مرتبة ذاتها؛ لاستحالة وحدة العلوم فی مرحلة الذات وتعدّد الغرض علی مبناه قدس سره.
والحاصل : أنّ تعدُّد الأغراض ووحدتها مُسبّبان عن وحدة العلم وتعدّده فی مرتبة الذات، فمع تعدُّده فی مرتبة الذات لا تصل النوبة للقول : بأنّ تمایزه وتعدّده بالأغراض، فإنّه نظیر أن یقال : إنّ تمایُز الإنسان عن الحجر هو بالإنصات وعدمه.
ثانیهما : أنّ من المسائل ما یُبحث عنها فی علمین، کالبحث عن صیغ العموم، وأنّ الألف واللاّم هل تفید العموم أو لا، فی علمی البیان والاُصول، فلو کان امتیاز العلوم بالموضوعات أو المحمولات لزم اتّحاد العلمین مع أنّهما متعدِّدان، فلابدَّ أن یکون امتیازها بالأغراض، وأنّ البحث فی مسائل مشترکة بین علمین أو أکثر فی کلٍّ منها لغرض غیر ما هو الغرض منها فی علم آخر.
وفیه : أنّ مجرّد إیراد مسألة واحدة فی علمین أو أکثر، والبحث عنها فیهما لا ینثلم به وحدتها، بل هی مسألة واحدة یُبحث عنها تارةً فی علم لغرض، کفهم خصوصیّات کلمات العرب، وفی علم آخر لغرضِ فهم خصوصیّات ألفاظ الکتاب والسنّة؛ لاستنباط الأحکام الشرعیّة، وإلاّ فالمسألة واحدة سواءً اتّحد الغرض منها أو تعدّد.
والوجه فی عدوله قدس سره عمّا ذکره القوم فی وجه امتیاز العلوم، هو ما ذکرهُ بقوله :
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 16
وإلاّ یلزم أن یکون کلّ باب ـ بل کلّ مسألة ـ من کلّ علم علماً علی حِدَة، کما هو واضح لمن له أدنی تأمّل، فالاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول لا یوجب تعدُّد العلوم، کما لا یوجب وحدتها وحدته.
وفیه : أنّه یمکن أن یعکس علیه الأمر.
توضیحه : أنّه لو سلّمنا أنّه لابدّ لکل علم من موضوع یُبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة، جامع لشتات موضوعات مسائله، وأنّ النسبة بینه وبین موضوعات مسائله هی نسبة الطبیعی إلی أفراده، وأغمضنا النظر عمّا أوردنا علیه نقول :
إنّ مراد المشهور بقولهم : إنّ تمایز العلوم بتمایز الموضوعات، هو موضوعات العلوم، لا موضوعات المسائل.
وأمّا موضوعات المسائل، فلها جهة اشتراک تتّحد فیها وتلک الجهة، کفعل المکلّف فی الفقه، والکلمة المستعدّة لعروض الحرکات علی آخرها فی النحو، أو المستعدّة لعروض الصحّة والاعتلال لذاتها فی علم الصرف، ونحو ذلک، وامتیازُها إنّما هو بالعوارض والخصوصیّات الشخصیّة، کامتیاز أفراد الإنسان بها مع اشتراکها فی الإنسانیّة.
وحینئذٍ : فالقول بأنّ امتیاز العلوم إنّما هو بتمایز الموضوعات، لا یستلزم أن یکون کلّ باب أو کلّ مسألة من کلّ علم علماً علی حِدة، بل هو لازم للقول : بأن امتیاز العلوم إنّما هو بتمایز الأغراض، کما هو مذهبه قدس سره؛ لما سبق من أنّ مسائل أغلب العلوم دُوِّنت تدریجاً وأنّ مسائل کلّ علم ـ کعلم النحو ابتداءً ـ کانت مُنحصرة فی عدّة قلیلة منها، ثمّ زِید علیها تدریجاً بمرور الدهور وکرور الأیام.
ویمکن اختلاف الأغراض فی مسائل علم واحد؛ بأنْ اخترع أحد مسألة لأخذ الجائزة، وبعض مسألة اُخری منه للتقرّب إلی الله ، وبعض مسألة اُخری للتقرّب إلی
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 17
السلطانِ أو الجاه والشهرة، وغیر ذلک من الأغراض الداعیة إلی ذلک، کما هو المشاهد بالعیان، ومع ذلک لا یلزم أن یکون العلم الواحد ـ المشتمل علی مسائل کثیرة، دُوِّنت کلّ واحدة منها لغرض غیرِ الغرض فی الآخر ـ علوماً مُتعدّدةً، کما هو لازم مذهبه قدس سره: من أنّ تمایز العلوم بتمایز الأغراض، وهو کرٌّ علی ما فرَّ منه.
وأمّا قولهم : الواحد لا یصدر إلاّ من الواحد فهو غیر مربوط بهذه المسائل، بل المُراد منه البسیط من جمیع الجهات.
ثمّ إنّ الإشکال الذی قدّمناه، ذکره المحقّق السبزواری فی «المنظومة» حیث ذکر ما حاصله : أنّه لو کان موضوع علم الفلسفة هو الموجود بما هو موجود، فهو وإنْ صحّ بالنسبة إلی بعض مسائله، کقولهم : الوجود واحد، والوجود بسیط، وغیر ذلک، لکنّه لا یصحّ بالنسبة إلی أکثر مسائله، بل جعل الوجود فیها محمولاً لا موضوعاً، کقولهم : الله تعالی موجود، والفلک موجود، والقمر موجود ونحو ذلک، فصار الوجود عرضاً لشیءٍ آخر.
ثمّ دفعه بقوله : إنّ المراد من قولهم : الله تعالی موجود، والفلک موجود، ونحوهما ـ ممّا جعل الوجود فی القضیّة محمولاً ـ أنّ هذا الوجود هل یتعیَّن بالإلهیّة، أو الفلکیّة والقمریّة، أو لا، فیصیر الموجود موضوعاً فیها، فلا إشکال.
وربّما یتوهّم : جریان هذا الدفع لإشکالٍ فی المقام أیضاً بأن یقال : لو قلنا إنّ الموضوع لعلم الاُصول هو عنوان الحجّة فی الفقه فیرد علیه الإشکال بأنّه صحیح بالنسبة إلی قلیل من مسائله، ولا یصحّ بالنسبة إلی کثیرٍ من مسائله، مثل قولهم : خبر الواحد حجّة، والاستصحاب حجّة، ونحوهما ممّا جعل عنوان الحجّة فی القضیّة
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 18
محمولاً لا موضوعاً، بل الموضوعُ فیها شیءٌ آخر غیر أفراد الحجّة.
وحینئذٍ : فلا یصحُّ جعل الحجّة موضوعاً لعلم الاُصول، فیدفع هذا الإشکال بما ذکره السبزواری قدس سره : بأنّ المراد من قولهم : خبرُ الواحد حجّة ونحوه، هل تتعیّن الحجّة بخبر الواحد أو الإجماع وغیره، أو لا ؟
وفیه : مع عدم استقامة هذا الدفع فی الفلسفة، أنّه غیر مستقیم فی المقام أیضاً، ولا یحتاج إلی هذه التعسّفات والتأویلات البعیدة عن الأفهام؛ لعدم قیام دلیل علی أنّه لابدّ لکلّ علم من موضوع واحد، یتّحد مع موضوعات مسائله عیناً، وعدم الشاهد علی أنّه لابدّ أن یُبحث فی کلّ علم عن العوارض الذاتیّة لموضوعه؛ فإنّ الوجوب والحرمة ونحوهما ـ ممّا یُبحث عنها فی الفقه ـ لیست من العوارض الذاتیّة للصلاة والصوم ونحوهما، المُنتزعة عنها لذاتها أو لجزئها أو لأمرٍ مساوٍ لها أو أخصّ، المتّحدة معها خارجاً.
مع أنّ الخارج ظرف سقوط التکلیف لا ثبوته، بل الوجوب ونحوه من الأحکام الشرعیّة اُمور اعتباریّة اعتبرها الشارع تعالی، وتُعتبر عند أمر الشارع بشیءٍ أو زجره عن شیءٍ، وکذلک مسائل الفلسفة، فإنّ قولهم : شریک البارئ ممتنع فی قوّة قولهم : شریک البارئ لیس بموجود البتّة، والسالبة المحصّلة عبارة عن الحکم بسلب النسبة علی التحقیق،لا نسبة السلب کمافی المعدولة،وسلب النسبة قد یصدق بانتفاء الموضوع.
وبالجملة : المحمول فی هذه القضایا أمر عدمی، ویستحیل عروض الأمر العدمی علی شیءٍ آخر وجودی أو عَدَمی.
وأیضاً : قد یکون بین موضوعات المسائل تباین کلّی أو تضادّ، وقد یکون الموضوع فی مسألة أمراً وجودیّاً، وفی الاُخری عدمیّاً، ومن الواضح استحالة وجود
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 19
جامع لشتات موضوعات هذه المسائل.
وعرفت أیضاً : أنّ الحقّ أنّ المناط فی وحدة العلم هو وحدة مسائله سِنخاً، فالمسائل التی بینها وحدة سنخیّة، هی مسائل لعلم واحد، کمسائل علم الفقه، فإنّها مُمتازة بنفسها عن مسائل الفلسفة وغیرها، والجامع لشتاتها هو أنّ الجمیع تشترک فی أنّها حکم شرعی إلهی، ولا مجال للسؤال فی أنّه : لم لا یُکتب ولا یُبحث عن المسألة الفقهیّة فی الکتب الکلامیّة والفلسفیّة ونحوها، ولا تُذکر فی تلک العلوم ؟
نعم : یمکن أن یُوجَّه ما ذکروه ـ من أنّ تمایز العلوم بتمایز الموضوعات وغیرها ـ : بأنّ المراد ما هو القدر المشترک منها، الساری فی جمیع العلوم وبیان الکلّیّة، وما ذکره فی «الکفایة» بأنّ مراده : الامتیاز فی مقام الإثبات لا فی مقام الثبوت، وکلاهما کما تری فی غایة البُعد.
هذا کلّه فی بیان القاعدة الکلّیّة.
وأمّا فی خصوص علم الاُصول، فهو أیضاً کذلک لا یلزم أن یُبحث فیه عن العوارض الذاتیّة لموضوع واحد جامع لشتات موضوعات المسائل؛ لکن هل له موضوع کذلک بنحو الاتّفاق مع عدم لزومه، أو لا ؟ سیجیء الکلام فیه إن شاء الله تعالی.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 20