الأمر الأوّل فی موضوع کل علم
کلّ علم عبارة عن عدة من القضایا دُوِّنت تدریجاً؛ لأغراض مُختلفة تشترکُ فی ترتّب بعض الفوائد علیها، فالأحکامُ التصدیقیّة من کلّ علم هو ذلک العلمُ بعینه، ولیس من العلوم ما دُوِّنت جمیع مسائله دفعةً واحدةً.
وربّما کانت الأغراض فی تدوین مسائل علم واحدٍ مُختلفة، کنیل الجائزة من السلطان، ونحوه من الأغراض الدنیویّة والاُخرویّة الداعیة إلی ذلک.
فعلم المنطق مثلاً عبارة عن عدّة من القضایا، دُوِّنت لأغراض مُختلفة مُشترکة فی ترتّب فائدة واحدة علیها؛ بحسب الاعتبار والسِّنخ، وهی حفظ الفکر عن الخطأ، فوحدة تلک الفائدة اعتباریّة لا حقیقیّة؛ لترکّبها من الموضوع والمحمول.
فظهر ممّا ذکرنا فساد ما یظهر من بعضهم: من أنّ الغرض من کُلِّ علم أمر واحد، وکأنّه التبس علیه الغرض بالفائدة المترتّبة علی مسائله، فإنّها کما عرفت واحدة.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 11
ثمّ إنّ القضایا المبحوث عنها فی العلوم، إمّا حقیقیّة کما فی غالب العلوم کالفقه؛ إذ الموضوع فی مسائله لیس خارجیّاً، ولیس المراد من قولهم فیه : «الخمرُ حرامٌ» هو الخمرُ الخارجی فقط، بل المرادُ کلّما وُجد خمر کان حراماً.
وإمّا خارجیّة، کما فی مسائل علم التأریخ والهیئة والجغرافیا ونحوها؛ فإنّ البحث فی الأوّل إنّما هو عن الموضوعات الخارجیّة المُعیّنة من الأنبیاء والسلاطین وغیرهم، وفی الثانی عن أحوال الأفلاک والنجوم وأوضاعها، وهی من الموجودات الخارجیّة، ولیس الموضوع فی مسائله کلّیّاً، بل هو هذا الفلک وذاک الکوکب ونحوهما، وفی الثالث عن أحوال البلاد والقُری الموجودة فی الخارج.
وقد یکون الموضوع فی علم شخصاً خارجیّاً واحداً حقیقیّاً، کعلم العرفان، فإنّ البحث فیه إنّما هو عن المبدأ البارئ تعالی شأ نُه.
وفی القسم الأوّل : قد یتّحد موضوع العلم مع موضوعات مسائله، کعلم الفلسفة الذی موضوعه الوجود، وموضوعات مسائله أیضاً الموجودات، وإنّما الفرق بینهما غالباً هو الفرق بین الطبیعی وأفراده.
وفی القسم الثانی : أیضاً قد یتّحد موضوع العلم مع موضوع بعض مسائله، وقد یکون موضوع المسألة فیه من أجزاء موضوع العلم، کالشمس، والقمر، ونحوهما ممّا هو موضوع المسألة فی علم الهیئة، وهما من أجزاء موضوع علم الهیئة، الذی هو مجموع الأفلاک والأرض.
وفی القسم الثالث : موضوعات المسائل هو موضوع ذلک العلم دائماً.
إذا عرفت هذا یظهر لک ما فی کلام بعضهم : من أنّ الفرق بین موضوع کلّ علم وبین موضوعات مسائله، هو الفرق بین الطبیعی وأفراده فإنّه بنحو الإطلاق ممنوع.
کما أنّ ما أفاده بعضهم : من أنّ موضوع کلّ علم هو ما یُبحث فیه عن عوارضه
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 12
الذاتیّة أیضاً غیرُ سدیدٍ، بل موضوع کلّ علم هو ما یُبحث فیه عن أحواله العُرفیّة، سواء کان عروضُها لنفسه أم لجزئه أم لأمرٍ خارج مساوٍ لهُ أم أعمّ أم أخصّ.
وانقدح ممّا ذکرناه : أنّه لا یتحتّم أن یکون لکلّ علم موضوع یُبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة، وإلاّ یلزم خروج أغلب مسائل العلم عن ذلک العلم؛ وأنّها ذکرت فیه استطراداً، کعلم الفقه، إذ لو فُرض أنّ موضوعه هو أفعالُ المکلّفین کما هو المعروف فهو وإن صحّ بالنسبة إلی بعض مسائله مثل قولهم : «الصلاة واجبة» و «الصوم واجب» ونحوهما، إلاّ أنّ أکثر مسائله لیست کذلک، کقولهم فیه : «الماء طاهر» و «العذرة نجسة» و «الکرّ کذا» وکمسائل الإرث والضمانات ونحوها، ممّا لا یُبحث فیها عن العوارض الذاتیّة لأفعال المُکلّفین، وکعلم الفلسفة، فإنّ ما ذکروه وإن صحّ فی بعض مسائله، کقولهم : «الوجود واحد» ونحوه، لکنّه لا یتمّ بالنسبة إلی أکثر مسائله، کمباحث الماهیّة التی هی من أهمّ مباحث الفلسفة، ومباحث الأعدام والمعاد ونحوها، ممّا لا یکون موضوع المسائل فیها أمراً وجودیّاً.
فدعوی أنّه لابدّ أن یکون لکل علم موضوع یُبحث فیه عن عوارضه الذاتیّة ممّا لم ینهض علیها دلیل من آیة أو روایة أو برهان بل الوجدان شاهد علی خلافها.
ثمّ إنّ القُدماء ذکروا أنّ العوارضَ الذاتیّة هی التی تُنتزع عن الذات بلا واسطة وحیث إنّه یستلزم خروج کثیر من مباحث کلّ علم عنه قالوا : إنّ العوارض الذاتیّة هی ما یعرض الشیءَ ولو بواسطة أمرٍ خارج مساوٍ له أو أخصّ منه.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 13
وهذه الدعوی أیضاً ممّا لا شاهد لها، ولم یقم علیها برهان.
فتلخّص : أنّه لا دلیل علی أنّۀ یتحتّمُ أن یکون لکلّ علم موضوعٌ یُبحث فیه عنه، ولعلّ هذا الذی ذکروه إنّما هو لبیان أقرب الطرق إلی الواقع.
کتابتنقیح الاصول (ج. ۱): تقریر ابحاث روح الله الموسوی الامام الخمینی (س)صفحه 14